يعود الفضل في تقديم أجمل تأويل لإشكال العلاقة بين الحلم والتّضحية في الإسلام إلى المتصوّف الأندلسيّ ابن عربيّ (القرن الثّاني عشر). فقد أدرج هذا الإشكال في إطار نظريّته عن "حضرة الخيال". انطلق ابن عربيّ من جواب الابن : "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" ليُخضع مسألة التّضحية بأكملها إلى رهان تأويل الحلم، فهو يقول : "والولد عين أبيه. فما رأى [الوالد] يذبح سوى نفسه."وفداه بذبح عظيم"فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد، بل بحكم ولد من هو عين الوالد." وهكذا، فإنّ موضوع الحرمان الذي يخضع إليه الأب من حيث ماهيّته، وعن طريق الابن، هو الطّفل. ولا شكّ أنّ هذا التّأويل الذي قدّمه ابن عربيّ يندرج في إطار تقليد عريق في التّصوّف يقوم على اعتبار "التّضحية الكبرى" تضحية بالنّفس. والنّفس هي la psyché، وهي الجزء الحيوانيّ الفاني من الرّوح، وهي التي تظهر في صورة الحمل الوديع المقدّم قربانا، وعلى هذا النّحو يسلم الغنوصيّ نفسه إلى الفناء في الإلهيّ. إلاّ أنّ طرافة ابن عربيّ تكمن في النّظريّة التي قدّمها في "الفصّ" المتعلّق بإسحاق. فهي من أرقى وألطف النّظريّات المؤوّلة للحلم المتعلّق بما يعتمل في الأب من شوق إلى قتل الطّفل، وللمرور من الفعل الخياليّ إلى الواقع :
لا يتوقف هذا النقد القاسي عند مستوى ذم ورفض ولوم وإنكار ممارسات هؤلاء الأغنياء الفاسدين القساة الذين لا يكفون عن استفزاز الفقراء والبسطاء إذ يستعرضون غناهم ويتباهون بما يمتلكون متخايلين بعزهم الزائل، ولا يعرفون الكرم الحقيقيّ أو الإيثار الجميل اللذين هما تقوى الله، والالتزام الجاد بشرائعه السماوية، فحسب، بل تتصاعد نغمة العنف النصي التخيلي في اتجاه التهديد المباشر لهؤلاء الأغنياء بالهلاك والعقاب الإلهي الرادع في هذه الدنيا، ذلك أن الله ما أهلك قوما جزاء سوء فعالهم وعصيانهم إياه بقدر ما فعل بهؤلاء الذين يهينون الفقراء ويذلوهم. ولا يكتفي الوعي النصي بعقاب الدنيا، ولكنه يضيف الوعيد الضمني إذ تغدو الجنة للفقراء والمساكين، وهم وحدهم جلساء الحق يوم القيامة، أما الأغنياء، فهم فيما روى عن النبيّ (ص) ، أنه قال : "يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام" بل إن الأغنياء الذين يرتعدون فرقا من فقد ما لديهم، وهؤلاء العباد الدنيويين الذين تهجس قلوبهم بخوف الفقر والفزع من الفاقة هم أسباب فرح الشيطان وجنوده ، بل سر سعادتهم القصوى. ذلك إن افتقار هؤلاء للدنيا، وما فيها، ورعبهم من فقد مباهجها أو إصابتهم بالفقر فيها، هو انشغال بها وبمكاسبها المادية عن خالقها وبارئها الحيّ القيوم، الواحد الأحد، فكأنما يشركون به، ويعبدون معه آلهة أخرى هي مخلوقاته الفانية، وليس من فعل يحقق للشيطان سعادته المفرطة كالكفر والإشراك بالله. ويصدر المشهد النصي حالة من الازدراء والاحتقار والتعالي على الأغنياء الذين لا تعد مجالستهم شرفا، بل على العكس من ذلك تماما، إذ تورث مجالسة الأغنياء الأسى والضيق والنفور، وينتفي داخلها الأنس والألفة والحوار والأمن والطمأنينة والدعة والراحة... الخ، حتى إن أبا الدرداء، فيما يخبرنا النص، تمنى لو أنه وقع من فوق قصر وتحطم على أن يجالس أحد الأغنياء، لأن الرسول نهي عن مجالسة الموتى، والأغنياء كالموتى الأحياء. والموت هنا ليس هو موت أبي الدرداء لو وقع من فوق القصر، أى أنه لا يحمل الدلالات الإيجابية التي يحملها عادة في التصور الصوفي بوصفه معبرا للآخرة ورؤية الحبيب، لكنه يحمل طابعا سلبيا منفرا، وربما مقززا في بعض الأحيان. بعبارة أخرى، فإن مجالسة الغنى، الميت الحي، أشبه بمجالسة جسد يمارس كل أشكال الوجود، لكنه بارد شاحب، فاقد لوهج الحياة ودفئها وحضورها الدافق المتجلي ببديع الفعل والقدرة الإلهية، أنه حضور ثقيل الوطأة يجسد ظلمة الغياب، غياب المعنى، وفقد زهو الروح ووهجها الحيويّ. وربما تغدو مجالسة هذا الكيان الجثة، أشبه بمجالسة جيفة منتنة، تفوح منها رائحة العفن المنفرة، ويستنشق جليسها ريح العدم المهلكة، بل يستشعر في جوفه مذاق التراب، ويرى حتمية المصير المؤسي، وقد تكشفت عبر تجليها الأشد قبحا وسلبا وقسوة في مرايا الموت بوصفه غيابا قاهرا لا يستكن برونق الحضور الأكثر وضاءة وجمالا وحرية، ألا وهو حضور الروح المترعة بعبق الخلود، وقد ارتوت بإكسير التقوى، وارتشفت رحيق الافتقار الرائق للإله وحده دون سواه. وحين يغيب وهج الروح تنفتح الهوة المظلمة للموت، وتكشف عن عمقها الكابوسي، وينتفي الوجه المشرق للنهاية بوصفها معبرا لعالم النور، وتتقلص احتمالات الوعد الأخروي بالخلود ورؤية الحق، ولا يتبقى، إلا صدمة المواجهة المرعبة، وحدة الانتباه القاسية، والعظة والاعتبار للجليس المراقب الذي تستنفده وحشة الجلوس في حضرة الغنى، الميت الحيّ. هكذا ينفي النص لا المشروعية الاجتماعية والأخلاقية والدينية لهؤلاء الأغنياء فحسب، بل أنه يكاد يقوض احتمالات الوعد الأخرويّ، ويحصر الغنيّ الفاسد القاسي في لحظة العدم، ويجعله أسير الموت سالبا إياه طاقة الحياة الروحية الخالدة، دنيا وآخرة !! وحتى حينما يدرج النص حديث النبيّ (ص) سالف الذكر، حول دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء الصالحين، إن وجدوا، بخمسمائة عام، فإن هذا التأخير في نيل الثواب الأخرويّ لهؤلاء لا يقل سلبا عما سبق!! ولنلاحظ أن جذر المسألة لم يعد مرتبطا بفساد الأغنياء أو ظلمهم أو قسوتهم على الفقراء، بقدر ما غدا منوطا بفكرة الغنى ذاتها. إن ما يثير الانتباه هنا، ليس البعد النقدي للخطاب ضد الأغنياء وممارساتهم، لكنه ذلك المنظور السلبيّ، بل القسوة النقضية التدميرية، والتي تبلغ ذروة تجليها المدهش في نقض القيم والأفكار والتصورات السائدة في المخيلة الجماعية حول قيمة الغنى، اجتماعيا وأخلاقيا ودينيا... الخ، وطبيعة ارتباط هذه القيمة بالنبالة والشرف والكرم والجود والسعادة والعز والأبهة والسلطة... الخ. وربما كان المشهد النصي الماثل أمامنا يسعى حثيثا لإعادة طرح السؤال مجددا حول معايير التفاضل الإنساني والشرف الاجتماعي المتداولة في المجتمع الإسلامي الوسيط، وعلى رأسها الغنى وسطوة المال النافذة، كي ما يفقدها بريقها الأخاذ الزائف، ويكشف عن مدى هشاشتها، ناقضا علاقات التلازم العلى، والتناسب الطردي بين هذه المعايير الوهمية، وبعضها البعض، فيما يتصور العامة من الناس، ناهيك عن الأغنياء أنفسهم الذين وقعوا في فخ مخايلة الغنى الآسرة.