ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَراً … ومصادفةً أَن أَرى قمراً شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! (محمود درويش) كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟ ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
«الجسد لا يكذب أبدا.» * مارثا جراهام راقصة و مصممة رقصات .(1894 – 1991) « أيها الخداع ، يا جسدي» * سنية صالح شاعرة و كاتبة (1935- 1985) خلال الكتابة ،لا يبقى من الجسد سوى يدين ( علينا أن نقارن بين الأدب الذي كتب بيد واحدة ، و ذاك الذي كتب و مازال يكتب بيدين ) وعينين ، تشردان عن العالم الخارجي و تتتراجعان خلف الجسد تماما أو على مقربة منه أو أعلاه ، لتريا الكلمات . إضافة إلى ذلك، يمكن عند الكتابة تحريك القدمين ، أسفل المكتب ، أو هرش الشعر ،و في حالة كتابة تقتضي التدخين ، كما في حالتي ، تصير السيجارة، عضوا من الجسد الذي يكتب . عند الكتابة تتآزر كل من منطقة فيرنيك و منطقة بروكا في الدماغ لتركيب الجمل و التعبير في النهاية عما يخالج كاتبة أو كاتبا يحتمي خلف كيس رمل اسمه الجسد ، من وديان و صخور و براكين و أشجار و حقول أشواك تكتنفها بعض الأزهار وبعض الجثت . كل شعور يجعل الجسد يرمي الفحم المناسب له، لتحريك القطار البخاري للتعبير. خلال الكتابة ، تكشر النفس عن لغتها ، فيما الجسد يتحول إلى كائن أليف ينظر بعينيه البريئتين إلى هطول الكلمات من سماء لا يراها . الجسد ، في بدايته هو علاقة بحد ذاته . علاقة أسطورية ، تحدث في الخفاء عن أعين العالم ، بين نطفة منوية ذكورية( أتجنب كلمة حيوان منوي كي أكمل الكتابة ) ، و بويضة أنثوية . علاقة ستقود إلى وجود صغير مخصب ، ثم البقية تعرفونها . جسد صغير لرائد فضاء في محطة فضائية . عند الولادة ، نولد كلنا بعيون زرقاء ، هذا ما يقوله العلم ،أما الشعر فيقول ، أنه انطلاقا من هذه المعلومة الأكيدة ، فالسماء زرقاء لأننا ننظر إليها بزرقة عيوننا الضائعة . جسدي الصغير ، بعد أن كبر قليلا ، كان مختلفا عن سابقيه من إخوتي . شعري كان مائلا إلى الحمرة ، فضاعت لتصير شقرة ضاعت بدورها لتستقر في ما يقترب من الأسود . قامتي فاقت الحد المنتظر، و كان جليا أني بسبب هذه القامة ، سأعاني مثل شجرة على رصيف. جسدي الصغير سيتبلور ،لأسبابه الداخلية المعروفة و لأسباب خارجية كان عليه التصرف إزاءها ، مثل ان يعاقب بجمال الحياة و الجدران و بأحجار صغيرة و بكلمات كانت لها أظافر . جسدي الصغير انكمش إلى وجه . لقد بدأ يبتعد عن روحي . لذلك كان علي أتمنى أن يكبر بسرعة ، كي أدافع عنه ، كي أدلي به عند الحاجة . لجأت إلى الفراشات لأطعم خدي بأجنحتها و لجأت إلى الأحلام بلاهوادة في النهار كما في الليل إلى أن حدث الأمر . أخيرا أزهر جسدي و فاح منه الثلج . أحدث جسدي ثورة . ووجهي أخذ حصة الأسد من الرعاية . في ثورتي العاطفية كان لا بد أن أحمل وجهي كلافتة في مظاهرة مطالبا بحقوقي الرومانسية . كانت الثورة ضد كل شيء من أجل نيل القبلة الأولى من فم في جسد المرأة. هذه الأخيرة كان جسدي يفرز النجوم من جلده كلما رآها أما كلما لمسها ، فإنه كان يتحول إلى سلسلة أمواج متتابعة . بعد أن كان في بدايته علاقة ، هاهو الجسد ،يصير مكتب علاقات عامة . علاقة وطيدة مع الزمن . مع المجتمع و الطبيعة . مع الأحلام و الثياب و الأحذية و العطور و التراث و الحداثة . مع الله و مع الروح . مع الكراسي و الشوارع . مع ما يتحرك و ما لا يبرح مكانه . مع ما ينتهي ومع ما لم يبدأ بعد . مع الصعود و الهبوط . مع أول نجمة في المساء و مع آخر سرب من الطيور .مع نفسه و معي . كنت في جسدي مثل كنغر صغير في جراب أمه . و أحيانا أكون الطفل فيه ، و تارة أكون الأب فيه وتارة اخرى أكون أمه . صلى جسدي كما أن الخمر لعبت به . تصبب بالعرق و الدموع و شوه الضحك ملامح وجهه كما لم يفته و هو يسمع أغنية أن يرقص قليلا ثم يستأنف صمته الجدي . لكن أفضل وضع كان دائما أن أكون داخله الشاعر . الجسد هو الجسد ، له وتيرته ، ومزاجه و أمراضه و غيبوبته . لم أهتم كثيرا بجسدي وتركته في مهب الزمن . لم أعد أرى ركبتي إلا لماما و الأحذية كانت من تذكرني بقدمي . تهتكت المعدة و كانت نقطة الضعف التي لازمتني طوال سنين . تفحمت الأسنان وكاد يتفحم معها الدماغ لولا أن الشعر أنقذ ماء الوجه . التفت أخيرا إليه ، و بدا لي أني يجب أن أوليه بالرياضة و التغذية الجيدة ففعلت ذلك و ابتعدت عن التدخين لعام ونصف . لقد عاد الدم إليه و عادت معه سعادة ان تكون روحك مثل الوردة داخل مزهرية متينة و نظيفة . كانت إحدى المراحل التي عاش فيها جسدي أزهى أيامه مع روحي . لأسباب ما ، سيعود جسدي إلى عوائه . و سيغيب مجددا بعد ان كان وضح تماما . سيعود ليندثر و يصير مثل رمح تحمل رأسا مقطوعة . لم يعد يهم شيء سوى أن أعود إلى جسدي بكتابة الشعر . أن أدخل إليه ، و أتذكر ، و أنظر و أعود إلى بدايته و أستل من وجهي أجنحة الفراشات ،كاشفا بذلك عن طفولة قديمة . بالشعر أمكنني أن أرى ظهري دونما مرآة و أرى جسدي كله جرحا بليغا في كاحل الحياة . كما نولد، إثر التقاء نطفة منوية مع بويضة في رحم ،و تصير لنا بعد ذلك أجساد ، كذلك يولد الفن ، إثر التقاء بويضة أنثوية من الأنيما بنطفة ذكورية من الأنيموس في رحم الخيال . يبقى فقط على الكاتب و الكاتبة مهمة التخصيب بالمشاعر و الأفكار و ترك مهمة التجسيد للكتابة نفسها و وضع اسميهما كهامش . * شاعر. المغرب