ليس هذا الكتاب (الصحوة: النفوذ اليهودي في الولاياتالمتحدةالأمريكية) مجرد سيرة ذاتية ساحرة لشخص مثير للجدل جداً، بل هو كتاب يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر الحديث بأمانة فائقة. ليس كتاب ديفيد ديوك (الصحوة) لضعاف القلوب، أو لأولئك المعتدّين بنظم معتقداتهم، بل لأولئك الذين لا يخشون من أن تحفزهم الحقائق والأفكار التي ربما تضع المعتقدات الراسخة موضع تساؤل. إنه كتاب ثوري تطوري ربما (يهز الحضارة من الأعماق) كما يقول غليد ويتني (Glade Whitney) العالم البارز في علم الوراثة السلوكي. يكرس ديفيد ديوك معظم كتابه لوجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية والتطورية، ولكنه حكاية مثيرة لرجل عرف بوصفه صورة كاريكاتورية رسمتها له وسائل الإعلام المعادية.
في كتابه "الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة والإمبريالية" (1997)، يشير المؤرخ الأميركي شلدون واتس، إلى تلك المواجهة الطويلة حول جدوى الحجر الصحي في حصار الأوبئة، بين "كلوت بك"، الطبيب الفرنسي الذي يعتبره الكثيرون مؤسس الطب الحديث في مصر، وبين ولي نعمته، محمد علي. فإيمان مؤسس الأسرة العلوية بمعايير الحجر الصحي الصارمة، وهوسه بتطبيقها، عارضها كلوت بيك الذي لم يكن مقتنعاً بالإساس بأن أمراضاً كالكوليرا والطاعون تنتقل بالعدوى. لكن تطبيق إجراءات الكرنتينا" بحزم لم يكن فقط على الضد من قناعات أكبر موظف أوروبي في قطاع الصحة حينها، بل جاء أيضاً على الرغم من ضغوط السفير البريطاني في إستنبول، والذي رأت بلاده أن إجراءات الحجر كان مبالغاً فيها، وأن لها تأثيراً ضاراً في التجارة الخارجية ومصالح الدول الأوروبية. يستخدم واتس، تلك المواجهة لتدعيم أطروحة كتابه الأساسية، أي تفنيد السردية الكولونيالية، التي تدعي إنقاذ الطب الأوروبي والإدارة الإمبريالية لشعوب الجنوب من الأوبئة الفتاكة والأمراض المتوطنة. فبحسب كتاب "الأوبئة والتاريخ"، فإن الإدارة الطبية الكولونيالية، كانت لها تأثيرات إيجابية هامشية في الصحة العامة في المجتمعات المستعمرة، وفي أحيان كثيرة كان أثرها مدمراً ونتائجها فادحة. يجسد كلوت بك، في تلك السردية، الطبيب والإداري الأوروبي، الذي يحمل قناعات علمية بخصوص الصحة العامة، ذات تبعات كارثية، أما محمد علي وقناعته الصحية بالحجر الصحي، فيمثل المعرفة المحلية المؤسسة على تاريخ طويل من ممارسة المجتمعات الإسلامية ومعارفها. يعود المؤرخ المصري، خالد فهمي، في كتابة "السعي للعدالة: الشريعة والطب الجنائي في مصر الحديثة" (بالإنكليزية، منشورات جامعة كاليفورنيا، 2018)، وبشكل غير تفصيلي، إلى ذكر مسألة الحجر الصحي بين محمد علي وكلوت بك. لكن أغراض فهمي تبدو مختلفة تماماً، بل وربما على الضد من أغراض واتس. ففهمي لا ينطلق من منهجية ما بعد كولونيالية، بل يرى أن مفهوم الطب الإمبريالي، غير صالح للتطبيق في مصر بالأساس. فالطب الغربي بحسبه لم يُفرض في مصر، من قبل قوى غربية خارجية ولا من قبل إدارة استعمارية، بل كان جزءاً من مشروع محمد علي الطموح لبناء جيش قوي لتوطيد حكم أسرته. وفي سبيل تدعيم فكرته، فإن فهمي، ومع اتفاقه مع الكثير من أطروحات تيموثي ميتشيل، المتعلقة بتأسيس الدولة الحديثة في مصر، فإنه يعارض لفظة "الاستعمار" في عنوان كتاب ميتشيل المرجعي "استعمار مصر". هكذا يرفض فهمي قراءة التاريخ المصري الحديث بعين "ما بعد كولونيالية". يفند فهمي أيضاً مرجعيات تيار أكاديمي، يعتمد على نموذج الهند كأساس لتحليل تاريخ الحداثة في مصر، وبالأخص تاريخ الطب. فبالإضافة إلى اختلافات كثيرة وجذرية بين النموذجين، فإن إقرار اللغة العربية، كلغة التدريس في أول مدرسة للطب في مصر، كان قد منح المصريين ميزة تفضيلية، حتى فوق الأرستقراطية التركية، وساهم في توطين الطب الحديث، واستيعابه بوصفه ممارسة محلية.