بالنسبة لخبير الدراسات الإسلامية، نصر حامد أبو زيد، لا يصح تفسير القرآن إلا في ضوء الأحداث التي واكبت انتشار الإسلام في فترة حياة النبي. و هو يؤكد أن الإسلام كعقيدة دينية يحمل آثار الحقبة التي تأسس فيها و شهدت عمل الفقهاء. ولقد أثار دفاع أبو زيد عن هذه الأطروحة في كتاباته أن أستقبل منذ عام 1993 بعداء المتشددين دينياً داخل المؤسسة الأكاديمية بالقاهرة. و لقد استتبع ذلك العداء حرمانه من الحصول على درجة الأستاذية. ثم ما لبث أن امتد ذلك العداء خارج أسوار الجامعة، عبر دعوى قضائية للتفريق بينه و بين زوجه، تحت ذريعة إعلانه الردة. – أنت تناصر تفسيراً غير حرفي للقرآن، وتدعو إلى الاقتصار في الأخذ منه على القيم الأساسية. ولكن لو طبقنا ما تدعو إليه فما الذي سيتبقى من خصوصية مميِزة للإسلام دون سواه من الأديان أو النظم الأخلاقية؟ – ثمة مفكرون يميزون داخل القرآن ما بين جوانب أساسية وأخرى ثانوية أو هامشية. أنا لست من هؤلاء. فما أدعو إليه هو تأويل هذا النص- وسائر النصوص الدينية التأسيسية- مع الأخذ بالسياق التاريخي في الاعتبار. وتستند تلك العملية إلى مفهوم محدد لماهية الوحي. فالوحي يعد بالأساس عملية اتصال، و هو اتصال يتم غالباً بصورة غير شفهية. وهذا هو المعنى العام للوحي كما جاء في القرآن. وبذلك يكون للعنصر البشري أهميته اللازمة لتمام تلك العملية. وفي تاريخ الدين الإسلامي، تم إيلاء كل الأهمية للجانب الإلهي في هذا الاتصال، وذلك على حساب البعد الإنساني. لذا، فالأمر لا يتعلق بالتمييز بين تفسير حرفي وآخر أقل التزاما بالحرف، وإنما هو مرتبط بإدراج مجمل الظاهرة (القرآنية، المحرر) داخل سياقها التاريخي. وذلك هو ما يتيح لنا إدراك طبيعة الاتصال بين لله والبشر المقصودين بالخطاب.إذ علينا ألا نغفل أن القرآن لا يقتصر على مخاطبة النبي وحده، بل هو أيضاً يخاطب مشركي قريش، والمسلمين، والنصارى، واليهود، الخ… وإن لذلك التعدد في الأطراف المتلقية، إلى جانب عناصر أخرى، الأثر في كون النص القرآني نصاً موفور الثراء، ومتعدد الأبعاد، ومن التعقيد بمكان، مما يجعل التفسير الحرفي وغير الحرفي على حد سواء يبدوان لنا على درجة كبيرة من التبسيط والسذاجة. هذا وإن إدراج الخطاب الذي يتضمنه هذا النص داخل سياقه التاريخي لا يعني استبعاد هذا الجزء منه أو ذاك. وتلك مطية الدعاية التي يعتمدها خصوم هذا المنهج. إذ يجدر الامتناع عن الخلط بين الإسلام والقرآن. فالإسلام غير القرآن. فهو عنوان حقبة تاريخية تلت نزول الوحي. وبطبيعة الحال، بمثل ما للإلمام بعصر ما قبل الإسلام من أهمية لفهم القرآن، تجدر أيضاً معرفة كيف كانت الأجيال القديمة تفهمه و تفسره. ولكن الأجدر بالأهمية هنا هو أن يتم إبصار النص عبر منظار تاريخي. فالإسلام الذي حمله العرب عند خروجهم من الجزيرة العربية (إبان الفتوحات الإسلامية) كان أشبه ما يكون بالجنين الذي تخلَّق منه الدين، فكان يضم الإيمان بوحدانية الإله، وبعضاً من المبادئ الأخلاقية الأساسية، الخ. لكن الإسلام ما انتهى إلى الشكل الذي هو عليه اليوم إلا نتيجةً للتفاعل الذي تم بين ذلك الجنين وحضارات البلدان التي انتشر بها. – أنت تؤكد أنه بعد الفيلسوف العربي الأندلسي ابن رشد(1126-1198)، أصيب الفكر الإسلامي بالتصلب. فهل يعني ذلك أن حركات الإصلاح الديني التي ظهرت في العالم الإسلامي منذ نهاية القرن التاسع عشر، مثل تلك التي قادها محمد عبده في مصر، لم تفلح في إحياء هذا الفكر؟ – بل كانت بالفعل تيارات إحياء. وكان الإحياء وقتئذ تياراً شاملاً، إذ لحق بمجالات أخرى، مثل الأدب، على سبيل المثال. فكل من محمد عبده وجمال الدين الأفغاني كانا مهتميْن بقضايا أعم وأشمل من المسائل الدينية البحتة، مثل قضايا التحرر الوطني، و مكافحة الاستبداد… ومن هذا المنطلق، يسعنا أن نطلق على ذلك العصر اسم "عصر النهضة". وحين أتكلم عن "تصلب الفكر الإسلامي" فأنا أعني أن ذلك الفكر قد فقد حيويته. وكانت تلك الحيوية تتبدى عبر تعدد كبير في المدارس الفقهية والشرعية، الخ. وثمة مجالات فكرية وروحانية قد شهدت تلك الحيوية المتدفقة ذاتها، كالفلسفة، بمدارسها المتعددة (الأفلاطونية الجديدة، الخ)، والصوفية بمختلف طقوسها، الخ. فذلك العصر، الذي درج على وصفه بالحضارة العربية الإسلامية، قد بدأ في الأفول بعد ابن رشد. وأنا لا أقول إن تلك التيارات الإصلاحية التي ولدت مع نهاية القرن التاسع عشر لم تضف شيئاً (إلى الفكر الإسلامي)، فالعطاء الذي قدمه محمد عبده، مثلاً، كان عطاءً جليلاً. لكن السؤال الذي يفرض نفسه ههنا هو: لماذا لم يترجم فكر هؤلاء المفكرين الإصلاحيين إلى أفعال ووقائع؟ والإجابة تكمن في طبيعة الأنظمة السياسية، وفي علاقة النخب الفكرية بهذه الأنظمة، وفي الحقبة الاستعمارية وإرثها، الخ، باختصار، في الوضع الكلي الذي ساد في البلدان الإسلامية خلال تلك الحقبة. بسبب ذلك الوضع لم يتمكن الفكر الإصلاحي الذي تتحدث عنه من أن يجد تربة خصبة وأن يحدث تغييراً اجتماعياً. – فما هي نقطة ضعف ذلك الفكر الإصلاحي؟ – إن أوروبا، التي كانت بلا جدال قارة متقدمة، والتي جاء تقدمها نتيجة لحركة إصلاح ديني، وحركة فلسفية كتيار التنوير، وثورة علمية كبرى، الخ، أوروبا تلك هي نفسها التي كانت تحتل أرضنا وتحرمنا من حريتنا. وهنا مفارقة أساسية لم يستطع ذلك الفكر الإصلاحي حل التباسها. ويرجع ذلك إلى أن ذلك الفكر كان ينظر إلى أوروبا ككيان ثابت لا كثمرة لحركة التاريخ. فقد أسهمت فلسفة التنوير أيضاً، على سبيل المثال، في المد الاستعماري، فبالنسبة لكثير من فلاسفة ذلك التيار كان العقل الذي يستندون إليه هو "عقل الرجل الأبيض"، المنوط به مهمة قيادة الشعوب المتأخرة! هذا وكان الفكر الإصلاحي الذي تتحدث عنه معرضاً لضغوط أخرى. فلقد كان عليه أن يجد للحداثة مبررا يستند إليه من داخل التراث الديني! ومن هنا نشأت ثنائية التجديد من جهة، والتراث من جهة أخرى. فكان المفكرون التقدميون، مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، يسعون إلى تحديث التراث. والتراث، كما نرى، ظل هو المرجعية الأولى وكان الإصلاح مقتصراً على تحديثه فقط. ثم كانت أسلمة الحداثة بدلا من تحديث التراث الإسلامي: وكان ذلك هو المقترح الذي تقدم به الجيل التالي من المفكرين. وقد تخلَّق ذلك المقترح في ظروف مختلفة، منها على وجه الخصوص، اختفاء الخلافة العثمانية، الذي يعد حدثاً تاريخياً جللاً. ويمكن أن نذكر ضمن مفكري ذلك الجيل الثاني الإخوان المسلمين الأوائل فضلاً عن سلفهم المصري رشيد رضا(1865-1935). ولقد تحولت معهم ثنائية الأصالة والتجديد إلى قضية مرتبطة بالهوية.