هناك واقع موضوعي يجعل من الجهوية مشروعا قيد التحقق، أكثر منه منجزا ميدانيا وعمليا، ومن ذلك كون أدوات العمل الضرورية للجهوية، لم تعرف الانجاز على مستوى واسع، من قبيل المخطط الجهوي لإعداد التراب، المعروف اختصارا بالصراط “srat “، ففي الوقت الراهن هناك ثلاث جهات ممن توفرت عليه، مقابل جهات أخرى في طور إنجاز الدراسات حوله، وهو موضوع حيوي في تنزيل الورش الجهوي، بل كان من المفروض أن يكون قاعدة انطلاقها، باعتبار أنه شرط من شروط إنجاز المخطط الجهوي للتنمية. هذه المعطيات الموضوعية تضاف إلى التأخر في تفعيل الاتفاق الرمزي، العقد البرنامج الذي تم توقيعه في الندوة الوطنية بأكادير، في إشارة رمزية إلى استحضاره والعمل به.. ولعل الفرصة لم تسنح، طوال هذه المدة، في العودة إليه بشكل يجعل التفعيل مسألة أولوية، اللهم إلا من اجتماع يتيم، حسب علمنا، تم بهذا الخصوص… والشيء المؤكد، هو أن العوامل المترتبة عن الجائحة ستضرب الجهات، كتابع منطقي لما سيتعرض له الوطن كله، والأزمات التي ستولد من الأزمة الأم حاليا، الأزمة الصحية يعني، ستقوض هذا الدور وستعطي أيضا مناسبة للعودة إلى ورش الجهوية. ماذا سيكون الأمر عليه عندما يتقرر وضع قانون مالية تعديلي، كما تم الإعلان عنه من طرف رئيس الحكومة، ثم وزير المالية أمام ممثلي الأمة، والذي كنا قد تحدثنا عنه في أول أيام الوباء قبل أن يصبح جائحة.. المعروف أن الجزء الكبير من ميزانية الجهات، إلى حدود تسعين في المئة وأكثر، تتأتى من التحويلات التي تقوم بها الدولة لمستحقات الجهات من الضريبة والجباية العمومية (الضريبة على الدخل، وعلى الشركات، والقيمة المضافة… إلخ)، ويتضح، علاوة على ما سبق أن ما يطرحه قانون المالية التعديلي، سيكون اختبارا آخر عن أي التأويلين سيفرض نفسه: المركزي الممركز أو الجهوي. وبالواضح، فقد تميل السلطات المركزية إلى اتخاذ الشرط العام للجائحة، كمدخل في تقليص حقوق الجهات من مستخلصات تقوم الدولة بتحصيلها. وأول المعارك ربما ستكون معركة التسمية: هل هي موارد الدولة لفائدة الجهات، أم هي موارد الجهات، تحصلها الدولة باعتبارها الجابي الوطني الكبير، والخازن الوطني المؤسساتي الأول؟ قد يبدو الأمر هينا لكنه سيعكس في العمق، قلب السؤال المطروح، وقد تقلص السلطات المالية والوصية المركزة من حقوق الجهات، باعتبار ذلك شكلا من أشكال التدبير الضروري للخروج من الخصاص الوطني العام.. 1 – أحد أشكال التأثير المباشر، هو إعادة النظر الشاملة في أولويات المشاريع التي برمجتها الجهات، وإذا كانت الجهات جزءا من تفكير الدولة الشامل في إعادة هيكلة أولوياتها بناء على الوضع غير المسبوق حاليا، فإن من المرجح أن إعادة النظر في أولويات الجهات، قد تسير باتجاه تعميق الفوارق المجالية، في حالة مست جوهر المحاور المتعلقة بهذه القضية من ماء وطرق وشبكات كهرباء وبنية تأهيل اجتماعية وشبابية وتواصلية.. وهو ما سيمس بإحدى خلاصات الندوة الوطنية حول الجهوية في أكادير، ولا سيما التوصية الثانية التي دعت إلى تبني العدالة المجالية كأولوية في السياسات العمومية والترابية من أجل تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية. 2 – لا يمكن إغفال سؤال الانتخابات، والتي كانت قد بدأت بإرخاء ظلالها قبل الجائحة، ومعروف أنها تفرض اقتطاع زمنها من زمن المشاريع، بل لا خلاف حول تعطيل العديد من المشاريع والمبادرات بسبب الزمن الانتخابي. ومطروح اليوم كيف سيكون التحضير لها، بعد استقطاع الزمن الوبائي من أجندة التوجه نحو الانتخابات، والذي يعنينا في مجال الجهوية، هو أن الدروس كلها لم تستخلص بعد من التجربة، بل التجربة متعثرة عن تقديم كل دروسها اليوم، والنقاش الذي تفرضه هذه القضية ليس مسألة “ليفتينغ” مؤسساتي قد نحتاجه أو لا نحتاجه، بل تثبت التجربة أن هناك قضايا جوهرية في تأويل سلطات الجهات اليوم في سلم السلط الترابية والمالية? كمثال أساسي، هو التضريب والقدرة على المشاركة في الجبايات، والمسألة الثقافية، وهنا أفتح القوس لكي أشير أنه لم يعد مقبولا البتة أن القانون التنظيمي للجهات لا يشير ولو مرة واحدة إلى كلمة «الثقافة» مقابل التنصيص الدستوري عليها مايقارب عشرين مرة. ويمكن أن نذكر هنا ما يفتحه أمر كهذا من تأويلات، وسنكتشف بأنها تِؤثر بشكل رهيب على تدبير الحاجات الثقافية في زمن كورونا، والتأويلات مركزيا وجهويا لما يملكه صاحب السلطة الترابي أو صاحب السلطة المالي.. وهناك مجهودات ثقافية عالية ظهرت مع الجهوية من أبرز عناوينها مثلا مجهود ثقافي متميز، «دفاتر الجهوية»، الذي كان وراءه الكبير محمد برادة، قدمت ثمراته إلى ملك البلاد، وتم التنويه به، بل الأمر بتعميمه على المؤسسات الجهوية والمحلية، وشاركت فيه أسماء قوية للغاية أمثال رحمة بورقية والوالي السابق محمد ظريف والأمين العام الحالي محمد الحجوي ورئيس مجلس المنافسة إدريس الكراوي وغيرهم من أطر ذات طراز استثنائي.. وهناك القضايا المتعلقة بالإنتاج الثقافي والذي يعد مفخرة في كل دول العالم، وتطرح مفارقة المهن الفنية، ومستحقاتها في الكثير من الأحيان، والتي تحيل إلى إشكال في التأويل، مما يجعل الثقافة تبدو أحيانا كثيرة كما لو كانت بابا للتبذير، وبالرغم من حصتها البسيطة في الصرف..ومن المثير أن نرى أن الثقافة بند صغير للغاية في المجهود الوطني لمواجهة آثار الجائحة،ويمكن أن نستأنس حقا بما نادت به كونفدرالية المهن الفنية والثقافية والكتبيون والناشرون وغيرهم . ولا حل إلا من باب الجهوية.. لا يعقل بأن تبقى الثقافة مسألة قناعات وليست اختصاصات محكومة بالنص القانوني وخاضعة للاجتهاد الطيب لرؤساء الجهات ومكاتبها.. 3 – لجان اليقظة الجهوية، تم الإشارة إليها ، وقد تفرض اليوم ان تكون للجهة يد مباشرة في الجانب العملي، لا سيما في المرحلة الأولى، التي تم الإعلان فيها عن فتح المؤسسات الصناعية؟ وقد دعا وزير الاقتصاد والمالية وإصلاح الإدارة، محمد بنشعبون كل الفاعلين الاقتصاديين إلى استئناف أنشطة مقاولاتهم باستثناء تلك التي تم إيقافها بقرارات إدارية صادرة عن السلطات المختصة. وهو ما يطرح توفير الظروف المواتية لبلورة خطة إنعاش الاقتصاد الوطني التي يتم العمل على تحديد دعائمها في إطار مشروع قانون مالي معدل. ونحن أمام مسؤولية مزدوجة للجهات? أولا، المسؤولية التمثيلية باعتبارالمستشارين ممثلي الساكنة، ولهم رأي في ما يجري ويدور في التراب الجهوي، لا سيما في جهات يعتبر النشاط الاقتصادي فيها حيويا وذا بعد دولي وقاري مثل ما هو حال الدارالبيضاء وطنجة، وثانيا من المسؤولية كدور صحي، لا بد من أن تكون الحاجة فيها الى الجهة أكثر من الحاجة الى صندوق لتأهيل الخصاص البنيوي في الصحة ، بل شراكة في تدبير الموضوع مع رجال الأعمال والشركات والسلطات المحلية.. 4 – خلاصات قد تكون أو لا تكون لها علاقات مع ما سبق.. الحالات التي يحدث فيها أن نفلسف الفترة الحالية، لحظات لا تكون فيها الكتب العقدية والمقدسة، وحدها الأمان المطلوب ومصدر الطمأنينة في فهم اللحظة والمعنى والتواجد مع الآخرين، بل تكون بعض الكتب المدنسة، طريقة في الاطمئنان إلى تحليل ما. خذ مثلا إليكسيس طوكفيل، الذي عاد من جديد إلى الحضور الكثيف كرهان ثقافي وسياسي، سبب عودته هو التطلع الذى باشره الفرنسيون في تقدير ميراثهم السياسي، على ضوء الراهن الوبائي وخوفهم من أن تهتز ديمقراطيتهم، لأنهم يفهمون، من خلال طوكفيل بالذات، بأن أية ديموقراطية لا يمكنها أن تفلت من سلطوية عطوفة ورؤومة وحنونة، كما قال إليكسيس طوكفيل منذ قرن ونيف. من مخاطر ذلك الحنان النابع من مركزية سلطوية هو إغراء الدولة المفرطة القوة، عندما ينسحب الناس، ويتخلون عن حرياتهم لفائدة مساواة مطلقة تضمنها الدولة القوية؟؟ ويصاحب ذلك نمطية في التفكير وطغيان الأغلبية ، طمأنينة مثل هذه تقود إلى الانحراف، يقول طوكفيل، ولهذا يقترح علينا إعادة بناء الهيئات الوسيطة، والجسم المؤسساتي الوسيط والوسائطي مع التشجيع على حرية الصحافة، وتلك قضية أخرى.