التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا؛ فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية. في مقال له بعنوان “القرآن معلَّقاً بين قوسين بدون تاريخ”، يورد الباحث في الفكر الإسلامي، حمود حمود رأيا ل”فرِد دونر” يشير فيه إلى أن “الدراسات القرآنية كحقل للبحوث الأكاديمية، أصبحت اليوم بحالة من الفوضى”. وناقش دونر، حسب ما استعرضه الباحث، بشكل سريع بعضاً من الدراسات الغربية التي ركزت بحوثها بشكل خاص على القرآن، مثل لولينغ في مجموعته التي ترجمت للإنكليزية “تحدي الإسلام من أجل الإصلاح”، وكريستوف لوكسِنبيرغ (اسم مستعار) في “القراءة الآرامية للقرآن”، ووانسبرو في كتابه ذائع الصيت “دراسات قرآنية”، وكتابه الثاني “الوسط الطائفي”.. إلخ. هذا الخط من الدراسات بدأ بالتبلور في الربع الأخير من القرن العشرين، لكن بنفس جديد مليء بالتحدي والقطع النهائي مع ما أنجزه الاستشراق (خاصة الكلاسيكي)، هذا فضلاً عن القطيعة الكاملة مع التراث الإسلامي. وذهب الباحث إلى أن كتاب المستشرق البريطاني جيرالد هاوتينغ “فكرة عبادة الأصنام وظهور الإسلام: من الجدل إلى التاريخ”، يندرج ضمن ذلك الخط النقدي الجديد في عالم الدراسات القرآنية-وإن كان يختلف عن الآخرين في التفاصيل- لكنه بمثابة تكملة لما شرعه وانسبرو، من حيث الأسس والتنظيمات والنتائج. ويذهب الباحث إلى أن هاوتينغ لا يتعب نفسه أبداً في مناقشة المشاكل التي أثارها النقاد الغربيون المهتمون بالدراسات القرآنية، كما هو الحال مع مستشرقين آخرين. بل إن ما يهمه هو فكرة التالي: القرآن ليس مصدراً تاريخياً يمكن أن نطمئن إليه (وخاصة لعرب ما قبل الإسلام، لأن القرآن لم يكتب في الحجاز، ولم يكتب حتى في القرن السابع)، ولا حتى كتب التراث-التي نمت بشكل متزايد مع تطور الجماعة أو المجتمع الإسلامي- يمكن أن تشكل هي أيضاً ركائز للباحث المعاصر في تصوير الحدث القرآني وسياقه. هذه هي النتيجة التي يريد هاوتينغ أن يقولها من خلال كتابه، متخذاً فكرة الوثنية في التركيز عليها كمثال على ذلك لا أكثر، بحسب ما يستخلصه حمود حمود. فبالرغم من أن هاوتينغ قد استفاض على طول الكتاب في نقاش الوثنية كفكرة جدلية، إلا أن الهدف لم يكن هذا بقدر ما كان إكمالاً لرؤى وانسبرو التنظيرية والتشكيكية، أما مع هاوتينغ: الدخول مباشرة من خلال فكرة الوثنية إلى أرض الواقع القرآني، ونسف مشروعية التراث الإسلامي (التفاسير القرآنية والكتب التي تحدثت عن حياة محمد وغيرها حتى كتاب مثل كتاب “الأصنام” لابن الكلبي) في تصويرها للسياق القرآني. فإذا كان وانسبرو يلمح أن القرآن لم يتكون في منطقة الحجاز (ربما تكوّن بلاد الرافدين أو الهلال الخصيب !)، فإن هاوتينغ يسير بمناحي هذه الرؤية، غير أنه أيضاً يبقي الباب مشرعاً من غير أن يقدم أية رؤية نقدية أو حتى إمكانية بديل لما قدمته النقوش (لأنه يشكك بها). إن الذي يشغل هاوتينغ هو إزاحة التراث الإسلامي، وإزاحة القرآن عن سياقه التاريخي الزمكاني. كيف؟ ويرى الباحث أن “هاوتينغ (كما وانسبرو) يقرّ أن القرآن (في سياق حديثه عن الآلهة الثلاث) ما هو إلا نتيجة إضافات وتجميع من مواد مختلفة (لكن لا يجيب ما هي هذه المواد). هذه النقطة تعتبر أساسية في دراسة هاوتينغ. وإذا حدث هناك من خلاف بينهما فربما يكون أن وانسبرو يعتبر أن القرآن هو من جملة ما أنتج مع التراث في وقت لاحق (أي بالتزامن بعد 200 سنة على الأقل)، في حين أن القرآن عند هاوتينغ هو إنتاج سابق على التراث. لكن سنرى أن هذا الاختلاف هو سطحي، وخاصة أن الاثنان ينطلقان من النظم المعرفية نفسها.