إن إصلاح التعليم إصلاح سياسي وقاعدي يهم جميع مكونات المجتمع المغربي مما يفرض توفير شروط التعبئة، فلا يكون هذا الإصلاح معزولا عن الواقع. وإصلاح التعليم لا ينجح إلا في علاقته بإصلاحات أخرى في ميادين أخرى، وهذه الجدلية الإصلاحية هي ما كان ينقص المغرب في العقود الماضية، لذا فالسياسة التعليمية الحالية هي سياسة إصلاحية بامتياز. لقد أصبح المغرب، إذن، في الفترة الأخيرة عبارة عن ورش كبير، وكل مجتمع يعيش أوراشا من حجم الأوراش التي يعيشها مجتمعنا، تبرز فيه مقاومات ظاهرة وعلنية أحيانا، خفية ومستترة أحيانا أخرى، وهما معا في أحايين كثيرة. من هنا ليس من السهل أن نستمر في إصلاح المنظومة التعليمية التربوية بدون مشاكل، فأصعب إصلاح في جميع المجتمعات، أقول المجتمعات ولا أقول البلدان، هو الإصلاح المرتبط بالمنظومة التربوية، ومن الطبيعي أن نناقش كل الجوانب المتعلقة بهذه المنظومة والمرتبطة بمسار إصلاحها، علينا أن نناقشها بجدية ومسؤولية، بروح التحدي لا الاستسلام، بإرادة البناء لا الهدم، بوعي أننا في بداية الطريق. «... ويشكل الإصلاح القويم لنظام التربية والتعليم والتكوين، المسار الحاسم لرفع التحدي التنموي. فعلى الجميع أن يستشعر أن الأمر لا يتعلق بمجرد إصلاح قطاعي، وإنما بمعركة مصيرية لرفع هذا التحدي الحيوي، سبيلنا إلى ذلك الارتقاء بالبحث والابتكار وتأهيل مواردنا البشرية، التي هي رصيدنا الأساسي لترسيخ تكافؤ الفرص، وبناء مجتمع واقتصاد المعرفة، وتوفير الشغل المنتج لشبابنا» (مقتطف من خطاب العرش 30 يوليوز 2009). من يطبق المشروع الإصلاحي؟ الوزارة، أبدا، الحكومة، أبدا.. إنهم نساء ورجال التعليم، جنود الإصلاح، فمستقبل مهنة التعليم مرتبط بانخراط نساء ورجال التعليم في الإصلاح والعمل على إنجاحه، وبدون هذا الانخراط ستصبح مهنة التعليم ككل المهن، علما بأنها ليست كذلك، على نساء ورجال التعليم أن يستوعبوا مهنتهم، أن يستوعبوا المهام المنوطة بهم داخل المجتمع وإلا سيعرف هذا المجال الحيوي خصاصا بنيويا خطيرا وسنواجه افتقار المجتمع إلى المدرس، وفي هذه الحالة سيفقد المجتمع بوصلته، أن المدرس هو من ينير الطريق، يعبدها، يضع الأمل... لا أحد غيره يستطيع القيام بهذه المهمة... إن المدرس بحكم موقعه المحوري داخل المجتمع يمكن أن يصنع الأمل ويمكن أن يزرع التشاؤم... بنساء ورجال التعليم يمكن للمجتمع أن يذهب بعيدا، أن يتطور ويتقدم، وبهم يمكن أن يركن إلى السكون، أن يتخلف ويتأخر... من هنا فإنهم يتحملون مسؤولية كبرى، مطروح على نساء ورجال التعليم أن يمارسوا شيئا من النقد الذاتي، بكل نزاهة وموضوعية.. أن يعوا بأن المفاهيم، كل المفاهيم، مفاهيم العملية التعليمية التعلمية تغيرت بصفة كلية وإيجابية.. فتلميذ اليوم ليس هو تلميذ الأمس، كذلك المدرس، كذلك المدير، كذلك النائب... كل شيء تغير ويتغير، كل شيء يتحول ويتطور من هنا وجب على نساء ورجال التعليم مراجعة مفاهيمهم وتصوراتهم ومواقفهم، عليهم أن ينخرطوا في مهنتهم، في مجتمعهم، في عصرهم، إذا أرادوا أن يجعلوا من مهنة التدريس مرجعية المجتمع بأكمله.. إن مهنة التعليم هي أساس مسار التنمية والتحول.. من هنا وجب على نساء ورجال التعليم؛ مدرسون، مدراء، نواب... المساهمة في تطوير المجتمع والمساهمة في إقلاعه التنموي، عليهم أن يؤمنوا بأنهم جنود الإصلاح، إصلاح التربية والتعليم وبالتالي إصلاح المجتمع، هناك مشاكل، نعم، وستتعقد هذه المشاكل كلما تقدمنا في تطبيق الإصلاح وهذا يدفع إلى التفكير في إيجاد الحلول بهدف تجاوز المشاكل لا الاستسلام لها. على الجميع القطع مع ثقافة التشكي لمعانقة ثقافة المبادرة.. ثمة طموحات كبيرة، والطريق إلى إنجازها لابد أن تمر عبر الخلق والمبادرة، غير الإرادة الواعية والفعل المسؤول، ورغم المصاعب المطروحة، رغم ثقافة التكريس والمحافظة، فإن القابلية لتجديد المفاهيم والتصورات وإعادة النظر في جملة التقاليد المتجاوزة والممارسات العتيقة تشي بأفق مطمئن رحب يتحمل فيه الجميع المسؤولية الجماعية عن هذا القطاع الوطني الكبير. إن حركة الإصلاح مهما تكن مشاربها وتوجهاتها لا تقوم لها قائمة، إذا لم يكن لها رجالها ونساؤها المقتنعون بها والمنخرطون في مسارها... الحاملون للمشروع، في عقلهم ووجدانهم وممارساتهم. وسلوكاتهم.. المقاومون للإحباط والنمطية.. الحائلون دون امتلاء أجواء المؤسسات بالعبث والاجترار، لا لشيء إلا لأن التعليم كفعل يمثل في حد ذاته حربا ضد البؤس الفكري والأمية، والممارس لحرفته جندي مسلح بالإيمان بقضيته، يتزهد ونكران الذات، وعشق لمبادئ وقيم إنسانية عليا... والحاجة إلى نساء ورجال التربية الرائدين، ترجمة للحاجة لفلسفة تربوية تعقلن المشاريع الإصلاحية الحداثية والتنموية. فلا مجال لنجاح التجربة الديموقراطية بدون مواطنين مقتنعين بجدوى الديموقراطية المبتدئة بضمان حق كل طفل في التعليم، في التربية والتكوين النافع، وتمكينه من خلال الانخراط الكامل لرواده المدرسين أقطاب الإصلاح وتفانيهم في تحقيقه، ليس كمشروع تربوي فحسب، بل كمشروع مجتمعي تجسد الإرادة الجماعية في التغيير الملائم المواكب للتحديات والمتماشي مع التطلعات الكبرى للبلاد، فالتضحيات من أجل دعم عملية الإصلاح التعليمي والتربوي مع توفر شروط العقلنة والانفتاح ودمقرطة الوعي والسلوك والاختيارات، تعد احد رهانات مغرب الديموقراطية والحداثة. إعادة النظر في مفهوم المدرسة: يجب إعادة النظر في مفهوم المدرسة بشكل يمكن من تحديد مهام المدرسة المغربية الجديدة، لأن مفهوم المدرسة ظل ثابتا يتمركز حول الوظيفة التعليمية عبر تلقين مجموعة من المواد المنفصلة، وتقويمها في الأخير، أما الآن فقد انضاف إلى التربية مفهوم آخر وهو التكوين الأمر الذي يستلزم توسيع مجال التنشئة ليشمل مختلف المؤهلات الضرورية التي تمكن المتعلم من النجاح في حياته، وذلك في انسجام تام مع متطلبات محيطه ليشارك في تنمية البلاد، يتعين اليوم تحديد مهمة المدرسة المغربية، على نحو يجعلها تشكل أفقا مشتركا لمختلف المعنيين بالشأن التربوي، وذلك بتزويد مواطني الغد بالمعارف والكفايات والقدرات الاجتماعية الأساسية، التي من شأنها أن تتيح لهم النجاح في مشروع حياتهم، تبعا لاختياراتهم الشخصية. من هذا المنطلق، ترتكز مهمة المدرسة على تعليم المعارف والكفايات الأساسية للمتعلمين حتى يتمكنوا من تحقيق طموحاتهم الفردية، وذلك بضمان اكتساب المعارف التي تهدف إلى تنشئة المتعلم وإعداد للحياة العملية، تلك هي الأهداف التي يمكن على أساسها، مساءلة المدرسة والحكم عليها. الارتقاء بالفضاءات المدرسية: يشكل الاعتناء بجودة الفضاءات المدرسية أحد المداخل لإعادة الاعتبار للمدرسة المغربية وتحسين صورتها داخل المجتمع لتصبح أكثر جاذبية واستقطابا بوصفها السبيل الأمثل للارتقاء الاجتماعي، كما أنها ستسهم أيضا في تعزيز قدرة المدرسة على إثبات مشروعيتها الاجتماعية، تلك المشروعية التي تعرضت لهزات عنيفة وضعت وظائف المدرسة موضع تساؤلات كثيرة، ويشمل هذا الإجراء مجموعة من العمليات الأساسية تتمثل في إحداث أو إعادة تأهيل المؤسسات التعليمية، وتجهيزها وربطها بالكهرباء والماء للشرب، ولعل ما يميز الجهة الشرقية فيما يخص الاعتناء بالبنيات التحتية هو تجربة المدارس الجماعاتية التي أصبحت نموذجا يحتذى وطنيا سيمكن من الرفع من نسب التمدرس والاحتفاظ بالتلاميذ داخل المنظومة التربوية، وتوفير الشروط المناسبة لتمدرس البنات، والقضاء على تعدد المستويات والتخفيف من ظاهرة الاكتظاظ والأقسام المشتركة، وترشيد توظيف الموارد البشرية. واعتبارا للدور الذي يساهم به التعليم التقني في تأهيل الموارد البشرية وتجويدها تلبية لمتطلبات التنمية المستدامة، ولكونه عنصرا حيويا من عناصر إدماج الشباب في الحياة العملية، وجب إيلاء الاهتمام لهذا النوع من التعليم من خلال تعزيز شبكة الأقسام التقنية عبر توسيع شبكة استقبال التلاميذ الموجهين إلى الجذع المشترك التكنولوجي بمؤسسات التعليم الثانوي العمومي كلما توفرت الشروط الضرورية لذلك. تعزيز موقع الحياة المدرسية في النظام التربوي الحالي: الحياة المدرسية مفهوم جديد نشأ في تاريخ الفكر التربوي في بداية القرن 20 كشاهد على محاولة استقلال المدرسة وحاجتها إلى معايير لحياة خاصة بها، لهذا فهو ينضوي تحت الحداثة التربوية ويشكل علامة على تطور الأفكار التربوية وظهور حاجة اجتماعية جديدة وإرادة سياسية لتربية الشباب، كما أن الحياة المدرسية تهدف إلى إرساء مناخ تربوي داخل المؤسسة والبحث عن سبل الانخراط الفعال في المشروع المدرسي. إن هذه الأهمية الإستراتيجية لمفهوم الحياة المدرسية تجعل منه مفهوما مركزيا في الحديث عن كل إصلاح تربوي الذي هو في نهاية الأمر إصلاح للمؤسسة عبر تحديثها، ودمقرطة العلاقات التربوية داخلها، هكذا يتبين أن الحياة المدرسية وخلافا للفكرة الشائعة لا توجد على هامش العملية التعليمية بل هي توجد في قلبها وتشملها وذلك عن طريق تحويل التلميذ إلى عنصر أكثر انفتاحا وأكثر فاعلية لأن التربية لا تقتصر على نقل المعارف فحسب، بل يجب أن تهتم بتكوين المواطن والمساهمة في التنمية البشرية، كما أن الحياة المدرسية تشكل طريقة جديدة للتسيير ونموذجا خاصا لتدبير يسمح باستيعاب مجموع المعطيات التنظيمية المدرسية والانفتاح على دينامية جديدة للعملية التربوية ضمن ما يسمى بمشروع المؤسسة، لأن المشروع بكل ما يتضمنه من رهانات تهم تغيير الوظيفة التربوية للمؤسسات التعليمية يرتكز في جانب أساسي منه على آليات التواصل الداخلي لضمان جودة في الأداء التربوي بفعل التشاور والتشارك في مواجهة الإكراهات وتحمل المسؤولية، كل ذلك من أجل تقريب المدرسة من المستفيدين لوضع حد لحالة انطلاق القائمة بين المجتمع والمدرسة....؟ التنشيط الثقافي داخل المؤسسات: إن الاهتمام بتنشيط الحياة الثقافية داخل المؤسسة هو ما سيسهل سيرورة انفتاح المؤسسة، واندماجها في محيطها من خلال إيجاد تمفصلات بين العمل البيداغوجي والعمل التربوي تمنح للمؤسسة بعدا علائقيا أكثر حركية ودينامية يضمن تواصل جميع الفاعلين ومساهمتهم في تدبير وتوجيه حياتها الداخلية. أولا: هيئة التدريس وتشجيع أعضائها على تطوير مؤهلاتهم، وانخراطهم في النشاط الثقافي للمؤسسة بوصفها نسقا للدفع الجماعي المنظم. ثانيا: المجتمع المدني كشريك فعال في اتخاذ القرارات وتدبير الشأن الثقافي والتربوي للمؤسسة. ثالثا: المتعلمون باقتناعهم بأن المؤسسة فضاء يساعدهم على بناء ذواتهم وهوياتهم الخاصة يمنحهم فرصة النجاح. إن هذه الدينامية التشاركية هي ما سيعطي لعملية التحديث التربوي مغزاه الأساسي وهي التي ستعيد للمؤسسة مشروعيتها، فمع قلة مواردنا يبقى رهاننا الوحيد هو إبداع تميزنا، ولعل ذلك ما حقق لمدرستنا بعض النجاح في الماضي. الدعم الاجتماعي: يشكل الدعم الاجتماعي إحدى المقاربات الأساسية لتشجيع التمدرس من خلال التصدي للعوائق السوسيو اقتصادية التي تحول دون الإقبال على التمدرس خاصة في المناطق الأكثر هشاشة سواء على المستوى القروي أو الحضري. وتنحصر العمليات المرتبطة بالدعم الاجتماعي في التدابير التالية: - توسيع قاعدة المستفيدين من المنح والإطعام المدرسي. - توزيع الأدوات والزي والمدرسي. - النقل المدرسي. - برنامج تيسير. وقد خلقت هذه التدابير دينامية جديدة مكنت نسبيا من تطويق ظاهرة الهدر والانقطاع عن الدراسة التي كانت إلى عهد قريب أحد مظاهر الإحباط في من منظومتنا التربوية، مما سيسمح بالحديث وبموضوعية عن دمقرطة ولوج المدرسة وتعزيز مبدأ تكافؤ الفرص أمام أكبر عدد ممكن من التلاميذ الأمر الذي يفضي إلى مصالحة حقيقية مع المدرسة وإرجاع الثقة إليها. في سياق وعيها، إذن، بأهمية الدعم الاجتماعي كمكون أساسي من مكونات العرض المدرسي تسعى المدرسة المغربية من خلال المبادرات الإصلاحية إلى تبني مقاربة اجتماعية سعيا منها إلى الحد من الظواهر السلبية التي تسبغ مختلف مكونات المشهد المدرسي بالمغرب والتي تتجلى أساسا في ظواهر الهدر والانقطاع والتكرار... وتعتبر المبادرة الملكية «مليون محفظة» مبادرة رائدة لقيت استحسانا من طرف الأسر المعوزة، وأن تميزها بالشفافية المطلوبة والتنظيم المحكم كفيل بإنجاحها وتحقيق الأهداف المسطرة لها، كما أن تعميمها يقتضي توسيع دائرة الشركاء للانخراط في هذا المشروع الدال والهادف. وإذا كانت ظاهرة الهدر المدرسي وعدم الالتحاق بالمؤسسة أمرا يؤرق كل الفاعلين فإنه يجب العمل على حث المفتشين والمديرين كل من موقعه على تفعيل خلايا اليقظة واستثمار عملية من الطفل إلى الطفل واعتماد قافلة التعبئة الاجتماعية لاسترجاع اكبر عدد من المتسربين من المؤسسة التعليمية. وإذ كان لبرنامج تيسير وقع إيجابي على نفوس العائلات المعوزة فانه يجب العمل من أجل تعميمه على كل الجماعات. اعتماد مقاربات بيداغوجية جديدة. إن التحولات التي تم الحديث عنها على مستوى البنيات الأساسية وإعادة تأهيلها سيواكبه تحول في الخطاب التربوي وأدبياته يهدف إلى تحسين جودة التعلمات عبر وضع برامج بيداغوجية تتمحور حول الموكبة الفعلية للمتعلمين للرفع من قدراتهم وكفاياتهم التعليمية. ويمكن تلمس بعض معالم هذه النقلة البيداغوجية في المظاهر التالية: * مراعاة الفروق الفردية بين التلاميذ: يقول ماركيز دوساد في كتابه: «La philosophie dans le fondoir» «إنه لمن الفحش أن نلزم أناسا طبائعهم لا متساوية بالانصياع إلى قوانين متساوية...» ونحن نقول إنه لمن الخطأ أن نعامل أطفالا لا متساوين ومختلفين بطرق تربوية موحدة، لأن في ذلك ضرب لمبدأي النجاعة والملاءمة الذين ترتكز عليهما البيداغوجية الفارقية، كما أن من شأن هذا التعامل الأحادي أن يكرس اللامساواة مما يفضي بنا إلى التأسيس وبدون وعي لظاهرة الفشل لدراسي. إن الممارسات البيداغوجية التي تراعي الفروق بين المتعلمين تصادر على قابلية كل طفل للتعلم، وإن التعثر الدراسي قابل للتجاوز متى تم إعداد العدة البيداغوجية المناسبة، لذا فقد أضحى من الضروري اليوم رصد تعثرات التلاميذ من خلال التتبع الفردي لمسارهم الدراسي، وتقديم الدعم التربوي والنفسي المناسب لوضعيتهم، وفي هذا الإطار يدخل عمل اللجن التي ستقوم بتقويم مكتسبات التلاميذ في مختلف النيابات من خلال الشبكة الوطنية المعدة لهذا الغرض قصد الوقوف على صعوبات التعلم، وإرساء دعامات لتقويم اكتساب التلاميذ لكفايات القراءة والكتابة والحساب.