في روايته الجديدة «لا تنسى ما تقول» الصادرة عن دار الهلال القاهرة 2019 وفي طبعتها الثانية في نفس السنة عن منشورات القلم المغربي، يعيد الكاتب والروائي المغربي شعيب حليفي الصدارة لتاريخ لم يكتب بمدلد الزمان والمكان. يجدد هذا التاريخ و يمنحه عنفوان الحياة والتجدد ويفسح له الحيز واسعا في سردياته مثل ما فعل في رواية «السطات» الصادرة سنة قبل هذه . في هذه الرحلة الجديدة الممعنة في ثنايا تاريخ مدينة الصالحية ، يلج الكاتب عالما يعانق الواقع المتخيل والماضي بالحاضر. «لا تنسى ما تقول» تنسج من بقعة أرضية نسيج أسطورة باذخة لا تحيا من قبس القلعة الكبرى ، حيث تزخر يومياتها بمتعة خلفية ومرارة مناجاة سحرالزمن الماضي، المدثر بسرأنشودة البعث وحلم الميلاد الجيد. رواية تلج بجرأة غمارالتقلبات وسراديب قدر الهجرة والرحيل ثم العودة الموصودة بالبحث عن البدء وبعث الامتداد. في لغة انسيابية ذات استعارات، لا تشبه الكلام ، يجعل حليفي من هذا الهوس الفائض بعشق أهل الصالحية ، لقاءات بشرية وحوارات حبلى بخطاب همه الاول نفض غبار تراكمات الدهر، عن أسفارعهد توارى عن السجلات الرسمية، لكنه حاضر في غياهب الذاكرة الشعبية. نفض نسيج عنكبوت عن ألواح غيبتها آيات الانتصار وغمزات العز والانتشاء. فعبرالنبش في السطورالمستترة وراء واجهة الحكايات المزملة خلف أطراف التاريخ ، خلف الدفاتر المدرسية الرسمية، تنبلج أنشودة منسوخة المنشأ ، مجثتة البدء ما لها من قرار، فيحيك حليفي خيوط ملاءتها برسوم ترشح بألوان محكيات المعاش اليومي ويمدها بصور من وحي الخيال، لتعانق واقعا حاضرا يحوم حولها كطيف فيلملم أشتاتها ليمنحها شرايين الحياة . يحملنا حليفي معه مرة أخرى عبر المدن في رحلة تستقي توجهها من فيض الفضاءات، التي تعيش بعيدة عن الاضواء، بعيدة عن زخم القلاع الكبرى، ليعيد لها سر لمعان ماضيها المبعثر بين الكائن والمؤمل. في رواية «لا تنسى ما تقول» ، يتداخل التاريخ المكتوب على عتبات الولاة وتاريخ شفوي مسطورعلى ألواح حكاية صففتها الذاكرة الشعبية، مع تاريخ تناقلته خزُانات بشرية متوارثة وخبأته رغما عن عيون الوشاة في سراديبها السرية، ليبقى نبراسا للأجيال الآتية. في هذا التداخل بين الخرافي والمتخيل ، الواقع بالمتوقع، ينبث جم من الحكايات تفترق وتتآلف فيها حياة أناس الصالحية وتتوالد منها أساطير ترحل مع الريح ثم تعود مع الطيورالمهاجرة راسخة ممجدة وكأنها عين اليقين. فالسرد في « لا تنسى ما تقول» يشبه سمفونية البوليرو، تتصاعد ، تتوالد تزداد قوة تخلق من الحكاية حكاية وكل السرد يقوده شخصان، جعفر وشمس الدين، في رباطهما الخاص بمدينتهما الصالحية. فعن هذا الرباط بالمدينة تتفرع حكايات الحب والبغض والأحلام المؤجلة والآمال والخيبات ذات الذيول الملتوية والعوز واليسر. كل يسائل تاريخا يحاول أن تجد له ومن خلاله وجودا في الحياة اليومية، يحاول أن يستمد من هذا التاريخ قوة الاستمرار، « من لا تاريخ له، لن يخطو نحو المستقبل بشكلٍ طبيعي. ومن لا ذاكرة له، لن يستطيع التحديق في الشمس.» هكذا تقول الرواية وهي تتنفس الحكايات ، تجعل منها منفذا تتخطى به عتبات الصالحية لتنفرج على منطقة خصوبة وثراء حضاري وتاريخ دموي، منطقة انسياب وجريان تامسنا الواقعة بين يدي واد ام الربيع وواد بورقراق، هنا قامت الدولة البرغواطية لزهاء ثلاثمئة سنة مستقلة عن السلطة الرسمية، هنا أقام صالح بن طريف، دينا وقانونا بلسان قومه الأمازيغ. هنا واعد الجد الأكبر ، المهدي المنتظر، مؤسس الصالحية بعد رحيله الى الشرق، بالعودة من جديد في الدولة السابعة من الملوك البرغواطيين . إلا أن المرابطين أورثوه غمة كبرى حيث قضوا بعد حرب طويلة على دولته. لكن وإن اختفى ابن طريف في طيات التاريخ، فالرواية تعيد هذا الاختفاء في شخص شمس الدين ، كما تعيد المعتقد في العودة الموعودة في ثوب جديد، في خرافة عصرية تتحدث على لسان شخوصها وعن معتقدهم بالعودة الروحية للجد الاول طريف. يختفي شمس الدين في الرواية، غير أنه سيعود لبقى الوعد قائما وحيا وعليه ألا ينسى ما قال وواعد به من العودة. فالتاريخ يعيد نفسه، وجعفر المثقف المناضل لا يستطيع أن يكتب تاريخا غير تاريخ بويا صالح، حيث أن هذا الهوس بالاسطورة يجعل كل ما دونها غير الحقيقة، «أما باقي التواريخ غير تاريخ بويا صالح فهو زور وبهتان» جعفر. يمثل ماضي الصالحية مهربا لأهلها ومن حولهم. فعند اشتداد الازمات الاقتصادية و السياسية وعند تعاظم الخطب و»الطوفان يغرقنا»، مهربا الى الماضي المتوغل في طبقات الزمن، الذي يمنح ولو عن طريق التمني ، انتظار وعد طريف بالعوة من تامسنا، آملا في ترسيخ الهوية حتى يبقى أهلها تامسناويين. من تمسنا مر بنو هلال، الزناتيون، وقبائل الاعراب من تونس وقبائل هوارة. من تامسنا مر محيي الدين ابن عربي في طريقه الى الشرق ، ولسان الدين ابن الخطيب، وابن بطوطة و الحسن الوزان وابن خلدون ، من تامسنا مر المهجرون الأندلسيون، من تمسنا مر الغزاة و المستعمرون ، من تمسنا مرالصالحون المسالمون والمجرمون في طريقهم جنوبا وشرقا. من تامسنا يمر الحلم وهو يجر خيوطه الواصلة الصالحية بقباب السماء، من تامسنا يعبر العابرون الى الأماني الفياضة في القلعة الكبرى، الحالمون بالطفرة الكبرى، التي تفجر الثراء . فالصالحية تمثل في الرواية نقطة انطلاق وعبور الى العوالم المحيطة بها، الى العوالم البعيدة المحسوسة في قوة التخيل فقط. الصالحة هوس للمقيم بها ، هم وإدمان للخارج عنها. فالحياة في الصالحية «كانها نهرعابر أو سحابة طويلة لا تسبح في خط مستقيم.. هكذا هي مصائر أهلها المطبوعة بالغرابة والمصادفات. لهم خصائص يشتركون فيها، مثل طريقة التفكير والتأمل التي تتغير باستمرار…» إن رواية « لا تنسى ما تقول» هي رصد لحياة الناس في الصالحية وما حولها من الدواوير كحياة يتزامن فيها الروائي بالتاريخي والخرافي الذي يميل الى أن يكون حقيقة حية في عمق ذاكرة السكان، حيث تسيرالحياة وفق أعراف وقوانين ثابتة يعيش الناس معها على حكايات من الشجاعة والحكمة تملأهم فخرا ورضا رغم مأساويتها ، فقد صنعوا من دوار اولاد المسناوي نواة أولى الى الصالحية التي عاش فيها صالح ابن طريف، كما أورثوا شمس الغنامي من سلالة بويا صالح عودة الروح كسر ينام في حضن الأمل. فالتداخلات السردية في رواية حليفي تحملنا معها في جولات بطولية بين الحاضر و الماضي لتسقط عن هذا الاخير قدسيته المتواصلة من غير تبرير والماضية مع ذوبان الأيام ، كسيرة ذاتية لمدينة يرويها شخوصها من زوايا متعددة. تارة تمتطي صهوة الريح وتغرق في قرون خوالي بعيدة عن دائرة الزمن وأخرى تتحول الى حكايات الحكواتيين خارج أسوار المدن ، الذين يلهبون المشاعر بحكايات لا تقيدها خطوط حمراء أو قواعد لعبة محددة. وتارة أخرى تتقارب من المدن الكبرى بزحامها وكثافتها حيث يعيش أحد عمودي الرواية شمس الدين ، « بين زمنين يسيران في اتجاهين مختلفين وبسرعتين فارقتين.» بين الحياة في القلعة الكبرى (الدارالبيضاء) حيث يعمل داخل هذه المجرة الدائمة الحركة والتقلب ، وسر حب ممدود من هناك حتى مشارف الصالحية. فشمس الدين دائم العودة الى الصالحية عودة كل يوم خميس ليمضي فيها يومين أو أكثر هناك. إن هذه العودة اليومية الى الصالحية، «ليست فقط لزيارة أبويه الكبيرين أو تفقد أملاكه الفلاحية وإنما لكونه يضيق من ضغط القلعة الكبرى. ففي الصالحية يلتقي بأصدقائه من القبيلة مستمتعا بليل لا ظلام فيه..» إن عودة شمس الدين الى الصالحية ، هي طقس أسبوعي، طريق نبوؤة عودة بويا صالح. فإيمان الصالحيين بعودة أيام تامسنا وإيقاظها من ركودها لا يحتاج الى تأويلات تقتل المعاني الجميلة وتفشي أسرارها المتوارثة. عودة تفشي في نفس الوقت ضيق حليفي نفسه بالقلعة الكبرى ، التي يعمل بها. من هنا يأتي عشق رواياته للاماكن الثانوية جنوبا من القلعة الكبرى، بحثا عن الصفاء والفطرة الأولى.. من هنا يأتي البحث عن جذورالهوية الملازمة، التي ضاعت بين دروب المدن الكبرى. من هنا تبدو شخصيات روايته غيرعادية، لا يحتويها زمن بعينه، بل تمتد على طول مساحة أزمنة متعددة وتقطع المسافات اللامتناهية. لا تملكها حقيقة معينة، إنها دائمة البحث والتجوال وطرح الاسئلة حول الفصل بين الواقع والحقيقة. فجعفر المسناوي لا يرى الواقع إلا مجرد حكاية حيث ، «إن عالم الحقائق انتهى ولم يعد موجودا. وما تبقى من الزمن هو للحكاية الطويلة التي أنقذتهما (وصديقه شمس الدين) من الفراغ أو تؤجله الى زمن بداية جديدة تظهر فيه حقيقة جديدة.» إن هم رواية «لا تنسى ما تقول» ليس هو احتواء عالم الصالحية المتوالد بزخم تموجاته التاريخية واليومية فحسب، بل يتعداه الى رسم لوحات ترزح تحت هموم التحولات السياسية في فضاء محيطها وخليجها، حيث يتم استعارة الدلالة الفنية للعبور من خلالها الى الهم السياسي الواسع. ففي الفضاء المسرحي بفرقته الوطنية حيث الانتصار و الهزيمة، المسارالتراجيدي وحلاوة الكوميديا، الانتخابات والفوز بالرئاسة الفرقة المسرحية، حيث الوعود والمعارضة والرفض والاختلاف الايديولوجي، والانقسامات حول المداخيل المالية. تبصم الرواية موقفها من لعبة الأوضاع السياسية في إطار فني مسرحي حيث الديكتاتورات تجول في انتصارات مزهوة وتغلق باب الحوارات العقلانية . في هذا الاطار الفني يعري حليفي الاقنعة عن الوجوه و يبين الأدوار كيف تحاك وكيف يتم ترتيبها فلقد ، « أضحى معها القجايمي بطلا وطنيا بمسرحياته التي أضحكت الملايين، ومنحتهم فرصة أخرى لم تكن من قبل، نسيان جراح قديمة برأت وهم يضحكون. فقد سكنهم بعدما أقنعهم أنه أخرج منهم الجن الذي كان يسكنهم وينغص عليهم حياتهم.»