يخرج الشعراء مهزومين من الرواية، مثل علي الريسوني الذي يتصبب عشقا من اسم غادة، بطلة الرواية، لكن الشعر يخرج منتصرا. الشعر غامر، وطافح، حالة شعر طافح، حتى يوم المأساة هو يوم الشعر 21 مارس. علاقة غادة بالشعر كعلاقة غادة مع الريسوني، فهو المسكين حاصل على دكتوراه في الشعر لكنه ينتهي تاجرا يبيع الملابس! وكل شيء يحوم حول غادة، العالم يدور حولها دورتين، وإغفاءة قصيرة: غادة طالبة صارت صحفية، بفضل منى صديقتها التي أخرجتها من حالة ضيق بعد انفصالها عن فريد العطار، أستاذ الجماليات الذي أغواها وقادها إلى عالمه الفريد، تعيش غادة حياة الكثيرين، معها وفيها، تقودها حياتها الحرة إلى معرفة مغرب حديث من خلال سيرة مدينة الدارالبيضاء الكبرى..هنا حداثة يلزمها أرق كبير وطويل، لكي تسبر أغوارها، بأرق دائم.. الشعر حاضر في كل تفاصيل الرواية، في اللغة كما في المفارقات كما في تفاصيل أخرى: أولا، حاضر في العنوان، الذي يحيل على الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا وديوانه، ديوان التماريت، بالإسبانية “Divan del Tamarit”، هو مجموعة شعرية للشاعر الإسباني لوركا، كتبه متمثلًا الطراز الشعري العربي بعد عودته من نيويورك وأعده للنشر، ولكنه اغتيل سنة 1936، قبل نشر الديوان، فنُشر في بوينس آيرس سنة 1940، اضطلع بترجمة الديوان الشاعر المغربي محمد الميموني، وصدر عن منشورات وزارة الثقافة المغربية سنة 2008. في الصفحة 38 عندما تدخل غرفتها لتسلية الأرق تبحث عن قراءات، منها »ديوان التاماريت »في حال مر غارسيا لوركا عند مطلع الفجر، ذلك الديوان الذي تمثل فيه لوركا التراث العربي الإسباني بإحالة على الثقافة الأمازيغية، لأن تماريت اسم القرية التي رأى فيها لوركا النور “تماريت”، وهي قرية في منطقة فوينتي باكيروس حيث وُلد، كانت في الماضي ضمن أملاك ملوك غرناطة المسلمين، ويعنى اسمها بالأمازيغية “العاشقة” . وبذلك تصبح الرواية في التعريف المحال إليه: ليالي العاشقة…. يحدث أحيانا، في صفحات بعينها، أن ننسى أننا أمام رواية، ينبع الشعر… من اللغة، بانزياحاتها العالية، فيذوب الواقع، والموصوف، والشخصيات كما في ص129. يحدث أن ينفجر المشهد كله شعريا: القميص الملقى كجثة، يغري بالقتل، أو وشم بالكتابة بالدم:ذنبي الوحيد أني كنت أنا حين لم تكن أنت«.. الأرق، أيضا سبب وجيه للشعر كي يدخل إلى الرواية، كما يحيل على ذوق آخر. في ص 104/105 تقدم الصيباري على لسان غادة وصفة الأرق. شخصيا تذكرت رواية الجميلات النائمات، وهي غواية مفارقة:كيف للجميلات النائمات أن يحلن على غادة المصابة بالأرق؟ سحر الرواية الخفي أم استدراج شعري لا شعوري؟ لا يخمنني الفهم حقا، أتذوق هذا التقارب المجازي بين الروايتين: في رواية الجميلات النائمات، لكواباتا، يقول في الصفحة العشرين عن الأرق: لقد حكت شاعرة ماتت وهي لم تزل شابة عن ليالي الأرق في إحدى قصائدها: »هوذا الليل يخبئ لي ضفادع وكلابا ميتة وغرقى».. كبطل كواباتا ايغوشي، الذي لا ينسى، يقفز البيتان الشعريان إلى ذهني عندما أقرأ هذا الزحام، بين لغة سلسة، فاتنة وسريعة العطر، وبين محمولها القلق، الذي ينثال أرقا… والأرق هو مشعل الحكي في رواية أمينة الصيباري، فغادة الصحافية، من الطراز الرفيع، ذلك الطراز الذي يجعل القلق مناسبة واقعية لمساءلة الذكريات والعوالم المخفية في الكتب.. جزء يسير تكتبه الصدفة، أي تلك النصوص التي تعثر عليها، عن سبق إصرار وصدفة، في أوراق المكسرات، التي تشتريها من محل بيع الكاوكاو والزريعة. فعندما تتناثر الرواية، تتناثر معها المصادفات في عالم مغربي بامتياز، فنجد كتابات ابن رشد في أوراق الزريعة.. ونجد آخرين، بمحض المصادفة، التي تجيدها غادة وأرقها: وهي سخرية كامنة ربما لكي تقول بأن المعرفة واسعة الانتشار على عكس ما نقول أو ربما فقط هي طريقة للبحث في عبثيات تصنع لحظة معرفة ووعي تسعفها في التفكه من عالم مغلق نهارا ومشرع على شمس اليقظة ليلا…! عكس بطلات جميلات كواباتا النائمات، فنساء أمينة الصيباري أرقات، مصابات بأرق لا يجعلهن ينمن بقرب جوار عجوز..… كل شي تفوح منه رائحة الذكريات وكل شيء يفوح شعرا. ففي فصل من الرواية تعرف سلطان الشعر، كما عرفه غارسيا ماركيز، بأنه »ذلك الأسى الغريب الذي لا يعرفه سوى كناسي المسرح بعد خروج آخر الممثلين«. الشعر، كناس الرواية، وحبيبها بذاته شاعر، له ديوان يطاردها في سلم العمارة، كما في وحشة الغرفة. غادة تريد أن تطل على قلبها القديم، كما يذهب شاعر إلى سور عال، يطل منه على بئر. غادة الحرة، تتجول في عالم، سياسي، يطبعه الخروج عن المنهجية الديموقراطية، وبداية نهاية يسار عقلاني، وما تركه من أثر على جيل ناشط اجتماعيا.. وفيه انتحار مظفر الطفل الذي تربى أمام عينيها وعجزت عن حمايته من إغراءات الجنة على مشارف كابول.. هي أيضا تتابع حياة الفن. هي أيضا كتبت عن الحداثة الفنية عند الفنان الشرقاوي. هي فعلت الكثير لكنها تعجز أمام الأرق والقلق العتيق.. الأرق هو ذريعة لكي يتفجر كم هائل من الكلام في الصمت والورق.. بالكتابة تستدرج عادة حبيبها، لا ليعود حبيبها، بل ليكون ذريعة لحريتها، لعزلتها، وغادة تخرج من جوار عاطفي إلى آخر. وغادة تعتبر الموسيقى باستمرار، جسد المزاج الذي تريده، حيث يقودها إلى »ميتافيزيقا الصوت« عند العطار صديقها، أستاذها…، وأمينة الصيباري، الروائية كلها هنا، بحذافيرها، بِرُمَّتِها…. ختاما، كل شيء مما عشناه في جيلنا موجود: الصحافة، أساس التناوب، تازمامارت، مزاج فبراير، الميوعة العامة، الانتحاريون، الفن التشكيلي، الدارالبيضاء الهاربة، لكن الحكاية يمكن بسطها كالتالي، غادة طالبة اسمها من اسم غادة الكاميليا لألكسندر دوما، صارت صحافية استثنائية وحرة، تحب فريد العطار، الذكورة الناضجة، في أتون الجماليات..والرواية كلها تعبير عن هزيمة وجودية، لا تفضي إلى اليأس، بل إلى الأرق… صنو الشعر!