إن الجلسات الشفوية الشهرية في البرلمان وفي صورتها الحالية بشكل خاص، تعيد إلى طاولة النقاش طبيعة العلاقة بين الأغلبية والمعارضة، باعتبارها إحدى أرقى اللحظات التي تجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فهي من جهة مناسبة لاستعراض الإنجازات والكشف الشفاف والمسؤول عن الإكراهات، ومن جهة أخرى مناسبة للتثمين الواعي والنقد الهادف وتقديم البدائل الممكنة في جو ديمقراطي سليم، ثوابته المسؤولية والاحترام المتبادل. ... ففي هذا السياق وقبله وبعده نتفهم كفاعلات وفاعلين سياسيين مكونات الاختلاف التي تطبع مختلف الأطراف: * نتفهم الاختلافات المرجعية بين الناطقين باسم هذا الحزب أو ذاك، نتقبل التباينات الفكرية والعقدية لهذه الهيأة السياسية أو تلك، نعترف ونستوعب التعدد والتنوع المشاريعي في ظل ديمقراطية قائمة في أهم مرتكزاتها على تعدد المشهد الحزبي. * كما نتفهم كفاعلات وفاعلين سياسيين الاختلاف المواقفي: فمن الطبيعي أن تدافع الحكومة كأغلبية، بغض النظر عن طبيعة هذه الأغلبية ودواعي تحالف أطرافها- عن إنجازاتها وعن مشاريعها. ومن الطبيعي جدا أن تتولى المعارضة ،على اختلاف مكوناتها وتنوع أبعادها الفكرية مهمة النقد والمرافعة وتقديم البدائل والمقترحات. فما يرقى بهذه اللحظة هو نوعية أساليب تدبير الصراع بين الطرفين وذلك لأن السياسة في جميع الحالات ، ودون السقوط في نزعة خيرية رومانسية خيالية وغير مطلوبة ، فهي صراع بين الأفكار والمشاريع، بكل ما يعني المشروع ،تعريفا ، من توجه نحو المستقبل انطلاقا من رصيد الماضي وإمكانات الحاضر وعن طريق الحفر في الإمكانات قصد تحقيق فعل التجاوز لإنجاز ما يسميه سارتر «بالوثبة» التي تمكن من الانتقال من الوضعية الأصلية الحالية إلى الوضعية الجديدة المأمولة. فكل هيأة حزبية لا تمتلك هذا الرصيد ولا تستند في فعلها إلى إنجازات الماضي ومكتسباته ولا يحرك نهجها هذا التوجه المستقبلي من أجل إحداث التراكم الإيجابي والكيفي المطلوب، لا يجوز لها الإدعاء بأنها تمتلك مشروعا، اللهم إذا كنا نكتفي بالإمكانيات الإنزياحية التعبيرية التي تتيحها اللغة على مستوى الاستعارة والمجاز فلا يتجاوز عندئذ الفاعل السياسي مجال الادعاء. إن الفاعل السياسي الذي انبثق عن قناعات وتدرج في مختلف المستويات التنظيمية والفكرية، الفاعل السياسي الذي نشئ على الاقتران بين السياسة والأخلاق مؤهل بطبيعة تكوينه وعمق معرفته بالصراع السياسي وبالسبل الفكرية الراقية لتدبيره، مؤهل لأن يتفهم ويتفاعل مع نقاط الاختلاف المشار إليها، لأن ذلك هو الجزء الأكبر والتجلي الأفضل للوعي السياسي الضروري والمطلوب. لكن ما لا يمكن أن نتفهمه كمواطنين وكفاعلين سياسيين بشكل خاص، بل ما لا يمكن أن نتقبله هو أن يتبنى المسؤول السياسي خطاب الانفعال المنفلت من جميع أنواع الرقابة الذاتية والمعرفية والأخلاقية. فمن المعلوم أن مرجعية الانفعالات في المقاربات السيكولوجية للخطاب هي الغرائز والخلفيات اللاواعية وهيمنة النماذج الأولية الثقافية واللاشعورية، تلك النماذج النابعة من الأحكام المسبقة والجاهزة والواقعة خارج دائرة القصدية الواعية المدركة لمضمون الخطاب وشكله، والعارفة بحجم وقيمة المخاطب، والمستشرفة لتداعيات الأسلوب والمستشعرة بخطورة نتائجه والمستوفية لشروط الالتزامين الأخلاقي والسياسي، المفترضين في المناضلين السياسيين عموما وفي الناطق من موقع أعلى المسؤوليات السياسية المؤسساتية (رئاسة الحكومة) بشكل خاص. يفترض أن يكون الفاعل السياسي الذي نال ثقة منتخبيه، وذلك بغض النظر عن الأدوات المستخدمة للحصول على هذه الثقة وتحويلها إلى حق واستحقاق، يفترض فيه أن يكون قد عالج أولا العلاقة بين السياسة والأخلاق من جهة، وبين الخطاب ودرجة المسؤولية من جهة أخرى باعتبارها إحدى تجليات الترابط الأول، يفترض فيه أن يكون مؤهلا للتمييز بين اللغة كمزايدة انفعالية توظف خارج السياق المؤسساتي وبين الأسلوب المنتقى والمدروس كشهادة على رقي المخاطب واحترام المخاطب. ليست لغة العنف المستعملة في البرلمان من طرف رئيس الحكومة أساسا، سوى إشارة إلى مرجعية شخصية، لم يستطع صاحبها بعد حل مشكلته مع انفعالاته وتمثلاته الخاصة للآخر سواء كان هذا الآخر خصما سياسيا بإطلاق أو خصما سياسيا «امراة». وليس عنف اللغة سوى كشف عن مكنون ثقافي لا واع لم يستوعب بعد صاحبه مقاربة النوع تحت طائلة ثقافة تقليدية إقصائية ولا تاريخية، ثقافة تحجب عن صاحبها حجم المكتسبات المتراكمة وحتمية التغيرات السوسيولوجية الموضوعية، ثقافة تقف عائقا بينه كمؤسسة وبين المجتمع كمجموعة من الانتظارات الحيوية. وتغيب عن الفاعل نتيجة ذلك ضرورة حماية المكتسبات الفردية والجماعية وإلحاحية التفعيل اليقظ لكل من السلوك السياسي والنص القانوني، من أجل تحقيق الإضافة المطلوبة لتلك المكتسبات. وهذا ما يجعل الفاعل يضع نفسه خارج انتظارات مجتمعه وفي تقابل تام مع الإمكانات التي يمنحها الدستور كأعلى مرجعية قانونية وطنيا. صحيح أن المواطنة غير قابلة للتراتبية والمفاضلة، ولكن رئيس الحكومة ليس مواطنا عاديا، فهو مطالب إن بإمكاناته الذاتية أو حتى بفضل مساعدات داعمة، مطالب بمواجهة الزوج «لغة العنف وعنف اللغة» عن طريق عمليتين اثنتين متكاملتين: تحليل وتأويل الثقافة بشكل متنور ديمقراطي وإيجابي، وكذا القيام بعملية استبطانية يخضع فيها الشخص ذاته للتحليل والنقد والمراجعة والتصحيح. فلاشك أنه من شأن ذلك أن يساعد على تجاوز منزلقات اللغة ومطبات الفكر وعلى تجويد الاختيار لكل من الأفكار والأسلوب. ومعلوم أنني أتوجه رأسا إلى مضامين الخطاب في سياقها، ولا أقصد مطلقا تلك العبارات المقتطعة من النسق والتي وظفت، وبسوء نية خارج سياقاتها، فأثارت الكثير من الضجة المفتعلة والمجانية على مستوى التأويل، إذ تقتضي القراءة المتزنة والمتخلقة الابتعاد عن هذا النوع من التوظيف «الخبيث» للاقتطاعات في بنية النسق. وعلى مستوى المضمون أكتفي بالإشارة إلى نقطتين: * إن رئيس الحكومة هو رئيس سلطة تنفيذية، يفترض أن يحمل خطابه التوجه لكل المغاربة فيما يتعلق أساسا بالبرنامج المتعاقد عليه. ليست الجلسة الشهرية العلنية للإجابة عن الأسئلة الشفوية مناسبة للتعريف بحزبه والدعاية لصالحه، فلعل الشروط الأخلاقية الأساسية هي أن يميز رئيس الحكومة بين وجوده في مهرجانات ومؤتمرات حزبه وبين تواجده في المؤسسات الدستورية (الحكومة والبرلمان) فلو أدرك هذا الفاعل ذلك والتزم به لجنب نفسه وجنبنا جميعا ذلك الخطاب «السياسي» المتردي الحامل للمزايدة الانفعال. * وفي سياق المضمون أيضا، يكشف توجه رئيس الحكومة إلى النساء عن مغالطات جوهرية: فمن جهة يدل أسلوب التحدي المستعمل في جلسة علنية عن أخطاء سياسية عميقة، فالتحدي الحقيقي الموضوع أمام مؤسسة رئاسة الحكومة ارتباطا بالنساء، هو قدرة هذه المؤسسة على مواجهة ومعالجة مواطن الضعف والاختلافات التي نسجل من خلالها تراجعات بالنسبة للمكتسبات، كما نسجل من خلالها عدم احترام المواثيق الدولية الموقعة، نسجل من خلالها أيضا عجزا وضعفا في مجال التفعيل والتنزيل الديمقراطي للدستور، كما نسجل تراجعا متعلقا بصورة المغرب الحقوقي في الداخل والخارج. بعيدا عن لغة التبخيس والاستغلاء، إن التحدي الحقيقي الذي يفترض أن يشغل مؤسسة رئاسة الحكومة هو معالجة مواطن الضعف والاختلال الحقوقي: تعليم النساء وتمكينهن القانوني والاقتصادي والسياسي، وضع حد لزواج القاصرات، تقنين ورفع سن العمالة المنزلية إلى 18 سنة، تجريم وزجر مختلف أنواع العنف ضد النساء... وتفعيل الدستور وخاصة الفصلين 19 و164 ارتباطا بالمساواة والمناصفة. وقبل كل هذا وذاك إن التحدي الحقيقي هو فتح قنوات التواصل والإنصات لمختلف المؤسسات النسائية الحزبية والمدنية بشكل جدي وتشاركي لتوفير سبل النجاح لرفع هذا التحدي بشكل جماعي ومسؤول. أما إذا كان هذا التحدي المستعلي مقرونا بالإشارة إلى العدد (100 امرأة أمام البرلمان) فليعلم رئيس الحكومة أن النساء اللواتي يمارسن حقهن في التظاهر والاحتجاج لا يفعلن ذلك كما هو معلوم انطلاقا من العدد الإجمالي للمحتجات بل انطلاقا من مبدأ ديمقراطي مؤسساتي تمثيلي باعتبارهن يجسدن الديمقراطية التشاركية وينبن كرئيسات لجمعيات المجتمع المدني أو المنظمات السياسية عن الآلاف من الأخوات استنادا إلى شرعية التمثيلية الديمقراطية. وإلا فكيف ينظر السيد رئيس الحكومة إلى أعضاء البرلمان، هل هم مجرد أشخاص ينظر إليهم على قدر عددهم، أم أنهم نواب الشعب المنتخبون؟. فلاشك أن هذا الخطأ على مستوى المضمون ناتج عن سوء تقدير المكانة التي تحظى بها كل ديمقراطية تشاركية في علاقاتها وتضافرها مع جميع أنواع الديمقراطية التمثيلية كما نص عليها دستور 2011. إن تردي الخطاب على مستوى الشكل والمضمون، ليس سوى علامة دالة على المسخ الذي أصاب الزمن السياسي الحالي، إنه ليس سوى شهادة على فاعل سياسي مبتور لا يقظة له من اجل الاستفادة من حصيلة الفاعلين السابقين ولا قدرة له على بناء وتبني مشروع يتوجه نحو المستقبل. إلا أن الديمقراطية على «مساوئها» تعد وتؤكد أن الفاعل السياسي ليس قدرا ... * الكاتبة الوطنية للمنظمة الاشتراكية للنساء الاتحاديات