بعد أن وجه “خطابا الى قريته” الصغيرة في الجغرافيا والكبيرة في القلب، بني ونجل بتاونات، راكم الشاعر عبد السلام الموساوي منجزا شعريا لافتا قاده بعد أن أفشت أسراره “عصافير الوشاية” الى البحث عن “سقوف المجاز”، باحثا عن المدهش واللامدرك غير آبه بما “جناه الشعر عليه” في زمن التيه واللامعنى، مؤمنا بأنه جوهر الحياة إن لم يكن الحياة نفسها. ولأنه مؤمن بأن القصيدة، كما العاطفة، تحتاج الى شحذ بوقود المعنى، فقد انتظر بهدوء الشعراء، حتى وظب لها جِرْسا يليق برشاقة خصرها عنونه ب “لحن عسكري لأغنية عاطفية”. حصد الموساوي العديد من الجوائز اعترافا بمنجزه الشعري خاصة والكتابي عموما، فقد نال جائزة مجلة الفرسان الصادرة بباريس، عن أفضل قصيدة عربية في سنة 1992 ، جائزة فاس للإبداع والثقافة، جائزة بلند الحيدري الشعرية بمنتدى أصيلة الثقافي في 2000، جائزة نعمان للإبداع الشعري ببيروت في 2005. من مؤلفاته السردية نذكر: ” البنيات الدالة في شعر أمل دنقل”، “جمالية الموت في شعر محمود درويش”، “عناكب من دم”، ” إيقاعات ملونة في الشعر المغربي المعاصر” بالإضافة الى العديد من الكتب الجماعية. p الشاعر عبد السلام المساوي، نلاحظ مؤخرا إصدارك مجموعة من النصوص الشعرية، منها على سبيل الذكر:»قد أجد عمري في مكان آخر»، مصرّا بذلك على إعطاء معنى للشعر في زمن غياب المعنى وانتفاء أي قيمة له، لماذا هذا الإصرار؟ n الذي لا يؤمن بجدوى الشعر في الحياة لا يعرف معنى الحياة ذاتها. فالشعر استبصار وحدس ورؤيا ورؤية.. وبه ترتفع الذات في سماوات الدهشة بحثاً عن لحظات مقتطعة من المطلق. لذلك، فكلما كانت التجربة مكتنزة، كانت الرؤية حادة، وكانت اللغة مزدهرة برموزها ومرتبكة بمعجمها وتركيبها بالمعنى الإيجابي لدلالة الارتباك الذي يحيل، هنا، على ابتداع جمل طرية وغير مسبوقة، تزدحم فيها الدلالات والأبعاد، ويشح فيها اللفظ ويَضْمُر. ليس هناك إصرار على كتابة الشعر، وإنما الضرورة، أحياناً، هي ما يدفعني دفعاً إلى توثيق تلك اللحظات التي تشرق فيها شمس الحقيقة ليلا، وتهب فيها عواصف كثيرة لتبعثر ما جمعته من أفكار ومشاعر، فتختلط هذه بتلك، فيكون على اللغة أن تستوعب كل ذلك وهي تتحامل على مفرداتها وتراكيبها ومستحضراتها. دعك من العلوم التي نمت بجوار القصائد، لأن الأمر يغدو أشبه بطفيليات تنبت بجوار السنابل لتزاحمها وتفسدها، وأنا أعني هنا تلك العلوم التي اجتهدت في قياس الكم، واستخلاص القواعد وإلزام الشعراء بتكرارها في ما سيأتي من إبداعاتهم. وإذا عدت إلى سؤالك عن (إعطاء معنى للشعر في زمن غياب المعنى وانتفاء أية قيمة له)، فأستطيع القول: إن الشعر هو الذي يعطي المعنى وليس العكس. والشعر غريب ونادر كأي جمال آخر منذ كان الإنسان، وما شاهدناه من حركية عند جمهرة من الشعراء في بعض الأزمنة، إنما كان بسبب دخول عناصر من السياسة والسلطة في المشهد وإغراء الشعراء ببريق حياة الرفاهية، ولنتذكر حالة المتنبي الذي ظل محبوسا في بلاط كافور الإخشيدي في انتظار أن يقطعه ثغرا ليحكمه أو ولاية ليسود بها؛ وقد نسي كافور وعده وهو يتبختر في حلل من الصور والاستعارات، يبني بها أمجاده الكاذبة. فالشاعر يطلب سلطة بعد أن أعياه مجد الشعر، والحاكم يطلب بهاء اللغة ولو كانت كاذبة لكي يقوي سلطته. وهي معادلة صعبة التحقيق، فانتهت إلى ما انتهت إليه من تنابذ وتنافر وهروب الشاعر بعد أن فخخ القصر بقصيدة قنبلة، ليس لها من الشعر إلا ما كان من القواعد والتشبيهات. وفي زمننا هذا، هناك (متنبيون) من طالبي المال والجاه يطوفون بدواوين الوزراء، بعد أن أعياهم النباح والهجاء، واكتشفوا أن الشعر بمفهومهم الخاص طريق سالك إلى ما يبحثون عنه من ريع سائغ ومال سائب. p في كتابك «وللمتلقي واسع التأويل» مايجعلنا نعتقد أنك مع إطلاقية التأويل ونزيفه، وهذا يضعنا أمام مشكلات في فهم الشعر واستلزاماته، هل نحن في حاجة للإفراط في التأويل لمقاربة معنى « الشعر»؟ n إذا كان النص الشعري أساساً إفراطاً في تأويل العالم والوجود، فكيف نتصور إطلاق تأويل بلا حدود، ونحن نتلقى ذلك النص الشعري؟ ناقد النص الشعري ينبغي أن يشتمل على مؤهلات ضرورية تسمح له بالاقتراب من النص الشعري وتأويله. وهذه المؤهلات هي التي تعصمه من الانجراف وراء نزيف التأويل. وكلما كان هذا الناقد شاعرا كلما كان عمله النقدي ذا مصداقية. ثم إن تلقي الشعر لا يكمن في أن يجهد المتلقي أو القارئ نفسه في البحث عن المقصدية، أو عن معنى معين يخفيه الشاعر بين مكونات قصيدته، أو من حاصل تفاعل هذه المكونات مجتمعة، لأن الشاعر نفسه، لو طلبنا منه أن يكشف عن ذلك المعنى سيقف حائرا مترددا. وهذا الأمر مردود إلى الطبيعة الملتبسة لمفهوم النص الشعري المعاصر الذي يقول كل شيء، ولا يقول شيئا محددا في الآن نفسه. إنها طبيعة تطور الأشكال الأدبية التي سمت بالنص من أحادية الصوت والدلالة، إلى مراقي التعدد والانفتاح. ولعل هذا من الأسباب التي دعت دارسي الفن الشعري إلى تطوير أدواتهم وتحديثها وتنويع مستوياتها، تبعا لتعدد المكونات البنائية للنص وانفتاحه اللامحدود على المرجعيات الثقافية المتعددة، التي ينهل منها صاحبه، أو يتمثلها بطرق يستحيل بسطها وتحديدها. وقد أولت نظريات جماليات التلقي، منذ انبثاقها عناية خاصة للنص وقارئه، بحثا عن توفير الأجواء الملائمة لقراءة النص بشكل يجعلها قراءة تفاعلية، تستفيد من عطاءاته وتفيدها، بدون أن تدعي استهلاكه واستنفاده. ذلك أن «القصيدة بنية رمزية، يقيمها «تنظيم لفظي» ليس على نمط الواقع المائل، وإنما على نمط الصِّلات المتبادلة والمتجادلة في جوهر ذلك الواقع وحقيقته». كما يذهب إلى ذلك عبد المنعم تليمة في كتابه «مدخل إلى علم الجمال الأدبي». وهذا لا يعني أن حدود التلاقي بين النص وقارئه متباعدة أو متلاشية، بل إن هذه الحدود تتقارب بينهما أو تتباعد تبعا لملكات القارئ واستعداداته المعرفية والذوقية. فالنص مهما بدا نائيا، فإنه يترك دائما خيوطا سحرية متاحة لمهارات القارئ ولقدراته في الظفر بالمفاتيح السرية التي تجعل أبواب الولوج مفتوحة على مصراعيها؛ وعلى قارئ النص الشعري أن يعي بأن «مشكل الشاعر – إذن – مشكل (تشكيل) وليس مشكل (توصيل) ولا مشكل (تجميل). فليس ثمة معنى يريد الشاعر أن (يوصله) وليس ثمة (غرض) يريد أن يعبر عنه، وإنما ثمة (موقف) من الواقع يسعى الشاعر إلى تشكيله.» على حد تعبير عبد المنعم تليمة في كتابه المشار إليه سابقا. p في كتابك الأخير ما يجعلنا نتساءل: هل حقا أن الشاعر مطالب بتشكيل موقف ما؟ هل الشعر أداة للتعبير عن المواقف أم هو صياغة للممكن الواقعي؟ n لا يمكن الفصل بين تشكيل موقف الشاعر وبين صياغته لممكن واقعي، لأن التركيز على مكانة القارئ في عملية التلقي، لا تعني الإجهاز على حضور الشاعر أو صاحب النص، فهو صاحب الإنتاج، بل هو الركيزة التي عليها المدار، باعتباره خالقا للفكرة الإبداعية، ولتطورها عبر تولدات وامتدادات المواد اللغوية والثقافية والرمزية التي تواشجت، أو تنافرت، أو تعاضدت، لتسفر عن وحدة كلية عاكسة بطريقة ما لمواقف الشاعر من العالم ومن الوجود. والنص يكتسب لونه ونوعه ومواقفه، من الطبيعة الأنتولوجية والتكوينية لصاحبه. وهكذا، فإن تحييد الوجود المادي للشاعر – لحظة الاشتغال التحليلي على النص ما هو إلا إجراء وقائي من اختلاط الأصوات، وغلبة الجلبة على الفحص النقدي والقرائي الذي يتوخى توفير حدود معقولة من العملية المطلوبة لضمان مصداقية النتائج. والشاعر كذلك يصوغ بحدسه ومعرفته ورؤياه ملامح لما ينبغي أن تكون عليه الحياة، وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان. فالقصيدة منهج في العيش وتوق مستمر لتجاوز الواقع الكائن بجميع تجلياته البيولوجية والفكرية والقيمية والحضارية. والشعراء في الأصل هم واضعو دستور الحياة وحاملو المصباح في ليل العالم. p تفتقد الساحة الابداعية إلى شعراء الموقف الشعري كأمل دنقل وخليل حاوي ومحمود درويش وكلهم شعراء لم تعد لهم امتدادت حاليا إلا في ما ندر، ما سبب هذا الفراغ التعبيري في الواقع الفني العربي؟ n ليس هناك فراغ تعبيري في الواقع الفني العربي. والشعراء ليسوا أنماطا للاحتذاء. صحيح أن كل شاعر يترك أثرا خاصا يدل عليه، ويشكل في ما بعد مرجعية لمن سيأتي من بعده. والأسماء التي أشرت إليها في سؤالك ما يفرقها يفوق بكثير مما يجمعها. وكل اسم منها اتجاه قائم بذاته. ولا ننسى أن نربط التجارب الإبداعية بالسياقات الاجتماعية والتاريخية التي انحدرت منها. فأمل دنقل ارتبط بالمنحى القومي في مواقفه السياسية (الصراع العربي الإسرائيلي)، وفي أدواته الجمالية (التركيز على التوظيف الجمالي للتراث القومي العربي والإسلامي). ومحمود درويش وجد نفسه بلا طفولة في وطن ضائع، لكن ضرورة المقاومة لم تفقده القيم الجمالية التي تتأسس عليها تلك المقاومة. أما خليل حاوي فقد اختار أن يواجه العالم بكل ما لديه، وعندما لم يسعفه الشعر، ابتكر موقفا وجوديا خاصا. من هنا لا أوافق على كون ساحة الشعراء تعاني فراغا في التعبير عن الواقع الفني العربي. لقد زاد عدد الشعراء وزاد حجم المقول الشعري، وقل النقاد الذين بمقدورهم الكشف عن حقيقة ما يقال اليوم من شعر في علاقته بالتحولات الفكرية والحضارية والجمالية التي يشهدها العالم العربي في علاقته بالعالم أجمع، بعد أن ضاقت المسافات وتقلصت بفعل التكنولوجيات الحديثة.