شغب جميل ذاك الذي أتاه الكاتب والباحث المغربي إدريس جيدان، في كتابه الجديد «شظايا طفولة» (حتى وإن كنت أفضل ترجمة «Eclats» إلى بريق)، الصادر في طباعة باذخة عن دار النشر «الفنك» بالدار البيضاء (ضمن سلسة «مفكرة»، أكتوبر 2019 – 80 درهما، والذي أهداه لابنيه جاد وريان).. الذي هو شغب طفولة، تكاد تتطابق مع الحكمة التي كان قد أطلقها منذ عقود الأديب السوري الراحل فيصل دراج، التي تفيد أنه: «إذا كان قدرنا أن نكبر، فإن مأساتنا أننا نكبر بعيدين عن طفولتنا». في هذا النص الشذري، العالي التكثيف، نكتشف الكاتب إدريس جيدان آخر، سادرا في بوح وحميمية آسرة ومعدية بدرجات عالية من الجمال. بل مع تواصل القراءة (العاشقة) نستعيد نحن أيضا قصة طفولتنا كما عشناها في تعددها الإنساني والاجتماعي والتربوي والسلوكي، وفي ما منحته لنا من ضفاف للشغب، كنا من خلالها نكتسب عمودنا الفقري في الوعي، في علاقة مع العالم وأشيائه، والناس وطبائعهم. لعل أهم ما في كتاب «شظايا (بريق) طفولة»، لغته الشديدة التركيب، التي (وهي تمارس البوح) تأخذ القارئ إلى ضفاف الفلسفة وعلم النفس والسيمياء كعلوم تفسر الوقائع والأحداث، وتمنحها معانيَ ثاوية، مع التسطير على أن للكاتب استيعابا عميقا باللغة الفرنسية، ما مكنه من أن يبني الجملة بخلفية معرفية، لا توهب لغير العالم ب «سر الحرف» كهوية تعبيرية، أي أن الكاتب مستوعب جيد للبنية الدلالية للجملة التعبيرية باللسان الفرنسي، وهذا أمر قليل ضمن كوكبة الكتاب المغاربة باللغة الفرنسية من الجيل الجديد، لا نجد له نظائر سوى في أسلوب الرواد من قيمة محمد خير الدين ومحمد لفتاح وعبد الكبير الخطيبي. الأمر أشبه، في هذا النص النثري الطويل، بمن يفتح درجا في غرفة الذكريات، كي تخرج إليه متراقصة قصة الطفولة التي كان بطلها، كي تسائله (ربما تحاسبه) حول الذي صاره وقد اقترف الحياة وكبر. يكاد الكاتب يستشعر غربة أمام الطفل الذي كانه، من حيث إنه يعود كي يذكره بالتفاصيل الصغيرة للحياة التي بنت وعيه، في علاقة مع الأب (الدائم الغياب) مع الأم (القوية الحضور)، مع الجدة (التي كتب عنها واحدة من أجمل الشذرات/ الجمل القفل، حين وصفها ب: «الأرض البكر التي نتعلم فيها المشي.. وأبدا لن تذوب حلاوة محبتهن فينا».. ص: 88)، مع الطفلة (المريضة التي نحت حولها كلمات كالبلور في ص 16)، مع المدرسة والقسم وممسحة السبورة التي يفرح للتطوع لنفض الغبار الأبيض للطبشور عنها خارج الفصل… كي نكتشف مع توالي الصفحات أننا أمام عرض «وضعيات» (Situations) لطفولة بَعُدَت الآن. النص، هو أيضا بعض من البوح، من موقع «عين الطفل»، حول تزوبع علاقته بالأب، ذاك الحاضر في رجاء المحبة وشغف الشوق، الغائب عن طرف السرير، إما في العمل (المتغير دوما من بلد إلى بلد) أو في حياة زوجية أخرى مع سيدة أخرى غير أم الطفل. مع بوح النص، نكتشف ذلك اليقين البسيط، الذي قليلا ما يتقبله «عقلنا البكر» في يفاعته الأولى، والذي لا يدرك كنهه الآباء (من موقع ذكورتهم) دوما كما يجب، الذي خلاصته : «أن الأم عند الطفل، ليست سوى امرأة بين النساء بالنسبة للأب». فالعلاقة هنا غير مستقيمة الانتماء، لأن الأم عند الطفل فريدة وواحدة، والزوجة عند الأب مجرد امرأة بين تعدد للنساء. هنا الطفل يعيش جرحه الخاص بين الأم الباقية والأب الغائب. النص، هو أيضا محاولة للفهم أمام سؤال المرض وسؤال الموت.. النص، هو أيضا محاولة لتملك روح المغامرة التي لا تقيم وزنا للخوف في عرف الطفولة.. النص، هو أيضا محاولة لرسم شغف التشبه بالكبار، في ربطة العنق، في العطر، في اللباس، في السعي لتصاعد المعنى دون ارتفاع طول الجسم.. النص، هو أيضا محاولة لتمثل معنى الغياب وسطوته، ومعنى الترحال من صداقات إلى أخرى، ومن قسم دراسي إلى آخر (« أبي المبجل، يكفي أن يغير من رئيسه في العمل كي أغير من معلمتي.. من كرسي الدراسة، من ساحة الاستراحة، من بائع الحلوى، وأيضا من أجمل أصدقائي» ص: 89). النص، هو أيضا محاولة محاورة مع مملكة النمل وتمثل جديتها في العمل، والضجر من ذلك أيضا، والسعي الطفل لتدمير نظامها البديع باللعب مع أذرعها الغاية في النحافة.. النص، هو أخيرا محاولة لفهم الكبار.. هو هذه الخاتمة المفتوحة على مدى الوعي، مدى الفهم، مدى التفسير، مدى الالتباس أيضا: «وماذا لو لم يكن الأمر في الحقيقة، سوى صعود بسيط في الهاوية، رقصة فريدة، ترقيع مثالي، ربما تركيب صور؟.. شئ ما، إذن، لكن ما هو؟.. حالة، مثل صعود إلى الجنة، طوق هلوسات، بلاد لا تعرف أن تبوح لنا باسمها، غريبة، إحساس مثير، أشبه بما تحياه البراعم… السهاد، والقوى المتعبة بليل للثمالة طويل في قصره، مضاء دوما بخوف فرحان.. ما هَمَّ إذن ما سنعُبُّه.. ما همَّ ما سيقدمه بليل الساقي والساقية، الجاهلين أكيدا بعتاقة الخمر.. فقد فقدوا بوصلة الطريق إلى القبو.. نعم الطفولة قبو، لكنها ذات قيمة.. ثقوا تماما، أن طفولتي تقف حين لا يبقى للنشوة (الدبيب) من أثر علي، فقد كبرنا جميعنا.. وانتهت الحكاية».. (ص. ص: 136- 137). (*) تجدر الإشارة إلى أن ثمة العديد من الكتب التي كان موضوعها الذاكرة واستعادة الطفولة، قد صدرت بذات العنوان نذكر منها: «شظايا طفولة» للكاتبة الفرنسية ماري سيزون، الذي هو نص أدبي حكائي. ثم «شظايا طفولة» للشاعر الفرنسي ميشال لاكرونج، الذي هو ذاكرة مدينته ديجون، وأيضا «شظايا طفولة ليونية» (نسبة إلى مدينة ليون الفرنسية) للشاعر الفرنسي مارسيل ميغوزي. لكن الفرق في العنوان بين كتاب إدريس جيدان وهذه الكتب الثلاثة، هو أن «الطفولة» ترد فيها جميعها بصيغة المفرد، بينما في عنوان كتابه ترد «الطفولة» بصيغة الجمع.