من بين المشاريع النقدية الوازنة، التي واكبت تطور الفكر والأدب العربيين لما يزيد عن أربعة عقود ، نجد مشروع محمد مفتاح ، الذي أرسى دعائمه في مختلف حقول وألوان المعرفة ؛ من الديني إلى الشعري، ومن الحكائي إلى الموسيقي، ومن التاريخي إلى الفلسفي . يتميز محمد مفتاح ، في مسيرته العلمية ، بالصرامة المنهجية في اختيار المفاهيم والمصطلحات ، متجاوزا ، بذلك، تلك النظرة الضيقة التي يُنظر بها إلى التراث العربي . ولقد أضحى هذا الأخير في نظر محمد مفتاح ، مجالا واسعا للبحث والتطوير ، بهدف الوصول إلى المشترك العام في التاريخ الإنساني . كان كتابه « تحقيق شعر لسان الدين بن الخطيب « المنطلق والأساس لهذا المشروع النقدي الكبير ، وما يستدعي ذلك من وفير العلم بعلوم الآلة . ومن هنا ، كان التحقيق يتطلب جهدا معرفيا كبيرا، بل بحثا تاريخيا وأركيولوجيا في الإبدال اللغوي والمكاني . فمهما كان اختيار القرن الثامن الهجري ، كحقبة تاريخية أو اختيار أحد أعلامها الأجلاء ، حسب تعبير الصوفيين ، فإن لسان الدين بن الخطيب تتقاطع عنده المشارب المعرفية من نقلية وعقلية ؛ فهو الفقيه والأديب والشاعر والفيلسوف والطبيب والمؤرخ ، والمتصوف ووزير لبني الأحمر في مملكة غرناطة . إن هذا الاختيار عند محمد مفتاح ، كان عن وعي وبصيرة ، خصوصا عندما جعله مفتتح مسيرته العلمية ومستتبعاتها ؛ فالمرحلة التاريخية الدقيقة المتمثلة في صراعات ملوك الطوائف في الأندلس ، وما ترتب عنها من طرد لابن الخطيب من غرناطة ، واستقراره بالمغرب ، كان لها كبير الأثر في التحقيق الذي أخرجه محمد مفتاح ؛ فأضحى الوزير المطرود فاعلا في البيئة المغربية . وعلى أساسه كانت الدراسة في الشعر العربي، عند محمد مفتاح ، ممزوجة ببعد سوسيولوجي تاريخي ، حيث إن البلاغة ، كعلم يدرس الشعر ، شديدة الارتباط بالتاريخ ، من زاوية التغيرات والإبدالات التي تلحق المفهوم . فحسب محمد العمري فمفهوم البلاغة يتغير بحسب الثقافات والحقب ؛ فدلالاتها المعرفية عند الجاحظ ، مثلا ، تختلف عن ابن سنان الخفاجي ، علاوة على أن مفهومها عند عبد القاهر الجرجاني بعيد كل البعد عن السكاكي وابن النديم ، ففي هذا المعلن كان لزاما على الباحث أن يغير من أدوات البحث وآلياته ومنهاجه . وعلى ضوء ذلك يظهر أن المزية من البحث العلمي ، حسب محمد مفتاح ، هي حصول ما أسماه ب «القصدية « ، إذ أن هذا المصطلح أي القصدية انتشر كانتشار النار في الهشيم في الأوساط الثقافية التي تعنى بالدراسات النقدية والشعرية ، فبدأت تطالعنا تعابيرُ من قبيل : قصدية القصيدة أو قصدية الدراسة . ومنه ، يرى ، محمد مفتاح أن لا مزية من بحث علمي أكاديمي لم يكن طموحه وهدفه هو توليد قاموس جديد من المصطلحات يخدم البحث العلمي . فبالعودة إلى التحقيق السابق ، الذي أنجزه الباحث عن لسان الدين بن الخطيب، يعنُّ مدى اهتمام محمد مفتاح بالتراث العربي ، بقصدية إزالة الشوائب التي مافتئت تعلق به ، جراء التوصيفات والأحكام الجاهزة التي ألفقها له أي التراث بعض المستشرقين . صحيح أن ما أسداه هؤلاء للخطاب الصوفي من جليل الأعمال ؛ كالتعريف بأبرز رواده وتنوير بعض نظرياته واتجاهاته، إلا أن ذلك يظل ، في نظر محمد مفتاح ، قاصرا وغير كاف ؛ لأن الأحكام الجاهزة هي التي تغذي الدراسات المتعلقة بالتراث . وبالمقابل فإن التعامل مع التراث العربي ، حسب مفتاح ، يستدعي النهل المباشر من مختلف العلوم الإنسانية والإجتماعية ، مادام الخطاب بمختلف مرجعياته حاضرا في التركيبة الاجتماعية للثقافة العربية، وما يحتاجه من تفسير وتأويل . بعيدا عن التصوف قريبا من الشعر ، استظل محمد مفتاح بعلوم البلاغة ؛ علم البيان والبديع والمعاني ؛ بهدف مقاربة مزية الخطاب الشعري . ففي ضوء التوظيفات الجديدة ، لمفاهيمَ تم توليدها وإخراجها إخراجا وظيفيا جديدا كالتشاكل والتباين ، يظهر مدى وسع الاختراق الكوسموسي ؛ الذي يتعرض له البناء المعرفي . إلا أن تداخل الحقول المعرفية جعل معالم هذه المفاهيم تستغيم ، مادام الانتقال من ميدان إلى ميدان آخر يكون انتقالا سلسا مبنيا على قيمة التجاور لا التباعد في المبنى و المعنى . إن العالم اللسني « كريماص « ، حسب محمد مفتاح ، هو أول من نقل مفهوم التشاكل من ميدان الفيزياء إلى ميدان اللسانيات ، ليقتحم بعد ذلك التيار السيميوطيقي المتراوح بين الرمزي والدلالي . سيكون طبيعيا ، إذا ، أن يظهر لهذه المصطلحات أثر في المشروع النقدي لمحمد مفتاح . فرائية ابن عبدون ، الشهيرة ، كانت مسرحا لتجريب أدوات حديثة في التأويل والتفسير، مبئرا محمد مفتاح مفاهيم بمعان جديدة تحوم حول المركز؛ فما كان للتشاكل الصوتي والنبري والإيقاعي ، إلا أن يوسِّع ما بدأته الدراسات الحديثة في الغرب حول تلقي الشعر . يقول ابن عبدون في بيت الاستهلال من البسيط : الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح و الصور ؟ جعل محمد مفتاح ، من التشاكل ، وسيطا معرفيا ودلاليا وايقاعيا في تحليله للقصيدة ، علاوة على توظيف التقابل الدلالي بين ما هو خبري وإنشائي أو بين ما له صلة بمعنى ومبنى القصيدة . لكن كيف أخرج الاستفهام عن دوره الطبيعي المألوف ؟ عن هذا السؤال يجيبنا محمد مفتاح في كتابه « تحليل الخطاب الشعري ، استراتيجية التناص « بقوله إن للتناص صلة تربط بين الكلمتين والمعنيين ، فهذا الخروج لا يمكن إدراكه إلا في شروط من التراكم على مستوى التجارب الشعرية لشعراءَ سابقين . يبدو أن للشرط التاريخي دورا كبيرا في بلورة مشاريع تخترق بنيات الثقافة العربية ، كما أن للتبادل الثقافي الموسع يد طولى في إبراز الفكر ، الذي يخدم التطور الإنساني . فضلا عن ذلك ، فمحمد مفتاح جالس ، في كلية الآداب بالرباط ، البنيوي الفرنسي رولان بارث ، ولعل في ذلك ما يشير إلى الانفتاح الثقافي الحاصل على الموجات الأيديولوجية ، التي كانت متأججة في فرنسا منتصف القرن الماضي . أما والوضع هكذا ، فإن لأواصر الصداقات ، التي تعتمل في خفاء ، تأثيرا جوهريا في المسار العلمي لمحمد مفتاح انطلاقا من محمد أركون إلى محمد عابد الجابري، مرورا بعبد الفتاح كيليطو وطه عبد الرحمان والشاعر المغربي محمد بنيس وآخرين … فكان محمد مفتاح ، فعلا ، رمزا وهرما وواجهة ثقافية في المغرب وفي العالم العربي ؛ لما ألفه من مراجع يخدم بها الفكر والنقد على حد سواء .