استحثت خطاها صباح ذاك اليوم الخريفي نحو منزل خالتها و التي تعتبر في الوقت ذاته والدتها بالتبني، من اجل مدّها بوجبة الفطور التي لا تعدو ان تكون مجرد خبز حاف و إبريق شاي، فهي التي دأبت على الاعتناء بها و تزويدها بوجبات الاكل على اعتبار أنها تعيش وحيدة ببيتها المتواضع من دون زوج أو أبناء حيث حرمتها لعنة العقم من إنجاب أولاد ترتمي بين أحضانهم عندما زحف بها العمر نحو سنين الخريف. فوجئت القريبة بوالدتها بالتبني منبطحة ببهو المنزل فخالت أن ازمة صحية قد ألمت بها على حين غرة فقدت على إثرها الوعي لتخر أرضا، سيما و انها تعاني من مرضي السكري و الضغط الدموي، تخلصت من الآنية التي وضعت بها وجبة الفطور، و هرولت نحو الأم المسكينة حيث شرعت تقلب فيها ذات اليمين و ذات الشمال و كلها أمل ان ترد على ندائها لها بكلمة أو حركة، إلا أنه سرعان ما تبددت آمالها عندما اكتشفت بأنها جثة هامدة بل و تحمل آثار عنف على مستوى عنقها، كما أثار انتباهها اختفاء بعض الحلي و الأقراط الذهبية التي كانت تزين معصمها و أذنيها، ما أكد لها بأن أياد آثمة قد كتمت أنفاسها للأبد. نهاية عجوز على أياد آثمة أطلقت صرخة مدوية وصل صداها إلى ساكنة الدوار حيث تحلق الجميع حول جثة العجوز التي بدت في لباسها الرث بل و تحمل بعض الخدوش على مستوى عنقها و كدمات زرقاء بوجهها و بطنها، مما يوحي منذ أول نظرة بأن الامر يتعلق بجريمة قتل. تم إشعار مصالح الدرك الملكي فهرعت دورية على الفور إلى مكان مسرح العثور على جثة الهالكة، حيث ضُرب طوق أمني على المنزل إذ اتخذ الدركيون مجموعة من التدابير و الإجراءات الميدانية منها أخذ عينات من دم الضحية، لإرسالها إلى مختبر التحليلات والأبحاث الطبية والعلمية التابع للدرك الملكي بالرباط، في أفق سلك جميع السبل التي بإمكانها أن تقودهم إلى فك لعز هذه الجريمة، قبل أن يشرفوا على نقل الجثة إلى قسم حفظ الأموات بالمستشفى الإقليمي قصد إخضاعها لتشريح طبي من شأن نتائجه أن تساهم هي الاخرى في إماطة اللثام عن ظروف و ملابسات الحادث الذي هزّ مشاعر سكان الدوار الذين طالما اعتبروا الهالكة بمثابة الام الحنون التي لم تلد لها بطنها أبناء، سيما و انها كانت محبوبة من لدن الجميع صغيرهم و كبيرهم، ذكورهم و إناثهم، فقد خوّل لها كبر سنها الذي ناهز الثمانين سنة أن تكون صاحبة الكلمة الفصل في جميع الخلافات التي تنشب بين الاهل و الجيران و هو ما جعلها محط احترام و تقدير من طرف الكبير قبل الصغير. الإخوة يشككون في الوفاة ويوجهون الإتهام واصل المحققون تحرياتهم من أجل الوصول إلى حقيقة الجريمة التي استهدفت عجوز أدار لها الزمن ظهره فلم يعد تختزن لها غير الوحدة و الألم، فهي إمرأة عاقر لم تفرح يوما بوليد من صلبها كما انها تعاني من إعاقة على مستوى الرجل و تبعات مرض السكري و ارتفاع الضغط الدموي. استمع الدركيون لأشقاء الهالكة فوجهوا شكوكهم جميعا إلى سين الذي عُرف بين سكان الدوار بسلوكاته غير السوية جراء إدمانه على احتساء الخمرة التي لم يستطع التخلص منها رغم بلوغه من الكبر عتيا إذ تجاوز سنه العقد السادس من العمر، و هو ما جعله يحظى بسمعة غير محمودة بين الجيران و الأقارب بل و حتى بين بعض أبنائه الستة. و مما زاد من شكوك أشقاء الهالكة تجاه رجل ستيني في اقتراف جريمة قتل في حق أختهم هو اختفاؤه عن الأنظار منذ شيوع خبر العثور على جثتها ببهو منزلها المتواضع، مما حال دون حضوره مراسيم تشييع جنازتها نحو مثواها الاخير، و هو ما أثار انتباه سكان الدوار أثناء تقديمهم العزاء لذوي الهالكة، بل و شكّل نقطة انطلاقة لتحقيقات رجال الدرك الملكي من اجل فك لغز الجريمة. اعتراف هاتفي زكّت تصريحات ابن سين شكوك المحققين في ضلوع الأخير وراء جريمة القتل التي راحت ضحيتها المرأة العجوز، إذ أكد أن والده شخص منحرف يجرؤ على ارتكاب أبشع الجرائم بسبب إدمانه على شرب الخمر، و هو ما كان يفقده صوابه منذ أن كان هو نفسه صغيرا حيث ينهال على والدته ضربا أمام مرأى و مسمع أولادها، و شدّد الابن على أن والده قد يقترف من الجرائم اخطرها، كيف لا؟ و هو الذي يجرؤ على تدنيس حرمة مسجد الدوار عندما تلعب الخمرة برأسه إذ يتأبط قنينته و يصعد إلى صومعة المسجد ذاته و يؤذن في الناس من اجل أداء الصلاة. زادت حدة الشكوك تجاه سين مما دفع رجال الدرك الملكي إلى الاتصال به هاتفيا في محاولة للإيقاع به، حيث اعترف بارتكابه جريمة القتل في حق الهالكة، قبل أن يبدي رغبته في وضع حد لحياته عوض أن يقضي ما تبقى من عمره خلف أسوار السجن. الدرك يطيح بالقاتل عبر كمين اختفى سين عن الأنظار بعدما اتخذ من إحدى الغابات ملاذا آمنا له، حيث أصبح يعيش حياة التسول و التشرد فيعتمد في توفير لقمته على صدقات المحسنين و ما تجود به قمامات الأزبال من بقايا الأطعمة، و هو ما زاد من صعوبة مأمورية رجال الدرك الملكي الذين باتوا يسابقون الزمن من أجل إيقافه، مما جعل عبقريتهم تتفتق على ضرورة نصب كمين للإيقاع به، فكثفوا تحرياتهم قصد الوصول إلى أحد أقاربه الذي ضرب معه موعد للقاء بإحدى مقاهي المدينة بعدما كشف له بأن المحققين قدموا له عدة ضمانات بعدم اعتقاله. حضر سين في الوقت و المكان المحددين ليجد في انتظاره خاله و أحد الدركيين المكلفين بالبحث في قضية مقتل العجوز تناول الجميع بعض المشروبات بموازاة مع تجاذب أطراف الحديث حول موضوع الجريمة حيث اعترف مجددا المشتبه فيه بقتل الهالكة. طلب الدركي من سين أن يرافقه إلى مركز الدرك الملكي قصد القيام ببعض الإجراءات الروتينية قبل إخلاء سبيله، لم يمانع الرجل سيما و أنه عبر عن ارتياحه لمرافقة خاله له في هذا المشوار. الخمر قاده الى إرتكاب جريمة جلس امام المحققين و اطلق العنان للسانه يحكي فصول الجريمة دون مواراة و لا مواربة، فقد أدمن على احتساء الخمرة منذ أمد بعيد و هو ما حوّل حياته إلى جحيم لا يطاق، حيث دأب على تعنيف زوجته كلما دبت الكحول في شرايينه و هو ما يجعلها تغادر بيت الزوجية دون سابق إشعار. و ما إن لعبت الخمرة برأسه ليلة وقوع الجريمة حتى قرر خوض رحلة بحث عن زوجته بين منازل الدوار في أفق إرجاعها إلى بيت الزوجية، فكان ان ولج بيت الهالكة في أول محطة له حيث استفسرها عن زوجته التي حاول مصالحتها حتى تتنازل له عن شكاية رفعتها ضده من فرط الاعتداء الجسدي عليها. لم تستسغ الضحية اقتحام سين لبيتها في تلك الساعة الليلية و هو في حالة غير طبيعية، فشرعت توجه له اللوم و العتاب، ما لم يتقبله الجاني الذي فقد السيطرة على أعصابه لتتصاعد حدة الملاسنات بينهما التي ما فتئت أن تحولت إلى اشتباك بالأيدي إذ أحكم المتهم قبضته على العجوز دونما رحمة أو شفقة لكبر سنها أو حالتها الصحية المتردية جراء الإعاقة و مرض السكري و ضغط الدم، بل و لم يتركها إلا و هي جثة هامدة إذ فاضت روحها بعدما خنق أنفاسها بشكل تهشمت معه حنجرتها المترهلة. تصريحات كلها تدين المتهم المحققون وبعد إعادة الاستماع الى أقارب المتهم والضحية أكد ابن المتهم (رغم أنه والدي فإني أؤكد لكم أنه شخص منحرف وخطير، فمنذ نعومة أظافري وأنا أتابع تعذيبه لوالدتي المسكينة، إذ طالما اعتدى عليها بالضرب المبرح، و ذلك نتيجة إدمانه على شرب الخمر دونما توقف، و هو ما يجعله يقوم بأي تصرف قبيح، لا يخطر على بال بشر، فكيف لا وهو الذي يمسك قنينة الخمر، ويصعد إلى صومعة مسجد الدوار، ويؤذن للصلاة، أليس هذا من أفعال الشيطان (...) ؟) أما اخوة الهالكة فقد اكدوا (لقد أشعرنا من طرف زوج ابنة أختنا التي هي في الوقت ذاته ابنة الهالكة بالتبني بالعثور على جثة هذه الاخيرة ببهو منزلها الذي تقطنه وحيدة، و لا أحد من ساكنة الدوار قد يجرؤ على ارتكاب هذا الفعل الشنيع عدا سين الذي عرف بسلوكاته المضطربة من فرط تناوله للخمور، كما أنه اختفى عن الأنظار منذ شيوع خبر العثور على أختنا جثة هامدة.) أما الجاني فقد صرح بما يلي ( أنا رجل متزوج و لدي 6 أبناء 3 منهم ذكور، أدمنت على شرب الخمرة، مما جعلني كثير الخلاف مع زوجتي لتتحول حياتي إلى جحيم لا يطاق، ليلة النازلة احتسيت كمية كبيرة من الخمر الاحمر و ماء الحياة قبل أن تراودني رغبة في البحث عن زوجتي التي كانت قد غادرت المنزل بسبب إحدى الخلافات بيني و بينها، لألج بيت الضحية التي كالت لي سيلا من السب و الشتم جعل الدماء تغلي في عروقي و دفعتني إلى الاعتداء عليها حد القتل) وبعد احالته على المحكمة اكد امام اعضائها ما جاء في تصريحاته امام المحققين وبعد أن اعلن عن انتهاء المناقشة ادين المتهم بالسجن المؤبد