كان البيت متواضعا وصاحبته متميزة بثقافتها العالية وحذاقتها كذلك استقبلتنا بحفاوة وبأناقة نادرتين، لباسها كان تقليديا أصيلا، فهي سليلة عائلة راقية اختارت الاقتران بمن أحبت، والاعتماد على نفسها وتحدي جميع المعيقات… خصوصا وأنّ مسارها كان سيكون أسهل لو استفادت من إرث عائلتها المادي . غيثة بوهلال وافقت زوجها بالاستقلال عن الأهل و بناء أسرة بسيطة و غنية بأخلاقها. تحلق الجميع حول كأس شاي في انتظار آخر التحضيرات، كان النقاش ينم عن حسّ وطني متميز لكل أفراد العائلة، وعن ثقافة واسعة ومختلفة، فقد جعل الزّوجان، أمهات الكتب في الأدب والشعر في متناول جميع الأبناء، مما وسع آفاقهم، ونوّع معلوماتهم، و ميزهم عن أقرانهم . حرص الحاج أحمد على أن يسهر جميع أبنائه، وبناته على تحضير تلك الوليمة، ولم يَسمحْ بانطلاق الحفل، إلا بعد أن أنهى الجميعُ آخر الّلمسات، ودعاهُم جميعا للالتحاق بالوليمة . كان أول درس لي في المساواة. ونحن نغادر البيت شاكرين أصحابه، ارتأى مدير المؤسسة أن أُكفّر عن خطيئتي باقتراح إعطائي حصَص دعم تكميلية للتلميذة، حتى تستطيع تعويض مافاتها من الدروس خصوصا وأنّ الحاجّة غيثة لم تسمح لثريّا الالتحاق بالصف إلا والسّنةُ الدراسية قد انتصفتْ … “وجب التوضيح أنّك من أوحى بهذا المقترح ” تدخلت ثريا مُبتسمةً و مُصحّحةً ذاك المُعطى التَّاريخيّ المهم، فقد شَجَّعت، الوالد، على الاستمرار على هذا النحو في تعليمنا مع المحافظة على التقاليد التي تحتم مشاركة الجميع، على قدم المساواة، في القيام بجميع الأعباء المنزلية .” ربما، لكن ما أذكره كذلك هي نظرات الإعجاب التي كُنْتِ تقابلينني بهاعند حلولي بالمنزل وإبان الدرس كذلك … انبهرتُ لنجابتك ولإمكانيّاتك الهائلة في تلقيّ جميع المواد، و ما أعترف به هو أنني كنت أفضِّلُ أخذ رأي جميع الأساتذة قبل تنقيط فروضك … وذلك حتّى لا تغلبني مشاعري نحوك وأكون مُجْحفا في حقّ الآخرين أو كريمًا نحوك، وعموما كان الأساتذة يؤاخذون عليَّ شُحي في مُستوى العلامات التي أمنحها لك مقارنة مع تلاميذ قسمك، ومع ذلك كُنْتِ من الأوائل في الصف. فاتحت الحاج أحمد، في أمر ارتباطنا دون حتى أخذ رأيك فنظراتك كانت معبرة … بما يعتمل في دواخلِكِ … والحُمرةُ التي كانت تعلو محياكِ في جل لقاءاتنا، خَذلتكِ وأكّدت ما كان يعتمل في دواخلك من تواصل كنت أصرّ على الإيحاء به خلسةً … فقد همتُ بك من أوّل لقاء … صمت الحاج، حين أخبرته بطلبي، وطأطأ رأسه مطولا قبل أن يطلب مهلة للتفكير، فالمعنية بالأمر هي الكفيلة بالرد على الطلب و… للاغيثة هي مولات الشوار . وأنا أُنْهي آخر درس والسيدة غيثة حاضرة معنا كعادتها، نادت على الحاج للالتحاق بنا، ارتبكْتُ وكنتُ محرجا فقد فهمت أنه فاتحها في الأمر و أنها تريد إعطاء رأيها و قرارها بحضور الجميع و بكل شفافية . احمرت وجنتا ثريا، ووالدها يَهُمّ بالدخول، و استأذنَت للانصراف إلا أن الأم كانت حازمة، فالبنت هي المعنية الأولى بالموضوع وهي صاحبة القرار … و لم تكن قد بلغت أربعة عشر ربيعا … حول صينية الشاي التي حضّرها الحاج أحمد بنفسه، وبعض الحلويات الفاسية، تحلّق الجميع وبرباطة جأش، وحزم و شجاعة نادرة، تدخّلت أم الغيث، بعد أن فطنت للارتباك والحرج الذي عمّ الجميع : ” لقد حدّثني الحاج في طلبكُما، و لا أرى مانعاً، ولكنّي أودّ توضيح بعض الأمور، فنحن، طبعا، ننتمي لنفس الوطن، و لنفس الجيل تقريبا…، لنا نفس الأهداف … نلتقي في حب الوطن والنضال من أجل خلاصه من المستعمر وهذا مهم جدًّا، ولكننا ننتمي كذلك لثقافات مختلفة وهنا أعني أسرتينا الصغيرتين، ولذلك فعاداتنا وتقاليدُنا مختلفة فأنتم: – تقبلون بالتعدّد و نحن نرفضُه … وهذا شرطي الأول : لن أقبل أن تكون لثريا ضرّة، – تعتبرون وتحبذون أن يكون مكان المرأة هو منزل زوجها ونحن نعتبرهما النّدّ للندّ، – تعتبرون تدريس النساء ثانويا ، ونعتبره ضروريا ولن أقبل أن تتوقف ثريا عن الدراسة والتحصيل أو أن يكون هذا الاقتران عائقا في انفتاحها على العالم الخارجي الاجتماعي والسياسي …، هي شروطي، وأعتبرها بسيطة و سهلة المنال، وهو صداقها فنحن لا نبيع بناتنا بل نكوّن بهن مجتمعا نريده سليما وقويا و متفتحا …” كنت واجما فلم يسبق لي أن سمعتُ، من قبل، بمهر مثل هذا حتى في أعرق الأسر الأرستقراطية،و بقدر تحمّسي الكبير لهذا الاقتران بقدر جسامة المسؤولية التي جعلتها هاته السيدة حول عنقي!!! استطردت غيثة قائلة”… لن أطلب منك وثيقة ممضاة تؤرخ لحديثنا هذا، ولكن يكفيني التزامك الأخلاقي فهو الأهم، لأني أراك مرتبكا ولا تقوى على الرد. واعلم أنك صرت من اللحظة الأخ والصهر وحتى “العْزيزْ ” فبلقب “عزيزي” سيناديك من يومه جميع من تنسل من عائلتنا إلا ثريا فستناديك بالآسفي لأنك لست ” عزيزها “، وفي الأخير لن أسمح بالاقتران الرسمي إلا وثريا قد حَصَلَتْ على الشهادة الثانوية… تدخّلتُ لأشرح لها باقتضاب، أنّني مُتّفقٌ على ما أسمتهُ شروطا، ولأوضّح أمرا مُهمّا، و هو أن والدي الحاج العربي، ورغم أصوله البدويّة واقترانه بعدّة زوجات، فقد كان يُنبّهنا بحزم أنّ الاقتران بواحدة فقط، نعمةٌ من نعم اللّه تعالى، وسهر على أن ترتاد بناتُهُ المدارس القُرآنيّة الوحيدة التي كانت قد فُتحت حينها في وجه بنات مدينة آسفي. وإذن لن نختلف، قالتْها أمّ الغيث وأكملت تدخّلها: ” وبالمناسبة أهديكم هاته الأبيات التي كان يرددها والدي رحمة لله عليه: زر من تحب و- دع مقالة حاسدي * ليس الحسود على الهوى بمساعد لم يخلق الرحمن أجمل منظرا * من عاشقين متعانقين على فراش واحد متعانقين عليهما حلل الرضا * متوسدين بمعصم و بساعد وإذا صفا لك من زمانك واحد * فهو المراد و عش بذاك الواحد وإذا تألفت القلوب على الهوى * فالناس تضرب في حديد بارد يا من يلوم على الهوى أهل الهوى * هل يستطاع صلاح قلب فاسد يا رب يا رحمن تُحْسن ختامنا * قبل الممات و لو بيوم واحد “