استدارت ثريا وهي ترتشف قهوتها : “شَعرتُ بنوع من الحڭرة وأنا أتوسّط تلك الثلة من الرجال، ورغم محاولات اعتذارهم لي لم يفلحوا في جعلي أقبلُ ذلك الواقع،عُدتُ مُسرعة إلى منزل أسرتي، وعند ولوجي الباب كانت والدتي مستغربة عودتي قبل نهاية الدرس و أنا على تلك الحالة من البكاء. ” مالك أثريا ياك لباس ” ارتميت في حضنها و قلت : “لن أعود للمدرسة بعد اليوم يا والدتي فقد صفعني ذلك الأستاذ الخمري اللون ” لم أكن قد أتممت جُمْلتي حتى كانت قد ارتدت جلبابها وجرتني من يدي في اتجاه المدرسة… وعلى باب مكتب المدير صاحت قائلة: ” منذ متى أصبحنا نرسل لكم بناتنا لضربهن وصفعهن يا معشر المقاومين الحالمين بالتغيير، بناتنا نربيها من أجل بناء وطن المساواة في الحقوق، وإذا كنتم تناضلون من أجل إجلاء المستعمر لضربنا فنحن نعفيكم من ذلك، فنساؤنا قادرات على التغيير على طريقتهن، و إذا كنتم عكس ما أقول فعليكم اتخاذ الإجراءات اللازمة إزاء المعني بالأمر …” تلعثم المدير و معه كل أطر التعليم الذين كانوا قد تجمعوا حول الوالدة ، وبعد لحظات صَمْت تدخل المدير : ” أتمنى أن تقبلوا اعتذارنا باسم جميع أطر مدارس النهضة وعلى رأسنا طبعا الأستاذ الآسفي الذي اعترف بما اعتبره خطأ جسيما ، وهو مستعد لتحمل مسؤولياته، وتنفيذ قرارات العائلة ولو بالتوقيف، رغم أنه اعتقل و نفي من فاس بسبب مواقفه الوطنية، و ها هو أمامكم ” تدخلت والدتي بحزم : ” المواقف الوطنية ومحاربة كل أشكال الميز وعلى رأسها المستعمر على رأسي وعيني، و لكن لن نبني وطنا حرا ومستقلا إن نحن صفعنا وضربنا المجتمع كلّه والمسؤول الأول عن تربية النشئ … أعني النساء، وخصوصا هذا الجيل الصاعد، ولا تقولوا لي بأن الأساتذة يساوون في الصفع بين التلاميذ و التلميذات فالضرب منبوذ بالنسبة للجنسين معا “. لم ننتبه أن والدي الحاج أحمد السقاط، كان قد حل بجلبابه الرمادي و طربوشه الوطني الأحمر متسائلا عن سبب الاستدعاء المستعجل… انهمرت دموعي بغزارة وارتميت في حضنه … فقد كنت أعلم أنه لم يكن ليستسيغ رؤية فلذة كبده تهان … هوالرجل البسيط ذو الحساسية المرهفة، الذي كان همّه الوحيد توفير لقمة عيش كريمة لأبنائه وبناته وتلقينهم أصول الشعر والوطنية و القيم الدينية السمحاء . ضمني بحنو … لم تسعفه عيناه … ومتوجها نحو طاقم المؤسسة قال بهدوء : ” ثريا بنتي البكر التزمت مع والدتها بإنهاء جميع أشغال البيت في الصباح الباكر، يومياً، مقابل السّماح لها بالالتحاق بالمدرسة ، وصباح هذا اليوم كانت قد طلبت منها أختها، التي تغيبت عن الدرس لألم مفاجئ، تذكير صديقاتها بإمدادها بالدروس التي فاتتها ، ولم يكن بإمكانها إخبارهن بالطّلب إلا على الصفّ قبل الولوج إلى الأقسام مما خلق تلك الجلبة أغلب الظن “. انبهر الجميع من التدخلات المتميزة للعائلة، استطرد الآسفي : وبكل ما تبقى لي من شجاعة توجهتُ نحو والدة التلميذة قائلا : “هل تقبلين سيدتي طلبي بالاعتذار عمّا بدر مني تجاه بنتكم، لم أقصد إهاناتها بل كان غرضي تنبيهها، و أعترف أنني لم أستطع تمالك نفسي، فقد كان الواجب يُحتم علي التريث في جميع الأحوال. أتمنى من صميم قلبي أن يجد هذا الطلب طريقه إلى نفسكم …” وبنفس الحزم الذي عرفه تدخلها الأول أجابت : ” ليس مني من وجب طلب الاعتذار، بل من المعنية بالأمر، فإن.قبلَتْ قبلنا …” ” وهل قبلت يا جدتي الاعتذار …؟” سألت سامية ، وهي تستعجل جدتها لم أتكلم … أطرقت أرضا…. وصمتّ، فلم أكن لأرفض اعتذارا من أبرز أساتذة المؤسسة ، فرغم ما وقع كنت معجبة بمساره النضالي المتميّز و الذي كان حديث التلاميذ . لم يتأخّر والدي، تضيف ثريّا، أخذ المبادرة وهو يضمّني وبلهجته الفاسية الجميلة قال : ” الاعتراف بالخطأ فضيلة … ولن يتكرر … يا لله أم الغِيث … و ثريّا … سيروا وجدوا لينا شي عشا فاعل تارك راه هاد الناس كلهم معروضين … عندكم ” كنت أتمنى، أن تشق الأرض وتبتلعني وأنا أنصت إلى الحاج أحمد السقاط والسيدة غيثة … يوضح الآسفي ، ومما زادني تأثرا هو إصرارهم على استدعائنا جماعة لوجبة غذاء أرادها الحاج السقاط، مخرجا لأزمة كادت تعصف بعلاقة التلاميذ وذويهم بتلك المؤسسة الوطنية … ” ولكنها غيمة خلّفت غيثا من الوطنيين يا جدي … و كيف كانت تلك الوليمة، أظنها بصمت على أول لقاء وعائلتك المقبلة ” لاحظ أسامة مُتسائلا ؟ . بحثت عن أي سبب يعفيني من حضور الوليمة، ولكن الحاج أحمد حدق في عيني مليا وقال : ” وأنت بالذات وجب أن تحضر … ” كان الإلحاح أقسى عقاب من رجل ذكي وأديب … وكان أول درس عميق أتلقاه في حياتي.