لم أصدق عينيَّ وأنا ألمحه فقد كان ملتحفا بلحاف بلون الأرض، وكان يشير إليّ للالتحاق به … تشككت في الأمر لكنّ الشّبح أصر حتى خلته يعاتبني على شكي فتقدمت غير هياب … أشاح لحافه فكان صبية ذات جمال أمازيغي أخّاذ، أشارت بيديها إلى قطعة قماش بيضاء تغطّي كُثلةً وضعَتها حيث كانت تقف، واختفت قبل أن أصل إليها، وكأن الأرض فُتحت وابتلعتها… على الصخرة، كانت قد وَضَعَت صحنا معدنيا به فطائر كانت ساخة كأنها خرجت للتو من الفرن ممزوجة بعسل حر وزبدة بلدية مع براد شاي ساخن و بعض البيضات المسلوقات. لن أخفيكم، أنه رغم وقع المفاجأة عليّ، التهمت الوجبة بنَهم، فقد كنت قد افتقدت أمثال هاته الأطباق منذ مدة طويلة . هو كرم بوادي وجبال وطننا، وتضامنٌ من نوع خاص كان مؤثر جدا بالنسبة لي … كانت الوجبة لذيذة وأحسست بإحراج كبير لعدم تمكني اقتسامها ورفاقي المعتقلين، فاهتديت إلى حيلة، حيث طلبت من القائمين على حراستنا تخصيص مساعد لي في مأموريتي الشاقة، وهكذا أشركت رفاقي، على التوالي، وليمتي التي صارت يومية … في كل الفصول وطول مقامنا بالمكان … ولم يجرأ أيٌّ منهم سؤالي عن مصدرها. يوم انتهاء مدّة العقوبة، ونحن منشغلون بحمل أمتعتنا، عدت إلى البئر بعد طلب ملح مني لمرؤوسي… وكانت هناك … حيّتْني بلسان أمازيغي لم أفهم منه إلا تعاطفها معنا في محنتنا، حاولت أن أعبّر لها بالإشارة عن امتناني وشكري و قبل أن أتم… كانت قد اختفت إلى الأبد… كان الموقف مؤثرا ونبيلا. وأنا أهم بالعودة إلى الحافلة التي ستقلنا حيث الحرية، تعثرت فيما كانت قد حضّرت الصبيّة… ولم أنتبه له… كانت قد أحْضَرَتْ كل ما سأحتاجه ورفاقي من أكل وشرب في رحلة عودتنا… هو الذكاء الأمازيغي، والحس الوطني الذي علّمها كيف تتخفّى لإنجاز مهمتها بنجاح. فقد كانت تختارُ لون لحافها حسب فصول السنة، فهو أبيضُ بياضَ الثلج شتاء، وأخضر خضرة أشجار الأرز ربيعا، بنيٌّ بلون التربة صيفا، وأصفر بلون أوراق الأشجار خريفا… فليس غريبا إذاً أن يُقرّ تشي غيفارا أنه تتلمذ على المجاهد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في طريقة إدارته لحروبه ضد المستعمر… كانت الابتسامة قد علت محيا أم يوسف، وهي تتابع باهتمام بالغ تلك الحكاية التي طالما رددها الآسفي، و ها هو يُصِرُّ على حكايتها للأحفاد كذلك… أهو درسٌ أراده نبراسا لكل نسله، أم إعجاب مستمر، أو ربّما هما معاً. إنه يلح على زيارة المنطقة سنويا ، منذ عرفته، باحثا عن البئر وصاحبته ” ذكّرتْ ثريا في هدوء”. ” أَعترف، استطرد الآسفي، أنني عدت إلى نفس المكان مرّات عديدة أملا في لقائها وشكرها ، ففرق شاسع بين امتناني لها وأنا معتقل، و زيارتي لها وأنا حر طليق، و كمْ تمنّيت لو تعرفتم عليها فهي مناضلة، مغمورة، من أجل وطن حر وكريم … كانت من عُملة نادرة .” انتبه محمد إلى حفيدته التي كانت تستعجل إتمام الحكي، فهي تعلم أن لقاء الجدّين كان بعد انهائه لتلك العقوبة و متشوقة لمعرفة التفاصيل؛ فاستمرّ : ” بعد الإفراج عني رَحَلتُ، لزيارة الأهل بآسفي فقد علمت أن الحاج العربي قد جال كل القرى والمداشر بحثا عني، بعدما وصله خبر اعتقالي، كان متوجسا من اختفائي نهائيّاً، ومع ذلك وجدته منشرحا معتزا ببكره الذي صار حديث المدينة، وصار الزعيم الذي يضرب له ألف حساب، فبمجرد علم السلطات بوصولي حتى سارعت إلى نشر مختلف أنواع الشرطة عبر أهم شرايين المدينة وكلفت مخبريها بتتبع دقائق أموري”. عدت إلى فاس، للالتحاق ثانية بالجامعة، إلا أن حُكْم الإبعاد عن المدينة كان قد فُعِّل، إذ بمجرد وصولي كانت السلطات لي بالمرصاد، وتم ترحيلي إلى مدينة مكناس. كان الملك محمد الخامس متتبعا لخطوات طلبة القرويين، وأمر بإلحاقنا كمدرسين بمجموعة مدارس النهضة، التي كان قد أسسها مجموعة من المقاومين بهدف فك العزلة عن المنفيين أولاً، وتوجيه رسائل إلى من يهُمّه الأمر مفادها أن أعلى سلطة في البلاد لا ترضى بأن يتعرض أبناء الوطن لهذا التّعامل، وأخيراً وليس آخراً السّهرُ على تكوين الطلبة على يد وطنيين شرفاء … يعلمونهم مبادئ الإسلام السمحة، ويجعلونهم متشبعين بروح الوطنية الصادقة . كان المُستقر إذن بأحد أحياء مدينة مكناس ولي فيها ذكريات لا تنسى، فيها تعرفت على الفقيه العلوي الزرهوني الذي رافقني و آزرني طول مساري، وكان نعم الصديق والوطني النزيه، محمد المكناسي الذي حمل السلاح مقاوماً آليات المستعمر، واستمر بنفس الروح مناضلاً من أجل أهدافنا في العيش في مغربٍ متميز إلى أخر حياته، ومن الطلبة من سيلتحق بركب النضال بعد الاستقلال وعلى رأسهم الشّاب محمد بنيحيى المناضل الصموت وآخرون ربما لن تحضرني أسماؤهم الآن ولكنهم بصموا مسيرتي … تكلّفنا نحن الطلبة الوافدون بالإضافة إلى إعطاء دروس اللغة العربية، على الحفاظ على نظام دخول وخروج التلاميذ، واصطفافهم تمهيدا لولوج فصولهم الدراسية . وفي يوم ممطر وبارد، كنت مسؤولا على تنظيم دخول التلاميذ، و كان وقت ولوج الأقسام قد حلّ حين انتبهت إلى شابة في آخر الصف، وصلت متأخرة ، ولم تكف عن الكلام بصوت مرتفع مما جعل النظام يختل، تقدمت نحوها و نهرتها، وكانت ذات شخصية قوية، رفضت طريقة تنبيهي لها والتي كانت بلكز خفيف، استشاطت غضبا مماّ جعلني أعالج ما اعتبرته وقاحة بصفعة قوية، لم تنل منها شيئا بل ازدادت قوة وإصرارا للدفاع عن نفسها. جرّتني بقوة من ربطة عنقي نحو إدارة المؤسسة محتجّة على طريقة التعامل الفجة، من مدرس كانت تنظر إليه باحترام ووقار وهي تعلم مشواره النضالي ضد المستعمر … كانت لا تزال تجرني من ربطة عنقي، رغم تدخل الطاقم التعليمي وعلى رأسه مدير المؤسسة، مطالبة بالاعتذار العلني أولا و قبل أي نقاش. بعد مدّة ليست باليسيرة هدأت الأعصاب، وبقيتْ شامخة… كنت مذهولا من ردة فعلها ودفاعها المستميت عن كرامتها. ما اسمك يا صغيرتي؟ سألها مدير المؤسسة وهو يربّت على كتفيها… إسمي ثريا السقاطية، والدي، أحمد السقّاط، بارع في صناعة السّروج التقليدية الجميلة ووالدتي غيثة بوهلال سليلة التاجر العالمي محمد بوهلال، الذي ذاع صيته عبر أنحاء العالم، إخوتي يدرسون بنفس المؤسسة وتلقينا جميعا أهم درس في الحياة وهو عزة النفس وكرامتها … استأذنَتْ وغادرت القاعة… لأن دموعها لم تسعفها …