استشعرت الخطر النفسي والاجتماعي والاقتصادي المحدق بالحاج، وكنت على يقين بأنه محرج من طرف الجميع، فتدبرت أمري وحللت بالمدينة دون سابق إعلام . وأنا ألج باب البيت، ساد صمت رهيب، فنساؤه، وأخواتي، اللائي كُنّ تحت وقع المُفاجأة، ظللن واقفات واجمات بصحن البيت، منتظرات ردّ فعل الحاج … لم يتقدم نحوي أي أحد للسلام… فبحسبهم أنا منبوذ من أعلى سلطة في البيت. كان الحاج، كعادته، قد لزم غرفته، وكان بابها موصدا … وضعت حقيبتي أرضا واتجهت نحو الأدراج التي تؤدي إلى الطابق العلوي، حيث غرفة الاستقبال و هي مكان استراحته … دفعت الباب ببطء حتى لا أزعج غفوته، كان مستلقيا تحت النافذة ، وقد وضع يده على خده وراح في شبه إغماءة… تقدمت نحوه ووضعت يدي على رأسه وقبلت جبينه، وحين هممت بتمرير يدي على لحيته منعني بلطف… فقد كانت مبللة بدموع ظهر أنها كانت مدرارا!!! حينها انتبهت إلى الوسادة الملقاة في صحن الغرفة، و فهمت أنه كان يستعملها دعامة ليصل إلى مستوى النافذة التي تطل على المحطة الطرقية ويتأكد من وصولي…. لقد كان يراقبني منذ حللت بالمدينة، فما إن وطأت قدماي أرض المحطة حتى كان قد أُعلم بالأمر، فالمدينة صغيرة وأصحاب الحال كثر … جلست بجواره، عانقني و ضمّني إلى صدره قائلاً : ” أعلم أنك متعب جراء سفرك الطويل، ولكن أود أن ترافقني في طريقي لتأدية صلاة الظهر بالمسجد العتيق “، لم يكن اليوم يوم جمعة، و لم يكن يؤدي صلواته الخمس إلا في بيته في الغرفة إياها، و لكنّهُ أصر، وأنا قبلت. عند خروجنا اتجهت نحو سيارته فالمسافة ليست باليسيرة والجو حار جدا . “لا يا ولدي سنتمشى قليلا فالسائق في إجازة ليومين …” رافقته مشياً وكان يسلك أطول الطرُق للوصول إلى المسجد، وهكذا عبرنا أهم شرايين المدينة. ونحن على الطريق كنت أراقب استغراب التجار وحتى المارة … من لقائنا و حديثنا المنفرج … كان الحاج يلح على معاملتي معاملة الأصدقاء، حتى أنه بباب المسجد طلب مني، وبصوت مرتفع انتظاره على المقهى المجاور حتى انتهائه من أداء فريضته … أنا الذي كنت مستعدا لمرافقته لأداء صلاته، رغم أني لم أكن مواظبا عليها، لكنه أصر على أن يُظهر للجميع أننا نقبل الاختلاف في المواضيع الدينيّة والدُّنيَويّة كذلك. عند خروجه من المسجد،و في طريق العودة اقتنى دلاحة ضخمة، ولم يسمح لي ولا حتّى للعاملين مساعدته لإيصالها إلى المنزل، بل أخذها بنفسه وكانت مناسبة، اختارها ليطيل عمر رحلة العودة، خصوصا وقد كان لزاما علينا الوقوف، للاستراحة عدّة مرات، وتجزية الوقت بنقاشات حول أوضاع الطلبة ونضالاتهم بمدينة فاس… وكان يتعمّد الحديث بصوت مرتفع حتى يعلم الجميع مدى انسجامنا في نقاشاتنا. لم أنتبه و نحن على عتبة المنزل إلى الشخص الذي رافقنا، كظلّنا، حتى استدار نحوه الوالد قائلا ” واسير فحالك هاذا ولدي سّي محمد رجع من فاس وحنا راه مصالحين و سير قولها ليهم… وعرض عليهم راني داير الفرْحْ اليوم “. لم يكن الشخص إلا مخبرا أتى متقصيا صحة خبر وصولي وصحة علاقتنا الطيبة . عدت إلى فاس وأنا مطمئن على صحة الوالد النفسية… وأقمت بتلك الغرفة التي لا زالت تحمل، إلى اليوم، آثار طلقات رصاص جيش الاستعمار، حين جاؤوا لاعتقالنا عقب أحداث عرفتها المدينة المنتفضة المُؤازَرَة بطلبة القرويين الذين قادوا احتجاجات خالدة لم يكن ملاذهم خلالها سوى الدور الشعبية التي كانت أبوابها تظلّ مشرعة في وجوهنا صباح مساء. … وتحسبا لاعتقال أي منا كانت أدوار القيادة توزع بيننا كل يوم . كنت خطيبا فصيحا، ولهذا اقترحني الرفاق لتحضير خطبة حماسية لتوعية الطلبة بمسؤولياتهم التاريخية إزاء الوطن، وإبان إلقائها استل أحد الحاضرين سكينه وكاد يجهز على طالب مخبر كان يتعقبني، لولا تدخل باقي الرفاق مانعين حدوث مالا تحمد عقباه …، فنحن طلبة مؤمنون بالنضال السلمي، خصوصا والمكان آهل بالمدنيين العُزّل، والجند متأهبين لرد فعل شرس، على أبسط تحرّك طالما انتظروه، ليجعلوا منهُ سببا لتدخلاتهم العنيفة … اشتد الحصار طبعا… واعتقل جل الطلبة، إلاَّ أنا ورفيق لي، ظللنا مختبئين عند أحد الجيران، كانت الأخبار التي تصلنا تؤكد أن البحث مستمر وأن السلطات الفرنسيّة قد قررت اعتقال واستنطاق السكان للوصول إلينا، فقررنا تسليم أنفسنا حفاظا على أمن الساكنة و ذلك لهول تدخلات أفراد الجيش وهمجيتهم، خصوصا وأنهم سبق و أن عاثوا فسادا في تجارة و منازل السّاكنة لأسباب أقل من البحث عن طلبة فارّين . اعتقلت إذن، وحوكمت بسنتين سجنا، ورُحّلنا إلى سجن بضواحي مدينة بولمان الأطلسية المعروفة بشتائها القاسي البرودة و صيفها القائظ . كان سجنا فلاحيًّا مفتوحا على الطبيعة،لأنّ احتمالات الهرب ضئيلة لوعورة التضاريس، وهكذا فقد حُرمْنَا من زيارات العائلات . كنت أحتفظ لنفسي بمساحات زمنية أعتكف فيها، أتأمل، أخطّ بعض الخواطر وحتى بعض القصائد … وبعدها أقوم بما عُهد لي به وهو أساسا استخراج كميات من الماء من بئر بعيدة عن السجن، وكانت العملية تأخذ وقتا طويلا نظرا للكمية الواجب استخراجها … في أحد الأيّام، وقبل أن أبدأ الاشتغال، كُنتُ منصهراً في تدوين ما جادت به بنات أفكاري حين سمعت نقرا حسبته بادئ الأمر صوت أحد الطيور المختلفة الأشكال التي كانت تجوب المنطقة، إلا أن النقركان مُلحًّا وغريبا… خصوصاً وأنّهُ كان يتوقف كلما رفعت عيني مُنتبها، وحين أعود لكتاباتي، يعود النّقر، هممت واقفا، وحينها تراءى لي شبح يلوح بكلتا يديه …