قليل فقط من هم يعلمون معنى المأساة الإنسانية التي صاحبت ملف الصحراء، لأنهم لا يعلمون حجم معاناة جل العائلات الصحراوية التي عاشت شتاتا أسريا لمدة أربعين سنة، لم تجتمع فيها الاسرة كاملة على موائد العيد والأفراح، ولم تجمعها الأحزان أيضا فهم غابوا عنها... أربعون سنة مات فيها القريب والحبيب، وتألمت فيها العديد من الأسر، بسبب لوعة غياب من حكموا على أنفسهم بانتظار حل النزاع الذي أفسد عليهم استغلال فرصة الحياة للقاء الأحباب، لأن «الملكًى حدو الدنيا» كما رددها دوما اهل الصحراء... سأنقل لكم إحدى القصص المؤثرة في هذا النوع من الغياب، قصة عايشتها عن قرب, بل كنت صلة وصل بين لقاء أم وابنها, لكن للأسف عبر الكتابة وأشرطة التسجيل, لأن اللقاء المباشر كان مستحيلا... مع بداية تسعينات القرن الماضي، ومع مجيء بعثة «المينورسو» الى الأقاليم الجنوبية، وهي البعثة التي شكلتها المنظمة الأممية لتولي مهمة الإشراف على تنظيم الاستفتاء، والتي جاءت مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، حيث اقترن مشروع الاستفتاء ببرنامج مسلسل تحديد الهوية الذي تطلب تنقل شيوخ القبائل الصحراوية مع أقرانهم الشيوخ من الجهة الأخرى، للإشراف على حسن سير العملية، سواء بتندوف أو بمدن الجنوب, بالإضافة الى بعض مناطق الوسط كالرحامنة ونواحي سطات والشمال كمنطقة زعير وسلا ومكناس وكل المناطق التي كانت تقطن بها العديد من الأسر من أصول صحراوية بفعل الترحال، بغية تسجيلهم في اللوائح الرسمية للمستفتيين... المهم في هذه العملية، أنها تسجل في تاريخ النزاع على أنها أول فرصة سنحت للصحراويين لمعرفة أخبار عائلتهم، التي انقطعت مع أول رحلة لهم الى مخيم الحمادة، ولم يكن لهم أي وسيلة أخرى لمعرفة منهم الأحياء والموتى من أقاربهم، إذ كانت رحلة الشيوخ مرة كل أسبوع، طيلة الفترة يحملون فيها بالرسائل ذهابا وإيابا، حيث تحول هؤلاء الشيوخ إلى بشائر الخير، كما حملوا الاخبار غير السارة أيضا، فهم من بلغوا العديد من العائلات التي ظنت أن أقرب أحبابها على قيد الحياة وسيكتشفون العكس ... ولشدة الخوف آنذاك من التواصل معهم في المرحلة الأولى لم يجرؤ أحد على حمل أي رسالة أو السؤال عن الأقارب، لأن الإفصاح عن قريب ساهم في تأسيس أو بناء المشروع الانفصالي الذي كان يدخل تلك السنوات في خانة خيانة العائلة حتى وإن لم يكونوا على علم بانخراط قريبهم في المشروع... المهم كانت تسكن الى جوارنا سيدة ستينية لم يسبق أن علمنا أن لها ابنا غير أبنائها المعلومين والمتواجدين معها، إلى حين هذا الانفراج، وكنت شخصيا أول العالمين بالموضوع رغم أن عمري لم يتجاوز 16 ربيعا، حيث الغاية من الإفصاح عن المعلومة، هو ملتمسها كتابة رسالة تعبيرية لابنها المفقود والذي لا تعلم إن كان على قيد الحياة أم لا؟ فالعملية كانت تمر كالآتي: المقيمون في تندوف يسلمون رسائلهم لشيخ قبيلتهم بالمغرب الوافد عليهم لتحديد انتمائهم لقبيلته، وعند عودته إلى الجنوب سيأتي محملا بالرسائل ويجد في انتظاره العديد من أولئك الذين كان قد انقطع رجاؤهم في ذويهم، ونفس العملية تنتظر أهل الطرف الآخر، وهناك من يعود بخفي حنين، فبعد تكرار الانتظار يتأكد أن رجاءه في قريب له قد انقطع بالمرة خاصة بعد غياب الرد عن الرسائل، الشيء الذي جعلهم يضطرون لكتابة رسالة قصيرة الى عموم القبيلة بل الى عموم سكان تندوف تحمل عبارة واحدة «هل فلان بن فلان من المنطقة الفلانية الذي غادر بيت أهله التاريخ الفلاني رفقة فلان بن فلان ما يزال على قيد الحياة؟ أحيانا يأتي الجواب قطعي «فلان بن فلان بنفس صيغة السؤال توفي في المعركة الفلانية أو بسبب مرض أوووو ..إلخ، بالتاريخ الفلاني « وأحيانا تأتي أجوبة مبهمة «لم نره حيا ولا ميتا منذ أن وصلنا فهو مجهول المصير» وهذه الروايات متكررة كثيرا، والقليل فقط من ظهروا بعد ذلك لاجئين في دول أخرى بعد صدمتهم، وتنبؤهم في فشل المشروع الانفصالي... وبما أنني كنت كاتبة رسائل سكان الحي، لأنني أيضا كنت أتميز بجرأة اكتسبتها من خلال انضمامي الى الشبيبة الاتحادية (آنذاك كان حزب الاتحاد الاشتراكي شبه محظور، وتوجه إليه عدة اتهامات من طرف وزارة الداخلية) كنت الوحيدة التي بإمكانها تلبية هذه الخدمة الإنسانية، بل كنت سعيدة جدا وأنا أحرر رسائل وأطلب من الله ألا يخيب ظن المحرومين من الصلة مع أبنائهم من الرد وجواب أبنائهم. هناك بعض النساء اللواتي لم يجدن من يجرؤ لكتابة رسائلهم فقررن تسجيل شريط وبعث أسئلتهن فيه، فالمحظوظات من يجدن من يكتب لهن الرسالة فهي أقل تكلفة من حيث حتى سرعة القراءة أو الكتابة، أما الشريط المسجل فقد يكلف الكثير من الوقت للوصول إلى صاحبه والبحث عن المسجلة للاستماع إليه، فليس الجميع بتندوف من كانوا يملكون آلة تسجيل آنذاك... المهم أنا كنت والسيدة المسنة فخورات لكون رسالتنا أتت بفائدة فابنها محمد الحبيب على قيد الحياة، نعم هو حي يرزق، لقد رد علينا بنفسه وجاء شيخ القبيلة مبشرا بهذا النبأ العزيز، لم أنس ذلك الصباح الذي أمرت فيه جارتنا بضرورة إيقاظي من النوم في السابعة صباحا، وبرغم من أن الامر صعبا على أفراد عائلتي، فلا أحد يمكنه ذلك لأنني علمتهم ألا أحد له الحق في إيقاظي غير المنبه، لكن لأنني اشترك مع تلك الام حنين لقاء ابنها ولو على الورق، فأنا في انتظار الرد مثل ما تنتظره هي ،وأسأل مثلها عن موعد عودة الشيوخ, فرحلتهم كانت تبدأ بصباحية يوم الاثنين إلى مساء الجمعة، وسيجدون الوفود من البشر في انتظارهم ببيوتهم وسيعيشون على ليلة بيضاء في توزيع الرسائل يمتزج فيها الفرح بالحزن ويبيت الشيخ على استنطاق هل رأيت فلان بأم عينيك؟ هل انت متأكد من غياب فلان. ومن أكد لك وفاة فلان؟... جارتي أنا لم تأت الا بعد طلوع الفجر وهي مسرورة بحصولها على رد مباشر من ابنها بنفسه جاءت تعانق رسالتها فرحا، مشيا على الأقدام في جوف الليل رغم بعد دار شيخ القبيلة، ورغم فراغ الشوارع، لكن فرحتها أنستها كل تلك التفاصيل.... لم تستطع النوم، بل باتت تعانق الرسالة وتجوب البيت ذهابا وإيابا بعبارة «أشهد أنني حمدتك وشكرتك يا رب على خير خبر أسرني اليوم وأتمنى أن تتممها فرحة علي بجمع الشمل» ... ما إن ظهرت خيوط الصباح حتى دقت بيتنا باحثة عني ووجدتني في انتظارها لأنني شاركتها هذا السر كما شاركتها فرحة انتظار رد الرسالة، لم يفهم أحد من عائلتي ما سر هذه العلاقة الجديدة والتي تسيطر عليها مواعيد زمنية غير عادية، الليل الذي كتبت فيه الرسالة والصبح الباكر الذي سوف أتلي فيه الرد، وبرغم الخوف الذي كان يعم على الجميع، شخصيا لم ينتابني أي شعور به، بقناعة أنني لم أقم الا بموقف إنساني خال من أي تعبيرات سياسية، خاصة وأن مواقف عائلتي كانت واضحة في الموضوع... فالخوف الوحيد الذي ألم بالعائلة في تلك الفترة من الزمن هو اعتقال زعيم الحزب الذي انخرطت أنا في شبيبته، لقد تزامنت هذه الأحداث واعتقال المناضل عبد الرحيم بوعبيد، وحين تابع الجميع موقف عبد الرحيم بوعبيد الذي اتهم بتشجيعه بداية على الانفصال، ليتضح بعد ذلك أنه على صواب بل سوف يتبنون طرحه في الموضوع، وكنت أردد دائما أنا مقولته الشهيرة «رب السجن خير من أن التزم الصمت ولا أعبر عن رأيي في مصير قضيتي الوطنية» والجميع يأمرني بالصمت خوفا على بأن أعتقل مثلما اعتقل زعيمي السياسي... أعود لحكاية المفقود الذي لم أفهم أنه أخ غير شقيق لأبناء جارتنا، إلا من خلال الرسالة حيث شرح لأمه وإخوته أسباب وجوده بتندوف، فهو حسب قوله لم يذهب عن قناعة أو إدراك للموضوع، بل ذهب حين وجد أول فرصة تخرجه من بيت زوج أمه الذي لم يعامله جيدا، وهو لازال لم يتمم 15 سنة عام 1975، ولم يكن يظن أن الغياب سيستمر طويلا ولم يظن أيضا ان القضية فيها صعوبات أهون منها كثيرا معاناته غريب ببيت أمه، فهو عاش يتيما على حد قوله بعد وفاة والده, تذوق أيضا معنى يتم الأم رغم أنها على قيد الحياة... كنت في البداية أقرأ الرسالة بحماس وصوت مرتفع، وحين لاحظت تبريراته التي ربطها بسوء معاملة والد إخوته أي زوج أمه، قررت القفز عن تلك الأسطر حتى لا تثار إشكالية ما بالعائلة، وأكثر ما تأثرت له هو ترديد جمل لها معاني إنسانية كثيرة» أماه أحتاج لمعانقتك فلم أعانقك منذ زمن بعيد، أماه، لو يكتمل عند بعض العائلات الفرح بالعيد فأنا برغم وجودي وسط أسرتي الصغيرة لا أعرف العيد لأني أفتقد إليك...» كما حملت الرسالة تعبيرات عن الأجواء الاجتماعية التي يعيش فيها وباقي سكان المخيم حيث الأغلبية يعمل بالمعسكرات ويعيشون على المساعدات الغذائية، كما حدثها عن قساوة الطقس والمناخ، حيث قال إن الجو بالمنطقة إما أن يتميز بالبرد الشديد أو الحر الشديد، وتحدث عن وفاة الأطفال بسبب هذا المناخ، وقد التمس منها محاولة إيجاد طريقة لإرسال جلابة له من الصوف لأن برد الحمادة لا يقاوم، وأنه يعاني من السعال دائما من شدة البرد القارس... استمرت الرسائل طيلة فترة تحديد الهوية واستمر معها الشوق لمعرفة الجديد عن كل طرف وتبادل الصور العائلية، حيث ظهرت أجيال جديدة في كل عائلة من الطرفين وعرفت بعض العائلات أيضا تغيرا نمطيا لم يعشه من غاب عنهم عقودا من الزمن ... آخر رسالة بعثها محمد الحبيب يحكي فيها عن بداية مرضه بتلوث رئوي وكتب فيها عبارات يخشى فيها عدم اللقاء مباشرة، حيث كتب عبارة مؤثرة جدا يقول فيها « سأعمل مافي وسعي للوصول إلى منطقة الزويرات بموريتانيا, بما أنني مصاب بهذا المرض الذي يبدو لي صعب العلاج، وسوف أنتظرك لأنني أصبحت لا أنتظر من هذه الدنيا سوى لحظة معانقتك، سأنتظرك حتى تظهرين وإن لم يكتب لنا ذلك فاعذريني عما سبق من غياب وسنؤجل موعد اللقاء الى الدار الآخرة». عبارات جد مؤثرة تضمنتها آخر رسالة وكأن القدر أبلغه بكل شيء، أبلغه أن مسلسل تحديد الهوية سوف يتوقف بسبب الطعن في اللوائح واشتراط من تضمنت اتفاقية هيوستن، ومعه سوف تتوقف المراسلات وتتوقف معها أخبارهم... كان الحصول على جواز السفر تلك الفترة صعب جدا، فلا بد من تدخلات، ولا بد من انتظار وقت طويل, هناك من انتظر ازيد من 5سنوات، بل هناك من انتظر أكثر، لكن محمد الحبيب حاول الاتصال من جديد عبر التجار الموريتانيين بحكم أنه وصل منطقة الزويرات لإبلاغ والدته بمراحل علاجه، ووالدته المسكينة تعاني مرارة الانتظار، انتظار اللقاء ومن خلاله انتظار جواز السفر الذي توسلت فيه العديد من المسؤولين والأعيان ونظرا لمساطره المعقدة تلك الفترة، فقليل من المواطنين العادين كانوا يتمتعون بالحصول على جواز سفر لأنه ليس بالأمر الهين ... انتظرا معا بقوة الشوق والحنين 56 شهرا. عامان وثمان أشهر دون جدوى وبعد تدهور حالته الصحية بعث آخر رسالة صوتية، لأنه لم يعد يقدر على الكتابة, حكى فيها بصوت أضعفه المرض عن أسفه للمعاناة الإنسانية التي تسببها أحيانا مواقف لم يكن يتصرف فيها الفرد بوعي وإدراك لأنه لا يحسب النهايات. وختم رسالته الصوتية المؤثرة التي كانت عبارة عن آخر صرخة «أماه لا أنا استطعت أن أعيش لحظة معانقتك لآخر مرة ولا تركت لأبنائي فرصة معانقتهم لي آخر مرة، فأنا هنا وحدي يحاصرني الموت، وداعا أماه، سامحيني...». لم يفارقني شخصيا ذلك الصوت الفصيح لرجل على مقربة من الأربعين سنة في عمره، لقد وصل العائلة الشريط بعد أن وصلهم نبأ الموت بيومين لأن خبر الموت كان قد أذاعته إحدى الإذاعات. صوت محمد لحبيب لم يخرج من أذناي، فأنا أول مرة أسمع فيها صوت انسان متوفي، مات جسده وبقي صوته حيا ولازال مدويا في أحاسيسي، باعتباره صوت العديد ممن ابتلعتهم الأرض دون أن يلقى عليهم أبويهم النظرة الأخيرة . بقي صوته عالقا عندي لأنني تأسفت لبطء بعض الإصلاحات الإنسانية في ملف الصحراء والتي وصلنا اليها اليوم بعدما كانت متعثرة، وحرمت العديد من العائلات من أهمها صلة الرحم بين الاسر... وتبقى معاناة محمد لحبيب وأمه من أكثر الحكايات تعبيرا عن معاناة الأمهات الصحراويات اللواتي اكتوت قلوبهن بنيران الفراق والشوق والالم... « لعنة الله على السياسة.. جعلتنا أيتاما وأبوانا على قيد الحياة...كم حرمتنا من أجمل لحظات العمر ... ومن معنى أن تقوم بواجب البر والإحسان للوالدين... ومن معنى ان نشبع بعطفهم وحنانهم الذي لا يعوض... ومن معنى أن نشبع شوقهما منا... كل هذه الأحاسيس الرائعة حرمنا وأبوينا منها... ضاع الشباب ...وضاع المستقبل... وتوفي الوالدان... فما معني قيمة الوطن...». أختتم بهذه العبارات التي عبر بها أحد الصحراويين الذي اختار اللجوء إلى أوروبا...