يقوم التجلي الفعلي للموضوع القصة عَبْر النظام السردي والخطابي اللغوي والأسلوبي الملائم للبناء النوعي للنّص القصصي. لهذا، تُسهمُ مجموعة من المكوِّنات المتفاعلة في تشييد زمنية النص القصصي، ثمّ فتحها على عوالم لها أبعاد ودلالات سياقية متنوعة يمكن اقتراحها على القصة بعد قراءتها في أزمنة وأمكنة مختلفة. من هنا، فبناء الزمن في القصة القصيرة ليس مجرد إجراء تنظيمي وتركيبي، بل يعدُّ فعلاً إبداعياً وبناءً جمالياً. إن هذا يمنح هذا الزمن القصصي طابعاً مميزاً ونوعياً، لأنَّهُ يَغدُو عُنصراً بنائياً للنَّص القَصصي، فيصير ممثلاً، في ذاته، غايةً دلاليةً وجماليةً، وليست مجردَ وسيلة للتعبير والإسهامِ في عملية البناء السردي والفنّي والجمالي للقصة؛ على اعتبار أنّ „عناصر القصة القصيرة، من نحو عام، تتّفق وتأتلف مع عناصر بناء الرواية ك: الفعل/ الأحداث، الفاعل/ الشخوص، الزمان، المكان، السرد، الوصف، الحوار، المعنى. والاختلاف الجوهري هو في قوانين الانتظام وطرائق التأليف والالتحام". يُبرزُ هذا القولُ الهامُّ أمرين اثنين؛ الزمن عنصر بنائي هام للقصة القصيرة، وبناء الزمن في القصة القصيرة يَتمُّ ضمن «كلٍّ بنائي». إنَّ ما يهمُّ، هنا، هو البناء الجمالي للزمن في القصة، وليس باقي المكونات المحدّدة لذلك «الكلٍّ البنائي». بهذا المعنى، أمكنَ طرح بعض الأسئلة، باعتبار الإجابة عنها ترتبط بالبناء المنهجي لهذه الدراسة، منها: ما هي جماليات «بناء الزمن» في القصة القصيرة؟ هل هذا يعني أنّ البناء الجمالي للزمن داخل القصة القصيرة تحكمه ضوابط نوعية؟ وهل ثمّة، على مستوى التحقق النّصي، ما يؤكد البناء الجمالي للزمن في القصة القصيرة؟ وما هي الأبعاد والدلالات المتولّدة من البناء الجمالي للزمن القصصي، بناء على نماذج نصيّة (قصصية)؟
1.الزمن في القصة: الكينونة النَّوعيَّة يرتبط الزمن في القصة القصيرة، دائماً، بسؤال جوهري: متى؟ وهذا السؤال يقترن، بدوره، بسؤال آخر: كيف يُبْنى هذا الزمن؟ إنّ التفكير في الوجود الضروري للزمن في القصة القصيرة، مما يضمنُ كينونته النّوعية فيها باعتبارها نصّاً، قد يدفع لاستحضار الزمن داخل النّص. من هنا، يتولّد تصوّر مفارق، لزوماً، ينظر للزمن الخارج نصي، الذي لم يكُنْ خاضعاً للتخطيط الدقيق، بل تأثر بناؤه بطبيعة „حكاية" القصة. لهذا، ينبثق السؤال الآتي: أي نوع من الأزمنة يستهدفه القاص أثناء بناء قصته؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي التفكير في التفاعل الجدلي بين المبدع والمتلقي؛ تفاعل خلاّقٌ يفضي لبناء أبعاد متعدّدة لهذا النوع الزمني، الذي يتجرد من طبيعته العادية ويصير علامة رمزية دالة ضمنَ „النسيج النّصي" للقصة. يتبيّن أنّ بناء الزمن في القصة القصيرة، وِفْق مقتضيات سردية وفنيّة وجمالية، يمرُّ عبرَ التقاط تجربة محدّدة في السيرورة الوجودية بامتداداتها الزمنية الثلاثية (متى). إنّ ذلك „البناء الجمالي" يتمُّ بطريقة نوعية وخاصة (كيف)، انطلاقاً من طبيعة الرؤية الإبداعية للمبدع (اختيار نوع زمني معيّن)، مما يفرضُ بناءَ أبعاد متعدّدة ودلالات مختلفة في سياق التلقي الفعّال والخلاّق (أبعاد). من هنا، فإنَّ الطبيعة النوعيّة للقصة القصيرة باعتبارها جنساً أدبياً، يستندُ على مقومات نوعية خاصة، تُسهمُ في التأكيد أنّ جمالية بناء الزمن في القصة القصيرة تفرضُ، لزوماً، الملاءمة مع الطابع الخاص المميز لكينونتها وتحققها سردياً وتعبيرياً. وبعبارة أخرى، فإنّ بناء الزمن في القصة القصية يلزمُ تفكيراً خلاقاً توجِّهُهُ „المحدودية الكمّية" للقصة القصيرة، باعتبارها «هوية» نوعية مؤَسِّسَة ومتحكِّمةٌ في مُجملِ العناصر البنائية للنَّص القصصي. يَنْبَني الزمنُ في القِصّة القصيرة على معطيات يَقتضيها شَرطُ التَّخييل القصصي، وتَفرضُها المقومات البانية لعالم القصة على مستوى الحكاية والخطاب من جهة، وانطلاقاً من ضوابط التعبير الفنّي الجمالي المتحكمّة في كلِّ «فنٍّ قصصي». بهذا المعنى، فإنَّ الزَّمن في القصة سيتجلَّى مُخالفاً للزمن كما نشعرهُ بهِ في الوجود، أو ندرك امتداداته المختلفة (الماضي، الحاضر، المستقبل) انطلاقاً من المعرفة التجريبية التي بلورتها الخطابات العلمية الدقيقة المختصّة، أو المعرفة النّظرية التي شيّدَها الفكر الفلسفي. لهذا، فإنّ الزمن الذي تَبْنِيه القصة القصيرة تتحكّمُ فيه طبيعتها التخييلية والسردية والجمالية، فيصيرُ زمناً ملائماً لهويتها الأجناسية التي تَكْفلُ لها التّميزَ عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى؛ على اعتبار أنّ «القصة القصيرة نوعٌ من الفنِّ يتطلّبُ شكلاً قبل كلّ شيء»2. تشكلت القصة القصيرة باعتبارها «إطاراً» (شكلاً) فنّياً، مما منحها التمّيزُ في بناء عوالمها، انطلاقاً من مكوناتها الفنيّة والجمالية السردية؛ ومن بينها مكوّن الزمن، الذي يصير تشكّله النّصي ممتلكاً لكينونة مميّزة. بهذا، فإنَّ «القصر» النوعي للقصة القصيرة جعلها تُعبير عن الزمن، في امتداده التاريخي والوجودي والإنساني، ضمنَ بناءٍ جمالي إشكالي، فيطلَّبُ إدراكهُ جهداً معرفياً كبيراً؛ لأنّه «لا يمكن أنْ يُقادَ قارئ القصة القصيرة لتوقّع أي شيء. فالقصة القصيرة تمثِّلُ صراعاً مع الزمن»3. تقترن الكينونة النوعية للزمن في القصة القصيرة بالبناء والدلالة؛ لأنّ الزمن في القصة يحكمهُ سرد دال وتخييل قصصي رمزي، فيصير إدراكُ «مساره» محاطاً بالغموض الدّلالي، ومؤطراً بالالتباس الجمالي. إنّ هذا يعني اقتران الزمن في القصة القصيرة، بما يمكن تسميته ب«الإخفاء الجمالي». بهذا المعنى، فإنّ الكينونة النوعية للزمن في القصة القصيرة، في توافقه مع بنائها التخييلي العام ومع رؤية القاص للذات والوجود والسياق تتجلّى متَّصلةً بالكثافة والسرعة الزمنية المنفتحة على الماضي والمستقبل؛ حيث „إنّ القصة القصيرة، التي تحاول دائماً أنْ تُميّز نفسها عن الرواية، والتي تتفادى أن تنزل إلى التسلسل الزمني البطيء للحوادث، حيث تمتاز الرواية، تبحث كذلك عن نقطة خارج الزمن يمكن أن يرُى منها الماضي والمستقبل في وقت معاً"4. تقومُ كلُّ قصة قصيرة على الزمن، باعتباره «عنصراً بنائياً» أساسياً. بهذا المعنى، يتأسَّسُ كلّ نصٍّ قصصي على المكوِّن الزمني في تشيّد عالمه التخييلي، على اعتبار أنّ «العالم الذي يفترعه أيّ عمل سردي هو دائماً عالم زماني»5. يتّضح أن حضور الزمن في القصة القصيرة، باعتبارها جنساً أدبياً سردياً (عمل سردي بلغة ريكور)، يؤطره «الطابع الحتمي». بهذا المعنى، فإنّ القصة القصيرة تشيّد زمنها الخاص؛ فيظهر زمناً خاصاً، له كينونة نوعية مستمدّة من «ذاته»، ومن علاقاته بباقي المكونات البانية للقصة القصيرة. من هنا، فلا قصة قصيرة دون زمن، لكنّ ليس الزمن المستمر، بل الزمن المحدود المتمركز في «نقطة» زمنية كثيفة، لكنها دالة على زمن نوعي دال في المرجعية البانية للنص القصصي، وقابلة للانفتاح على أزمنة ممتدّة يُشيّدها التلقّي الخلاّق. يَبرزُ هذا الفهم انبناء الزمن في القصة القصيرة وِفْق مقولة الكَثافة الدّالة، مما يرهن تحقّقه على مبدأ التّميّز والتّفرّد؛ حيث تُعبِّر الخاصيةُ الأولى (التّميّز) عن رغبة القاصِّ في بناء «زمن معيّن» في النّص القصصي، رغبة في التَّعبير عن قضية معينة بما يخالفُ «الطّرح القصصي»؛ فيكتسبُ، بذلك، حضور الزمن أهميته النّصيّة من قوَّته الرمزية المقترنة بطريقة تشييد الزمن في القصة القصيرة. وتدلُّ الخاصية الثانية (التّفرّد) على إمكانيةِ اللجوء لاختيارات نوعية في التشكيل النّوعي للزمن، فيصير تحققه في النص القصصي معبّراً عن كينونة نوعية ومتفردة. إن هذا يدلُّ على بناء الزمن وفق جمالية مزدوجة؛ يَقومُ شِقُّها الأولُ على جمالية الكثافة الدالة، ويتأسَّس شقُّها الثاني على جمالية الامتلاء المعرفي؛ لأن بناءَ الزمن في القصة القصيرة يَكونُ ضمنَ البناء القصصي العام، فيتجاوز الزمن طابعه المألوف، ويَصيرُ مُندمجاً في الطَّابع الإيحائي „للموضوع" القصصي؛ حيث «تكون قصة ما ذات دلالة عندما تكسر حدودها الخاصة بواسطة ذلك الانفجار الفكري الذي يضيء فجأة شيئاً يتجاوز بكثير الحكاية البسيطة والمتواضعة التي ترويها»6. بهذا المعنى، فإن البناء الجمالي الزمن في القصة يخضع لضوابط الخرق الإبداعي القصصي (كسر الحدود) من جهة، ولمقومات العمق الرمزي للحكاية القصصية المفتوحة على الكثير من الأبعاد والدلالات الفكرية (الانفجار الفكري). لكن، إذا تحقَّق زمن القصة القصيرة في كينونة نوعيّة دالة، فما الزمن الذي تبنيه القصة القصيرة وتشيّده؟ 2.الزمن في القصّة: النوعيّة الدّالة يتشكّل الزمن القصصي، في تحقّقه النّصي، وِفْقَ سلطة الامتلاء الدلالي. لهذا، سواء أكان الزمن في القصة متجلّياً في أزمنة فيزيائية محدّدة أو مبهمة أو ممدّدة (الجمعة، الصباح، المساء، العام، اللحظة، الماضي، الحاضر، المستقبل ..)، أم ظاهراً في أزمنة تاريخية دالة (الاستعمار، الاستقلال، الحرب، الثورة ..)، أما بارزاً في أزمنة وجودية معبّرة (الولادة، الموت ..)، وأزمنة نفسية مثيرة (التّيه الترقّب، الانتظار، الامتحان، ..)، فإنّهُ يظلُّ، في عمقه الرمزي الدال، «زمناً إنسانياً». بهذا المعنى، فإنّ جلُّ الأزمنة، بتنوّعها وتَعدُّدها، المتجلّية في القصة القصيرة، بما يلائم شَرطية التخييل القصصي، تكشفُ علاقةَ «الإنسانِ» بزمنِهِ (تاريخه)، باعتباره منظومة حضارية وثقافية ومعرفية. إنَّها علاقة الإنسان بالزمن تكشفها «فاعلية العقل» و«انتشار النفس»؛ حيثُ يتمُّ إدراك الزمن والشعور به، كما يؤكدّه التفاعل «بين التّوقّع والذاكرة والانتباه»7. يتّضح أنّ التحقّق الفعلي للزمن في القصة القصيرة يرتبط بفاعلية العقل، مما يجعل الإحساس بالزمن مقترناً بوظائف العقل المختلفة. بهذا المعنى، فإنّ الزمن قد يكون منصرماً (الماضي) ويتمُّ استرجاعه عبر الذاكرة، وقد يكونُ محتملاً (المستقبل) يتمُّ توقّعهُ، وقد يكونُ محقّقاً (الحاضر) يتطلّبُ الإدراك والانتباه. وكأنّ دلالة الزمن في القصة تتجاوز أيّ دلالات جوهرانية ثابتة، وتصير دالة على بنائه جماليا، بناء على طبيعة رؤية المبدع له في المستوى الوجودي، وعلى آفاق استثمار ثقافياً ورمزياً، وكشف آثاره على الكائن البشري، انطلاقاً من «فاعلية العقل»؛ لأنّه «في النّفس وحدها، يمتلكُ التوقّع والذاكرة، بوصفهما انطباعين، الامتداد. غير أنّ الانطباع لا يكون في النفس إلا حين «يفعل» العقل، أي حين يتوقّع وينتبه ويتذكّر»8. يُعبّرُ هذا القول عن العمق الرمزي الدّال للزمن القصصي، ليس باعتباره تقنيات يتمُّ الاعتماد عليها في بناء «حكاية» القصة القصيرة، بل باعتباره «فكرة» ذات صلة قويّة بالوجود في سيرورته وصيرورته. بهذا المعنى، أمكن الحديث عن التنوع الفعلي للزمن في القصة القصيرة. إنّه التنوُّع الخلاّق للزمن الذي تكشفه رمزية «أفعال» العقل المختلفة؛ مثل فعلُ التذكُّر (الماضي)، أو فعلُ التنبؤ (المستقبل)، أو فعلُ المعاينة (الحاضر). إنّ الزمنُ في القصَّة، بجميع تجلّياته، يظلُّ قائماً على مرتكزين هامين؛ المرتكز الأوّل قوامهُ أنَّ بناء للزمن في القصة يكون تخييلياً يستندُ في وظيفته الرمزية إلى التعبير الدال عن الإنسان، لكن ضمن وجود زمني مقتضب، وحياة جزئية ممكنة للكائن البشري؛ لأنَّ «القصة لا يمكن أن تعيد إنتاج الوجود، تختار فقط لحظات، ولذلك فإنها أكثر مما تبحث عن الحياة تبحث عن الكائن»9. والمرتكز الثاني أساسهُ أنّ بناء الزمن في القصة يكون عبْرَ اللغة. إنّ الزمن في القصة أثناء تحقّقه النّصي لغوياً، وتشكّله وفقَ مقتضيات التخييل القصصي، فإنّهُ يتحرّر من أيّ سلطة تجريبية ومرجعية محدّدة، ويصير ممتلئاً بدلالات متعددة وأبعاد متنوعة يولّدها سياق السّرد والتّلقي. بهذا المعنى، فإنّ التجلّي النّصي للزمن في القصّة يتحرَّرُ من أي بناء معياري يقترحُ شكّله وِفقَ هذا النمط أو ذاك. إنَّ ما يُسْهمُ في التحرّر من سلطة النّمط في تجلّي الزمن نصّياً، هو التحولات الكبرى التي تمسُّ الوجود الإنساني، وما يتولّد عنها من محاولة فهم للزمن في وجوده (الحاضر) أو انقضائه (الماضي) أو احتماله (المستقبل)؛ مع ما يعنيه ذلك الفهم من تأسيس لنظام علاقات مختلفة مع الذات والآخر والعالم. من هنا، فإنّ مجمل التحولات التي تمسُّ «الواقع» الإنساني يكونُ لها بالغ الأثر في المبدع، مما ينعكس على التأثير في الاشتغال على الزمن في القصة القرة؛ لأنهّ «لا يمكن للقاص أن يكون خارج دائرة الزمن الذي يعيشه .. فهو يؤثر ويتأثر حتماً، وهذا ينعكس بطريقة أو بأخرى على إبداعه: للزمن دور فلسفي وفاعل في تطوير القصة»10. يتجلّى الزمن في القصة مقترناً بالزمن الذي تأثر به القاص، وأخضعه لبناء سردي دال. كأنّ الزمن المتخيّل القائم في بناء القصة القصيرة يستحضر الزمن الوجودي الفعلي، لكن في أبعاده الرمزية الدّالة، ودلالاته العميقة التي تتطلّبُ جهداً معرفياً في بنائها. من هنا، فالقصة القصيرة لا تؤرخُ لأزمنة معينة، بل تُبيّن حركية العالم وانسيابيته، وتفاعل الإنسان مع ذلك، مما يتطلّب رؤى لإدراك رمزية تلك الحركة وهذا التفاعل،. بهذا المعنى، فإنّ القصة القصيرة تشيّد، وفق جمالية الإيحاء والترميز، أزمنة متنوعة ومتعدّدة، فتصير قصة تسرد حكاية، لكن بأفق معرفي خلاّق، لأنّ البناء الفني والجمالي للزمن في القصة صيّرهُ متحرّراً من أيّ انغلاق دلالي. لهذا، تظلُّ النّظرة إلى القصة القصيرة باعتبارها جنساً أدبياً مماثلة للنظرة «إلى الأدب كفن تركيبي لعوالم رمزية، مفتوحة على قراءة وتأويلات متعدّدة.. كرحلة عبر الخيال، إلى المجال العام أو الخاص من زمننا، قابل كي يُعاد تخيّلهُ ويتم تحويله إلى قصة.. كبحث في المعرفة، وترجمة رمزية من خلال الأسئلة»11. يضيء قول القاصة الإسبانية خوليا أوتشوا Julia Otxoa ثلاث قضايا هامة متصلة ببناء الزمن في القصة القصيرة: أولهما، قضية بناء الزمن؛ فتتجلّى القصة القصيرة، بموجبه، تعبيراً سردياً فنّاً مختزلاً وكثفاً يبني الزمن وفق جمالية الترميز، فيتحرر المتخيّل القصصي من «الزمن» الصريح الذي يقتل القصة القصيرة، ويدمّر روحها الإبداعية، ويبرز «السذاجة» في بنائها الجمالي. وثانيهما، قضية كيفية بناء الزمن في القصة؛ حيث إن القصة القصيرة تبنى «الزمن»، بناء على أحداثها، وِفْق مسار فني فكري يقومُ على حُسن تدبير «الوحدة» الزمنية القصصية الدّالة (وحدة الزمن). وثالثهما، قضية أبعاد الزمن في القصة القصيرة، لأنّه زمن يظلُّ رمزياً في حكاية القصة وخطابها، مما يلزم تشييد الدلالات وبناء الإبعاد. لكنَّ ذلك يظلُّ مشروطاً بوعي الهوية النوعية للقصة القصيرة، التي تراهن على قارئ يفكّك الرمز الزمني، ويبني أبعاده الممكنة والمحتملة. يكشفُ بناء الزمن في القصة القصيرة أنّها تعالج الكثير من القضايا المتّصلة بالإنسان في الوجود، فتلتقط ما يرتبط بذاته وكينونته ضمن سياق زمني دالٍّ، وما يتولّد عنهُ من علاقاته متعدّدة ومتنوعة. بهذا المعنى، تتبدّى «القصة رؤية مكثفة لأكبر القضايا استشكالاً واستعصاءً: المصير البشري، المعرفة الإنسانية، الذات، الجماعة، الجمال الإنساني..»12. ونضيف من جهتنا، الوجود البشري، والجهل الإنساني، والفرد والأنا والآخر، والقبح والبؤس، والفعل والانفعال، والتفكير والشعور، والوجود والعدم، والحقيقة والوهم، ..إلخ. من هنا، فإنَّ مركز بناء الزمن في القصة القصيرة، وِفق شروط التخييل السردي الجمالية، يكونُ شديد الاقتران بقضايا الكائن البشري في الوجود، وفي حركيته المؤطرة بالفعل في إنتاجها، أو بالانفعال بها وبآثارها. هوامش -نجيب العوفي، مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية: من التأسيس إلى التجنيس، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء – بيروت، ط1، 1987، ص: 53 2- تشارلز ماي، القصة القصيرة: حقيقة الإبداع، ترجمة: ناصر الحجيلان، دار الانتشار، بيروت، ط1، 2011، ص: 187 3- فرانك أوكونور، الصوت المنفرد: مقالات في القصة القصيرة، ترجمة: محمود الربيعي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2009، ص: 113. 4- نفسه، ص: 175. 5 – بول ريكور، الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي، ج3، ترجمة: سعيد الغانمي وفلاح رحيم، دار الكتاب الجديد المتّحدة، بيروت، ط1، 2006، ص: 19. 6 – خولْيو كورْتاثار، «تأملات في الكتابة القصصية»، ضمن: هكذا أكتب قصصي: تأملات وأفكار ونصائح في كتابة القصة القصيرة لكتاب من إسبانيا والبرتغال وأمريكا اللاتينية، إعداد وترجمة: سعيد بنعبد الواحد، فضاءات، عمان، ط1، 2016، ص: 59. 7 – بول ريكور، الزمان والسرد: الحبكة والسرد التاريخي، ص: 44. 8 – نفسه، ص: 45. 9 – ليدْيا جورْج، «تأثير القصر»، ضمن: هكذا أكتب قصصي: تأملات وأفكار ونصائح في كتابة القصة القصيرة لكتاب من إسبانيا والبرتغال وأمريكا اللاتينية، ص: 144. 10- خولْيا أوتشوا، «كل شيء بدأ في دولاب قديم»، ضمن: هكذا أكتب قصصي، ص: 124. والتّشديد من عندنا. 11-12- محمد اشويكة، المفارقة القصصية، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، ط1، 2007، ص: 163.