متى يعود الشعر إلى بيته، إلى معبد الكاهن وكهف العراف والليالي المقمرة للمُنجم وصحراء المجنون وعصا النبي؟ متى يعيد للكلمة صوتها وللصورة سحرها ويقبض على الزمن وينْظمه في ترانيم وأنغام، ليهب للحياة معنا وللوجود أمل، ويخلّص الفاني من بطش العدم؟ أي متى يعود إلى بيت الحكمة وصولة الحكيم وهو يفتح الآذان والبصائر لترى العالم وقد استحال إلى عوالم والمكان وقد سكن الأزمنة والواقع وقد طار بأجنحة الخيال؟ تلك الحكمة التي تُعلّم بأن الحياة ليست هي ما تراه العين وما تحكمه الضرورة والإمكان، بل هي عصارة تجربة التخطي والتجاوز وبلوغ أقصى استحالة والدفع بالطاقات الخلاقة نحو التجدد الدائم. الذي يقول أن الشعر مات وتدنى في مراتب الفنون والآداب، يجهل حقيقة الشعر ولا يرى فيه غير كلام منظوم، بينما الشعر لغة تتخطى الكلام، هو حركة الراقص وألوان الصورة التشكيلية والفوتوغرافية ولغة الموسيقى التعبيرية والغنائية والشريط السينمائي، لأن الشعر باختصار إيحاء ونغم انزاحا عن المبتذل والمألوف. ومن إيحاءاته تتقطر الحكمة وتسيل، ذلك أن هذه الأخيرة ليست موعظة، بل هي نظرة تخترق الغطاء العامي للبصائر وتكشف المجهول فينا وتجليه حتى نتمكن من ملامسته. في ديوان «طرق بسيطة لفهم العالم» للشاعر علي أزحاف، تعود أبخرة الكاهن ليقرأ طالعها في الجمار المتوقدة، من خلالها نعرف حقيقة العالم دون أن نبحر بعيدا لقنص هذه المعرفة في المجاهل المتشعبة، بل بطرق بسيطة، يكفي أن نلتفت إليها لنراها أمامنا فاضحة تخترق العيون. في المقطوعة الأولى «سيرة» التي هي اختزال لسيرتنا، إمعان في الخطيئة لنيل شرف الحكمة: أنتظر أن يأتيني الشيطان في صورة أفعى، أو امرأة تغويني بقضم التفاحة المحرمة، وإذ أقضمها تنفجر بين يدي منابع الحكمة. من الخطيئة أطعمنا الحكمة وبها صارت لنا معرفة بالعالم، فلا وجود لطهرانية تفتح أعيننا على حقيقة وجودنا، لأن كل انتهاك فتح جديد وولادة ثانية تعيد للحياة سموها وللإرادة قوتها، فلا وجود البتة لحياة من دون خرق وتقويض وهدم، لتشييد بناء جديد. لكن هذه المعرفة الناشئة عن الخطيئة التي فتحت عيوننا على الوجود لن تقودنا إلا إلى الجهل بالحياة، لأن هذه الأخيرة تعاش ولا تفهم، وكل ما نكتبه عنها يموت ويدفن في اللغة: أن تتأمل الحياة، أن تكتب عن الحياة، أمور سهلة جدا، الأصعب والأهم أن تعيشها قبل أن تتحول على يديك إلى لغة. تقضي حكمة الشاعر أن امتلاك ناصية اللغة التي اعتقد الإنسان أنها تمنحه معرفة بالعالم، هي العائق الذي يسلبه القدرة على التعبير والكشف وتشط به بعيدا في تعقب سراب الحقيقة، فلا يقبض إلا على الفراغ، ذلك أن اللغة ذلك الحبل الخفي الموصل، لكن لا يوصل إلى أي شيء، بل هي أكثر من ذلك تطمس وتعمي وتخيب كل من يسعى لإدراك المدرَك: بعجز اللغة أمام بلاغة الصمت، ارتطام جثة باردة بقلب عاشق أضنته سبل الركض خلف ما لا يقال في فقه العشق وتبادل النظرة من شرفة لشرفة، شرفة أقول أحبك وشرفة أقول تحبني، وبينهما تموت الحقيقة وحيدة، فلا تحاول أن تكون أكبر من اللغة. إن سحر اللغة الذي يوهمك أنك تتملك الأشياء فيظهر لك العالم واضحا في مرآة وعيك، ما هو إلا فخ منصوب يقودك طوعا نحو الهاوية، كما في قصيدة «البحار» الذي يجتذبه شدو الحوريات، فيحشو أذنيه بالصمغ كما فعل أوليس في الأوديسة ليجنب نفسه ورفقاءه الموت الوشيك غرقا في البحر. تلك اللغة التي من أصوات ساحرة وصور تكاد تلمس باليد هي مجرد وهم كاذب يوحي لك بوجود أشياء كأنها الحقيقة وقد تبدت للعيان، بينها هي زيف مختلق ورياء سافر، كما تبدى في قصيدة «طرق بسيطة لفهم العالم»، التي ترسم تهافت الكائنات نحو صور مزيفة توهم بالحقيقة، وهي مجرد شراك ينصبه الموت للإيقاع بالفريسة، والذي تنتهي القصيدة بتوصيفه: لاحظ كيف ستصبح هدفا سهلا للموت، وكيف ستختلط الأرقام والأسماء والشوارع، ولن يبقى سوى ظلك شاهدا على الكارثة. ويقدم الشاعر صورة هذا الموت الناشر شباكه والمترصد لضحاياها خصوصا حينما يستفرد بالفريسة في قصيدة «لا أحد»: «عنكبوت يفرش/ في الركن شباكه/ مثل القدر الجائع/ يصطاد ذباب الزمن». هكذا نجد الشاعر يتلظى في جحيم لغة لا فكاك له منها، فهي البلسم والوباء، يعرف أنها سحر ووهم يقود للهلاك، لكنه يعرف كذلك أنها قدره وسبيله الوحيد لإدراك ذاته ووجوده ولو بشكل خاطئ. فاللغة وإن كانت جنة الشاعر من خلالها يرتع في مباهج الخيال، فإنها سعيره لا تهدي إلا نحو موته وهلاكه. لذلك ترى الشاعر يعيش زواله في وجوده وغربته في حضرة أنسه، يصرخ من دون صدى ويسير من دون طريق ولا دليل، كما في قصيدة «غريب أنا»: غريب أنا، زادي في الطريق لغة تكره الأقنعة (…) أشعاري قوافل من جنون تخترق صحاري المعنى دون دليل غبي أو خرائط. وفي هذا التطواف الباحث عن لغة تأسر الوجود وتستكنه عمقه وتجعل الموت المتربص مجرد طيف باهت اللون يتلاشى مع الرؤية المتبصرة لديمومة أزلية، لا يتردد الشاعر في الإقرار بحقيقة الموت الأبدية التي لا يمكن للأوهام أن تراوغها ولا للزيف أن يخفي بشاعتها، حيث يتستر كل وجه جميل على جثة عفنة. في قصيدة «وحده الموت» يحطم الشاعر كل الأزليات والأساطير الناشرة لوهم الخلود، معيدا الحكمة إلى ينيبعها الأصلية كما كانت مع الفلاسفة الطبيعيين، وتقديس الموت الذي هو برهان تجدد للحياة: وحده الموت يمد أمامك الطريق، كي تعبر إليه أو يعبرك. كيف الحياة إذن والموت هو الحقيقة والأصل والتجدد، والحياة بدونه لا شيء؟ الحياة أولا هي التي تعاش شعرا يخلده الزمن (فرناندو بيسوا) ثم الاختبار الدائم لإرادة اقتدار تتخطى كل الحدود: «بأقدام حافية/ سأعبر الجحيم/ وفي كل خطوة/ تشتعل القصيدة»، والإيمان الأعمى بالقدر، من دون تخطيط مسبق ومن دون إكراه، وتبديد كل الأفكار المسممة بالسعادة والتفاؤل، لأن الوجود صيرورة، ليس أمام الشاعر إلا أن يسخر من هذا العالم ويعيش مفارقاته، مثلما يذكر الشاعر في قصيدة «مثل رامبو»: سأحمل قدري بين يدي ثم أهيم في الملكوت بأعين مغلقة، أستمع للخطوات التي تتعقب أثري وحين أصل إلى المنتهى، منتهى الإحساس باللاجدوى أفعل مثل رامبو، أقعد الجمال على ركبتي ثم أهجو العالم.