لم تكن سعيدة تتوقع هذه النهاية وإلا ما اختارت ذلك المصير، لم تكن تعلم أن حبها المرفوض سيسبب كوارث إنسانية، فالحكاية كانت غير منطقية ويستحال أن تندرج في قصص الحب للمفارقات والمتناقضات التي جمعتها، سعيدة البنت المدللة التي عاشت في قمة البورجوازية وسط أخوين من الذكور، كانت نبراس العائلة ونور حياتهم, من رآها لأول مرة سيعشقها، فهي جمعت بين الجمال والرقي وحسن الاخلاق، حين رأينها أول مرة ظننها إحدى بطلات الأفلام الهندية، فهي تشبه ملامحهم، امرأة فاتنة الجمال كل من عرفها يقول «سعيدة لا تستحق الا أن تكون زوجة لأمير أو سلطان « لأنها فعلا عاشت أميرة في بيت أهلها، فهي عاشت عيشة الاميرات، عاشت في وسط العز والمال، كل أقربائها وأبناء أصدقاء والديها والجيران كانوا يتمنونها زوجة لأحد أبنائهم ، ولن تختار هي إلا أحد حراس بيتهم الكبير، فهي عاشت في رياض بمدينة فاس و تملك عائلتها أخر بمراكش وشبه قصر بالدارالبيضاء، والدها من كبار التجار بالمغرب حيث يملك معامل للنسيج وضيعات ومحلات تجارية بالسنيغال وبدول أخرى، رغم غنى أسرتها إلا أنهم متواضعون ،لكن تواضعهم لم يمكنهم من قبول حب ابنتهم لأصغر عامل يشتغل ضمن عمالهم ، حين صرحت سعيدة بحبها لوالدتها أغلقت الأبواب والنوافذ حتى لا يسمعها أحد « محمد العساس واش حمقيتي ،انسي الموضوع لو علم والدك واخواك لقتلوه ...» صدمة قوية ولم تتوقعها الام من ابنتها بسبب الهوة الطبقية الشاسعة، بسبب فارق العمر فهو يكبرها ب15 سنة تقريبا ثم بسبب قبح الملامح وجهل القراءة والتعلم، فلا نقطة التقاء تجمعهما، صدق من قال أن «الحب أعمى يقوده مجنون»... من هول الصدمة بدأت والدة سعيدة تتحدث الى نفسها في غرفة مقفلة « أويلي محمد العساس شنو فيه ما يعجب لا قراية لا زين لا مستوى، أكيد سحر لبنتي علاش هي ما شيفاش شنو داير بها من الشباب وشنوعاملين عليها...» بالفعل هي لم تكن ترسم في مخيلتها غيره، وعلاقتهما لم تكن طبيعية، هناك اتساع الهوة والفرق واشياء أخرى... لم ترتح والدة سعيدة منذ سماعها لموضوع القصة وطرحته مزحة في جلسة اسرية كان يغلب عليها الضحك لترى ردة فعلهم »تصوروا ان يطلب محمد العساس يد ابنتنا سعيدة؟ كانت الردود جد سريعة من الاب أش هاد التخربيق لي تهدر عليه؟ اخوها لو تقدم لي لا اعدمته؟ وتحول الضحك الى كأبة بمجرد أنها مازحتهم في الموضوع، فأبلغت ابنتها بخطورة الموضوع، وطلبت من محمد «لعساس» مغادرة البيت والمدينة بعد أن قدمت له مالا تعويضا عن الطرد... لكن محمد لم يتقبل الامر وخطط للانتقام باسم الحب، حيث أقنع معشوقته بالهروب وان تترك لأبيها رسالة تعبر فيها عن اختيارها الشرعي في زواج بالحلال وان لولا رفضهم لما اختارت هذه الطريقة كما أقنعها بأن تصحب معها بعض مجوهراتها ليقوما برهنها لأجل تأسيس بيتهم الزوجي الى حين يشتغل وسوف يردها اليها ... بالفعل غادر محمد البيت والمدينة لكن مصحوبا بابنتهم المصونة، الى احدى القرى بضواحي مدينة مراكش عند عائلته في فقر لم تتوقع أن تراه، فقر أيضا للمشاعر والاحاسيس النبيلة، فجميعهم يعانون الحقد الاجتماعي كلهم عاملوها بإساءة بل عاملوها كخادمة وهي التي لم يسبق أن استعملت الماء الا في الشرب وغسل جسمها... بمجرد وصولهم كتبت رسالة أخرى لأسرتها بأمر منه، تتمنى فيها الا يسأل عنها أحد وأنها تعيش السعادة التامة مع زوجها، حين قرأ والدها الرسالة أمر جميع أفراد الاسرة بنسيانها وأن يعتبرونها ماتت، وحين يسأل عنها من طرف الأقارب يقال بأنها هاجرت للدراسة... سوف يبتسم الحظ لسعيدة حين اتصل أحد أقارب زوجها ليخبره بوجود عمل بأحد مصانع تصدير السمك بمدينة العيون ،وستتخلص من تلك العيشة المزرية التي كانت قد افتتحت بها حياتها الزوجية لتنتقل الى الحضارة كان هذا في أواخر ثمانينية القرن الماضي 1987 بالضبط حيث سنلتقي بسعيدة و نحن في تلك السنين لم نقبل لها ذلك الزوج ولو شكليا وحين عاشرناهم كجيران سنتأكد انه ليس زوجها بل كان معذبها، فلأول مرة كنا قد رأينا فيها عنف الزوجات تلك السنة ونحن أطفالا كلما سمعنا صراخها الا وطالبنا النجدة من الجميع لحمايتها، كان يشتغل بميناء العيون 25 كلم عن المدينة يذهب من السادسة صباحا الى السادسة مساء ، كنا نتواصل معها عبر النوافذ المشبكة ،نستمع الى حكاياتها، نقدم لها الشكولاطة والحلوى، كانت تنتظرنا كل صباح ،كنا نحس بمعاناتها حتى وإن لم نفهمها إلا بعد ذلك، وسنفكها من القيود يوما راينا زوجها يبحث عن وسيلة اسعاف حين تعرضت لأغماء حيث اقتحمنا بيتها نحن وكل الجيران لنعجل من اسعافها وسيرافقها الجميع نحو المستشفى وتكون الخطوة الأولى لمؤازرتها والسؤال عن صحتها فهي حامل بتوائم ،لكن لم يستحب زوجها هذا الانفتاح ودعا والدته للمجيء لتكون أسوأ أنيس لها حتى لا تختلط بالجيران، مع مجيء والدته عدنا نسمع الصراخ ثانية فالأم أيضا تعنف زوجة ابنها ولا تحدثها الا بالضرب ونتف الشعر ،وحين عودة ابنها ستبلغها العكس لينهال هو أيضا عليها ضربا دون رحمة ولا حسبان لمن في أحشائها... واقع سعيدة لم يؤلمها وحدها ويؤلم ذويها بل كان يؤلم كل الجيران نساء ورجالا وأطفالا، حاولنا إشاعة قصتها في الحي للمزيد من التعاطف فهي وحيدة ودون اهل في العيون ولا يعلم أحد مصيرها وهي تتعذب في بيت تغيب فيه الراحة، لولا حملها لما اقتحم بيتها الجيران, الكل يقدم لها ما ألذ وطاب من طعام تعاطفا مع غربتها، الى حين أنجبت طفلها وأغرقوها هدايا برغم أن زوجها لم يكن يحب لها الاختلاط، فغيابه عن العمل ساعد من ذلك خاصة وأن الجيران استغلوا طمع والدته للتواصل مع زوجته عبر اغرائهم لها بكل ما يضعفها أمامهم ... قرر الجيران مساعدة سعيدة للتخلص من هذه المعاناة عبر الاتصال بوالديها، لانقاذ ابنتهم من عذاب مستمر وسوء معاملات قد تؤدي بها الى الموت، كانت عدة محاولات فاشلة للوصول الى رقم هاتفهم لان سعيدة لم تتذكر الا هاتف بيتهم وكان دائما مقفلا، المهم كتبنا لوالديها رسالة وانتظرنا اتصالهم عبر الهاتف الأقرب الى مسكن ابنتهم بالفعل بعد مدة من الانتظار سوف تتصل والدتها لتبلغنا أنه بعد عناء وشقاء أقنعت والدها واخوتها بعودتها, لكن اشترطوا أن تأتي وحدها لا يريدون من يذكرهم بذلك المجرم في بيتهم، لكن الأسف هذا مالم تقبله سعيدة, فهي لا تستطيع التخلي عن طفليها رغم أن الجميع نصحها بقدومها على خطوة المصالحة وبعد ذلك بإمكانها اقناع العائلة بقدوم أبنائها التوائم ، لكنها رفضت، واستمرت في المعاناة ،سنة فقط بعد التوأم ستحمل طفل آخر ليكون عدد أطفالها ثلاث ذكور، ومع ذلك فزوجها يعود كل ليلة مخمور وينهال عليها ضربا من غير سبب, بالإضافة الى تجويعها وحبسها في البيت طيلة النهار، فلم يسبق ان رأيناها خارج بيتها الى أن رأيناها في الشارع العام ونحن عائدون من المدرسة لمحناها تتمشى حافية القدمين تحمل لعبة طفل وتلتصق بباب أحد المحلات التجارية وكأنها تبحث عن حماية ،عرفنا أنها فقدت عقلها حين قدمنا لتحيتها ولم تحدثنا وهي التي كانت تنظرنا كل صباح لتحكي لنا وتسمع منا ،فهي كانت صديقتنا بل كانت تعلمنا الأناشيد باللغة الفرنسية والتي لم نتعلمها الا من خلالها ... ابكتنا وضعية سعيدة، وصرخنا في الحين «سعيدة جنت « دخلنا بيتها المفتوح وجدنا الأطفال لوحدهم يصرخون لا طعام بقربهم يلبسون الحافظات التقليدية القديمة التي انتهى الجميع من استعمالها، رغم أن وضعية زوجها المالية أنداك لا بأس بها في المعمل الذي يشتغل فيه، فقط بسبب الشح والبخل لم يرغب في تحسين وضعية معيشة أسرته... بعد هذه الوضعية الحزينة لسعيدة لم يكن أمام الجيران سوى إبلاغ والدتها وبعث صورة مؤثرة للحالة التي وصلت اليها ابنتها، بالفعل كان القرار سريعا وجاءت والدتها، بعد رؤيتها لابنتها في تلك الحالة، أصيبت الام بإغماء من هول الصدمة كان المنظر مؤلما وهي تبكي لقاء ابنتها الوحيدة، وتؤنب نفسها لفشلها بداية في السيطرة على الموضوع ... أصيبت الام بحالة هيسترية نقلت الى المستشفى ليجدوا أنها أصيبت بالسكري ولم يكن تلك الفترة بمستشفى مدينة العيون تخصص ليأتي احد أبنائها ويحملها على فور السرعة عبر طائرة خاصة الى الدارالبيضاء حيث لم تمكث طويلا في العلاج حتى توفيت ،في حين تم نقل ابنتها للعلاج النفسي وتزوج زوجها بحجة من يربي له الأطفال و بعد بلوغهم 13 سنة قرر أحد التوائم الهجرة السرية مع مجموعة من القاصرين ونجحوا في الوصول سالمين, حيث تبنتهم احدى المنظمات الخيرية بالجزر الكناري ،في حين قرر توأمه الآخر التعلق بأخيه الاصغر والبحث عن أمه التي منذ أن اختفت بحجة العلاج لم نسمع عن مصيرها شيئا...