هناك من ينادونها ب «الطيابة» أو «الكسالة « ثم في بلدان أخرى يشاع لها «الغسالة» أو «المكيسة»، إنها تلك السيدة الطيبة الصبورة والتي تؤثث فضاءات الحمام البلدي، ولا تكتمل طقوس «التحميمة « المغربية إلا بحضورها، فهي ليست أجيرة لدى مالك الحمام، ولا صاحبة راتب شهري قار، فهي لا تعيش سوى على اكرامية الزبونات، عبر مبلغ رمزي يقدم اليها مقابل خدمات متنوعة تتعلق بجلب الماء للزبونة من «البرمة»+ عملية استحمام الزبونة فهي توفر لها الراحة التامة خلال مرافقتها، حيث تقدم لها كل ما تحتاجه فترة تواجدها بالحمام ... ورغم دور «الطيابة» في تحقيق الراحة والاسترخاء لزبوناتهن، إلا أن بعض هؤلاء النسوة، أضحى تواجد الاخريات في «تحميمتهم» ليس بحجة» الفرك» والغسيل فقط، وإنما فرصة للتباهي، بل صار نوع من البريستيج أن تتحدث كل واحدة عن «كسالتها» المفضلة, بالإضافة إلى أن هناك منهن من تستغل فرصتهن في الحمام لإعطاء تلك « الطيابة» التعليمات والاوامر أمام الجميع تعبيرا عن الفوارق الاجتماعية وعن سلطة المال في استعباد الضعفاء رغم هزالة ما تقدمه بعضهن مقابل خدمة ممزوجة بالتعب والالم... وقد لعبت الحمامات أدوارا سوسيوثقافية لدى عدة مجتمعات منذ قرون مضت, سواء عند اليونانيين او الأندلسيين ثم الاتراك والشرقيين, ويبقى للحمام المغربي طقوسه الخاصة، فهو كان فرصة لتبادل المعلومات، وفرصة لزواج العديد من البنات حيث أغلب «الطيابات « كن يشتغلن خاطبات، ويرجع ذلك كونهن يتعرفن على جميع فتيات الحي ويتواصلن معهن بشكل دائم داخل الحمام ليعرفن عبر الدردشة نوع عقلية كل فتاة، ومن خلال طقوس مجيئها للحمام يعرفن مستوى رقيهن أي» التاويل» الذي يؤهلهن الى درجة زوجة ممتازة أم لا؟ ولأن المجتمعات كانت جد منغلقة فلا تكتمل صورة جمال النساء الا عند «الطيبات» وهن الوحيدات القادرات على ترشيح البنات للزواج عبر معيار الجمال... ومع ميلاد تصاميم جديدة للحمام تم استقطابها من تركيا، حيث بدت تنافس كل الحمامات المغربية, بل صار يصاحب كل حمام تقليدي حمام تركي خصوصا في المدن, زيادة على الحمامات التي تتواجد بالأحياء الراقية أو فنادق خمس نجوم والتي تحولت الى نوادي خاصة يلجأ اليها زبناء من طبقات راقية جدا وكذا بعض المشاهر الأجانب الذين يقبلون على زيارة المغرب، وبهذا تقلص دور «الطيابة» التقليدية لم يعد لها نفس الاهتمام برغم أنها مهنة عتيقة,تغيب فيها شروط العمل المريح، يغيب فيها الضمان الاجتماعي و التغطية الصحية، مهنة غير مهيكلة أصلا فهي لا تخضع إلى قوانين الشغل و بفضل مناخ العمل غير الطبيعي حيث تتواجد تلك السيدة كل يوم وسط درجة حرارة مرتفعة بالإضافة الى معاملتها مع جميع الفئات الصحية وأشياء أخرى ... يامنة اشتغلت أزيد من 40 سنة في حمام تقليدي بدرب السلطان بمدينة الدارالبيضاء، تحكي عن أوج المهنة بعبارات ملؤها الأسف الشديد « مشاو ايامات الحمام البلدي ومشاو مالياتو « شخصيا اشتغلت مع والدتي قبل المسيرة الخضراء في هذا الحمام الذي كان مصدر عيش العائلة بعد وفاة والدنا، كانت مهمتي الأولى وانا عمري لا زال لم يتجاوز 16 سنة الجلوس أمام الباب لجمع مستحقات التحميمة ،لأتدرج في المهنة و أحصل على منصب داخل الحمام مكلفة بحراسة حوائج المستحمات أي «مولاة الرزمة» وأنا في هذه المهمة لمدة طويلة كلما حاولت تجاوزها ودخول عقر الحمام تمنعني والدتي رحمة الله عليها» لا أبنتي صعيب عليك السخون أنا فاتو أيامي انت الا باقي غادي تزوجي وتولدي أولادك» واستمرت هي في التضحية وسط الحرارة الى أن أصيبت بمرض القلب وتوفيت ، وأخذت مكانها رغما عني لان الزوج الذي كانت تريد هي لي أن أحافظ له على صحتي لم يظهر ،و هي لا تعلم أن مجتمعنا يحتقر حرف البسطاء مثلنا بل يحتقرنا نحن لأننا ضعفاء ،وحتى الرجل نفسه مهما كان مستواه فهو يتطلع الى زوجة أحسن منه مالا وصحة ونسبا وجمالا، أغلب طيبات الحمام إما مطلقات أو أرامل قليل من تجدها متزوجة بيننا، المهم أنني مرتاحة كوني اشتغل في عمل شريف أولا ،وعن طريقه تربينا أيتام تربية حسنة ،إخوتي تابعوا دراستهم و اشتغلوا وأنشأوا أسرة ، أنا قررت الاستمرار في المهنة رغم تدهورها لأنني لا أتقن غيرها، كما أن ارتباطي بالمكان هو من شدة ارتباط بروح والدتي رحمها الله واعتباري ان اسرة الحمام اسرتي التي لن تفرقني معها سوى سنة الحياة ، إضافة الى أنني لم أتعود على الجلوس و أخذ الدراهم من إخوتي الذكور، رغم أنني من كنت أمدها لهم ،وهم غير قابلين استمراري في نفس المهنة و لأذكرهم دائما أن هذه المهنة الشريفة منعتكم من التسكع في الشوارع والإقامة في «الخيريات» بسببها عشتم عيشة كريمة وقد عانت فيها والدتنا المحن من أجل ان تسترنا جميعا، صحيح أن الأوضاع والظروف تغيرت فنحن كنا نشتغل مع فئات تقدر عملنا مهما كانوا بسطاء لان الناس كانت تعرف معنى الأصول ،فكان الحمام يستقبل العروسة والنفيسة والضيفة الآتية من مدن أخرى تعبيرا من العائلة المستضيفة عن فرحتهم بقدومها، وكنا نتغذى من خير الزبائن والجيران إضافة إلى أننا نستقبل هدايا من عائلة العرس، وكانت هناك طقوس تقام في شعبان ورمضان بالحمام التقليدي نبهج فيها ونمرح ونربح أيضا مداخيل خاصة، كانت تأدب على زيارتنا سيدات من عائلات عريقة ننتظر قدومها بفارغ من الصبر لكرمها وحسن معاملتها ،في الحقيقة كنا لا نحس بالتعب لتواضع الزبونات و سخاوتهم وتقديرهن لنا، اليوم تغير كل شيء وظهرت الحمامات التركية والحمامات العصرية داخل الفنادق وهناك بعض العائلات البورجوازية المحافظة ،خصصت ضمن أجنحة سكناها حماما تقليديا خاصا، فمنهم من يتعامل مع «طيابة درويشة بحالنا» ومنهن من يطلب أخرى عصرية تتقن المساجات، بالمفيد أن العمل أصبح في تدهور ولا نشتغل في الأغلبية الا مع النساء العجزة التي يقدمها لك ابنها او ابنتها ويعود اليها ... وتضيف «فاطنة «طيابة أخرى بأحد حمامات العكاري بالرباط على أن ظهور الحمامات العصرية والتركية بالخصوص ساهم في تقلص عملهن، وأضعف مردودهن المالي، حيث أغلب الزبونات التي تقدر لهن خدمتهن، فضلت الحمام التركي ربما لأنه حمام نخبوي، كما يتميز بجودة الخدمات وقلة الزبائن، والاشكال أن أصحاب هذه الحمامات العصرية لا يقبل اشتغال بعض النساء اللواتي تجاوزن الأربعين سنة، كما يستقبل «الطيبات» اللواتي يتقن فن المساج، و تحكي بأسف شديد عن الوضعية التي أصبحت عليها أغلب الطيبات بالحمامات التقليدية حيث أحيانا يقضين أياما متتالية دون عمل ،خصوصا في الفترات التي يكون فيها الطقس دافئا حيث تتغيب فيها الزبونة العادية أيضا والتي غالبا ما تأتي رفقة جارتها او قريبة لها، تغنيها عن خدماتنا... في الحقيقة تغيرت قيمة الحمام «البلدي» وتغير معها كل شيء ،وتضررنا نحن العاملات من هذا التغيير الذي زاد من ضعفنا وليس لنا سبيل أخر فنحن قضينا مدة طويلة وليس لنا تأمين ولا تقاعد ،أغلبنا ينتهي به الامر نحو أمراض مزمنة في غياب تغطية صحية وغياب ضمانات العلاج, نحن لم نعش سوى على إكراميات الزبونات، لكن كانت هناك فئة تقدر عملنا, لقد لبسنا أغلى الملابس ولبسها أبناؤنا عبر زبونتنا كما ألبستنا بعضهن الحلي و كنا نستقبل زبونات من نوع خاص، حيث هناك من أبناؤهم اصبحوا وزراء وسفراء ومسؤولين سامين ورحلوا الى أحياء راقية ،ولم تغير أمهاتهم حمامها و بدأن نستقبلهن الى أن رحلن عند الله, وكانت الزبونة تساعد الطيابة في البحث لأبنائها عن شغل او تساعدهم على إتمام الدراسة عن طيب خاطر منها، اليوم تقدم لنا بعض الزبونات «صوالد» 10 دراهم دون حياء، وهناك من تعاملنا باحتقار عل أساس أنها أحسن منا ،باختصار شديد «أيام العز مشات مع بنات العز»... وعن الاضرار الصحية التي يمكنها أن تلحق بالمرأة التي تشتغل مهمة «الطيابة» التقينا الدكتورة خديجة الحدادي أخصائية في أمراض النساء والتوليد بالرباط ، و ترى أن درجة الحرارة المرتفعة بالحمام لها مضاعفات على صحة الانسان بشكل عام, فما بالك بتلك العاملة التي تقضي ساعات طويلة متتالية ولإشارة فهناك من تقضي أزيد من 12 ساعة داخل الحمام، كما تعتبر الدكتورة الحدادي أن جميع أعضاء الجسم معرضة للضرر في تلك الظروف بدءا من الجلد والقلب ثم الرئة والاغشية المخاطية والدورة الدموية والكلي ،بالإضافة الى الأعضاء التناسلية لسرعة اكتسابها مكروبات لا تقاوم الحرارة, حيث يمكن أن يصيب المبيض عدوى يمكن أن يسبب نفاذية الانبوب و يلحق بصاحبته أمراضا خطيره من بينها العقم، كما أن العمل في حرارة جد مرتفعة يتسبب في النزيف الدائم الذي قد يؤدي إلى الولادة المبكرة أو وفاة الجنين بسبب نقص الاكسجين و أيضا بسبب قوة التعب في حالة تكون فيها العاملة في الحمام حامل .. وتتأسف الدكتورة الحدادي كون أغلب العاملات كن يشتغلن طيلة اليوم دون انقطاع ولا تحترمن الوجبات الغذائية بشكل جيد ويكثرن من شرب الماء، وفي حالة إذا ما كانت مرضعة في هذه الحالة فإن ذلك يؤثر عليها وعلى طفلها بشكل سلبي، خاصة وأنها تشتغل دون حمالة صدرية ما يجعل ثديها معرض للمزيد من المكروبات ويمكن أن ينتج عن هذا تورم قد يؤثر على المستقبل الصحي للأم والرضيع في أن واحد. خلاصة القول إن الظروف التي تشتغل فيها «الطيابة» غير صحية ولها تأثير بشكل دائم على ارتفاع الضغط كما تظهر الاعراض الباطنية عند فترة معينة من العمل ما جعل أغلبهن يعانين من أمراض مزمنة أدت ببعضهن أحيانا الى الموت... ومن الناحية القانونية تعتبر مهنة «الطيبات» من المهن العريقة و غير المهيكلة ببلادنا ولا تخضع الى القانون المنظم للشغل، كما أن هاته الفئة من النساء يشتغلن في صمت بعيد عن صيحات الجمعيات النسائية والحقوقية، حيث لم يسبق أن اهتمت أي جهة بوضعيتهن ولا توجد لحد الساعة دراسة ميدانية حول وضعيتهن الاجتماعية والقانونية، ولا حتى أرقام عن تواجدهن وسط أرقام المهن، ويعملن في أوضاع لا تحترم الشروط القانونية للعمل ومع صمت الجميع استمرت المعاناة...