1 للكتابة النسائية طابعٌ متميز . فبالرغم من التحايل على الذات والموضوع ، يظل أدبُ المرأة ذا خصوصية ، تجعله متفردا في رؤيته للعالم . وبه فهو يطل أي الأدبُ على عوالمِ المرأة الحميمية في مواجهتها الدؤوب ، لمتطلبات الحياة الاجتماعية ؛ المادية والمعنوية . فالنظرة ذات البعد الفيزيولوجي ، عند المرأة ، غالبا ما تُبوصل ، وتُبئِّر النشاط الإبداعي من خلال سبر أغوار التجربة في الحياة . وفي هذا المضمار ، كانت لجسد المرأة حظوةُ أسْنى في مساحة الإبداع ، وذلك عبر التفافها على إيقاعاتها الأنثوية . إلا أن ما يطرأ على تضاريس الجسد من تبدلات و تغيرات فيزيولوجية ونتوءات حالمة ، كان ولايزال مادة دسمة في أدبها ؛ للإثارة ولفت انتباه القارئ إلى عالمها القرمزي الفاتن ، وما تشيده من عوالمَ ساحرة . غير أن المتخيل الإبداعي ، في الكتابة النسائية ، تجاوز هذه الرؤية الموضعية المحدودة للجسد ، بل تخطاها ليلامسَ جوانبَ أكثر إثارة في سيرورتها الإبداعيَّة . بالمقابل كانت هناك صحوة المتخيل عند المرأة المبدعة ، خصوصا ، مع موجات التحرر التي اجتاحت الأدب العالمي وتخلصه التدريجي من أدب الوصاية ، سيما وقد أدرك المتخيلَ وعيٌ خطيرٌ بأهمية التطوير والإبدال نحو منافسة حقيقية ، واقتحام لا مشروط لعوالمَ ثقافيَّةٍ كانت حِكرا على الرجل . فمهما كان الابداع الذي يدمر الواقع ، بنفس خشن الملمس ، تجيء ثقافة الذكورة حاملة طاقة كلها حيويَّة ، من أجل تغيير الأماكن والأدوار، حيث أضحت اللغة مادة لينة ومطواعة ، تصف عوالم الجنسين معا بحميمية وإخلاص . إلا أن القاسم المشترك بين ما هو ذكوري وما هو نسويٌّ ، يظل بؤرة حمئة يتقاسمها الوازعُ الإنسانيُّ على حد سواء ، فضلا عن طموحه أي الوازع الإنساني نحو مكاشفة الواقع ، ورفع الستار عن حياة ظلت ملتبسة وغامضة . 2 من خلال مبدعات مغربيات وعربيات ، واللواتي بدأن مسيرتهن الإبداعية على إيقاع الثورة على أقنوم الجسد ، في غمار ذلك ، يتضح مدى إصرارهن الكبير على قلب الطاولة على الجمود الفني والجمالي في الكتابة النسائية ، علاوة على بحثهن الجامد والمستمر عن ضفاف أثيلة ، تتحقق فيها ذواتهن العطشى إلى التميز والانفراد . فمهما كان الحديث ، عن التجربة الإبداعيَّة ، بما هي تظهر تلك الخصوصية والتفرد ، لا على مستوى الذات فحسب ، بل حتى على مستوى الموضوع ، فإن المتغيرات الجسدية عند المرأة تظل الوتر الحساس والسَّمفونيَّة الطروب ، التي يعزفها الإبداع النسائي ؛ مما يبعدها عن إدانتها للواقع الذي تعيشه . ففي سنة 1999 نشرت الكاتبة المغربية زهرة زيراوي نصا قصصيا في مجلة الثقافة المغربية ، والتي كان يديرها آنذاك الكاتب المغربي عبد الحميد عقار ، يحمل عنوانا ؛ « دورة تكاد تكتمل « . تقول فيه : « مدفوعا أخرج من رحم أمّي … أن أهبط أصوات مختلفة تتصاعد من حولي … ربي يعاونك تتعلق يداي ست مرات في اليوم بزجاج بارد … حبل السُّرة لم يعد ، الآن ، يقينا … «. فالخروج من رحم ، يراصفه ألم ومخاض ؛ طقوس تعيشها المرأة لوحدها . فهي كائن راكم تجربة الألم والمعاناة والمكابدة عبر مسيرة عمرية طويلة ، بعيدة كل البُعد عن أن يكون الرجل مشاركا لها في ذلك . فمن خلال نص زهرة زيراوي ، يتضح أن هذه الأخيرة دخلت مناطق لا تتسع دوائرُها إلا للإبداع النسائي فقط . فمن الطبيعي أيضا أن يكون لهذا العمل تداعيات جمَّة لا على مستوى الإبداع فحسب ، بل أيضا على مستوى بحثها الحثيث عن الحرية الذاتية ، التي تدافع عنها المرأة في كتاباتها الإبداعيَّة . إن الهروبَ إلى الخصوصية الإبداعية ، عند المرأة ، شطحٌ من شطحاتها في منتصف النهار ، حيث وفرت المجال الأرحب لبلورة تجربتها في الكتابة ، بعيدا عن أعين الرجل ؛ الذي أصبح إبداعه ، من منظورها ، أسير الإدانة الشديدة للواقع و الاحتجاج عليه فقط . غير أن هذا الاختيار الواعي ، الذي سلكه الإبداع النسويُّ ، لم يعد حبيس تلك الرؤية الضيقة لتفاعلها اللامشروط مع الذات ، وإنما استطاعت من خلاله أن توسع من رؤيتها للعالم بنفس جديد ، دون التفريط قيد أنملة في خصوصيتها الأنثوية . فما كانت لواعج الشوق والأحاسيس الفياضة للأنثى إلا مجالا خصبا لهذا التميز والانفرادية ، علاوة على مسحة الشعور بالأمومة ، كأحد الأعمدة والمنصات ، التي تبني عليها صرح الإبداع عند المرأة . في سنة 2008 نشرت الكاتبة القطرية دلال خليفة مجموعتها القصصية « الخيل و فضاءات البنفسج « ، تحكي الكاتبة في القصة ، التي تحمل عنوان المجموعة نفسَه ، عن علاقتها الحميمية بالمزرعة ، التي أهديت لها من طرف الأب ؛ حيث إن الأفراس ترتاع في ربوعها ومروجها بين أشنَّة وغياض غدير . ولعل في سرْد دلال ما يجعلنا نحس ونشعر ، فعلا ، أننا نودع معها جزءا من ذاكرتها ، التي تختزن لحظات حنين ممزوج بوجع وألم دفينين على اعتبار أن فك ارتباطها براشد ، زوجها السابق ، سيقابله تنازل نهائيٌّ عن المزرعة وخيولها . علاوة على تقمصها صفة الأمومة لمختلف الأفراس ، ودربتها معها ، التي نشأت وترعرعت في رحاب هذا البستان الفسيح وشبَّت بين عرائشه الظليلة . تقول دلال خليفة في « الخيل وفضاءات البنفسج « : « وهذه أحلامُ ، ألطف الأفراس لديَّ ، كثيرا ما تستأجر في المناسبات ليركبها الأطفال … لو سمعت يوما أن أحد الملائكة قد هبط إلى الأرض وتحول إلى فرس لظننت أنه أحلام . السن لها احترامها حتى إن كان المسن حصانا ؛ لو تعلمين يا نور كم أكن من التقدير لهذه الفرس … إنها جدة كل هذه الخيول تقريبا … هل تصدقين أنني أشعر أنها جدتي أنا أيضا؟» فيض الإحساس وشعور الأنثى بالألم ، يصاحبه لظى الفراق ، كل ذلك يُترجمُ إلى لغة تنساب مضاءة ، كنبع يسرق ضوءَ القمر . فلدلال أوصاف تطفح أنوثة من خلال مقاربة برؤية متخيل الكتابة النسائية ، علاوة على مغامرتها في الإدانة الشديدة لجشع الرجال والوصاية المزعومة ، التي يحاولون إجبار المرأة على الخضوع لها في استسلام ووداعة ؛ لأنه ، في نظرهم ، أضحى قدرا ماضيا وصامتا كأبي الهول . غير أن الكاتبة السورية غادة السَمان ، في باكورتها القصصية الأولى « عيناك قدري « ، قد سلكت طريقا آخرَ ، قانت فيه بين رؤيتين ، بل بين جنازتين تنشدان هزيمة نكراء َ للمرأة أمام مجتمع عربي لا يؤمن ولا ينصت إلا لنبض الفحولة والذكورة المتنمِّرة . تصور في « عيناك قدري « ضياع أنوثتها في أتون مبهمة وغامضة وسديمية ، وفي ظل مستقبل يتشظى أمامها ويذوب كالثلج ، فضلا عن تسليعها في مزاد زواج فاشل لا يحترم ناصيتها الأنثوية ، وميولها العاطفي والجسدي . ومما زاد في تعميق جرح هذا الموقف هو توظيفها لعنصر السخرية اللاذعة من عقلية القبيلة والعشيرة السائدة في مجتمع عربي متزمت ، لا يؤمن بتكافؤ الفرص و الحظ بين الرجل والمرأة . تقول غادة السمان في قصة « رجل في الزقاق « ، والتي ترجمت إلى اللغة الأنجليزية : « لا فرق لدى أبي سواء نجحت أم رسبت . درست أم أهملت … المهم انتظار الرجل الذي يخلصه مني ، من مصيبته الرابعة المغروسة أمام النافذة … مني أنا « . ولعل ما يزيد في انخساف القرح ، هو تلك الرؤية التي انطبعت على الجنس الآخر ، باعتباره سَجَّانا وجلادا للجسد ، وجهان لعملة واحدة ، سواء كان الآخرُ أبا أو زوجا أو أخا أو عمّا . حيث يعمل هؤلاء جميعهم على تحنيط المرأة ، وجعلها مومياء من زمن مصري قديم وبائد ، تقول الكاتبة : « لو كان لي بعض حريتي لأدركت منذ زمن طويل أن أحمد الذي سحرني بشاربيه الرفيعين ، رجل متزوج وشبه أمِّي. وأن هوايته تحنيط النساء . و لجنبت الفرحة البلهاءَ يوم جاءت أمه تخطبني زوجة ثالثة ، بعد أن سحرته غمزاتي ، وإشاراتي السخيفة عند هذه النافذة « . فمن الشجاعة أن تستنهض الكاتبة هممَها ، وتستعيد بعضا من جبروتها كأنثى ، كي تعود إلى الحياة من جديد ، وترمي وراءها عقودا من التخلف والتحنيط ، الذي شل قدراتها و طاقاتها الحيوية وتسير على درب الحرية و العلم ، مراصفة الرجل في تقلد مناصب حساسة كانت حِكرا على الرجاجيل ، وتخلق منها شيئا آخر . فلم تعد ذلك الكائن الذي احترف ثقافة البكاء على الطلل و الإذعان لجبروت الواقع ، تقول السَمان في القصة نفسها : « انفجر البركان … انسكب المطر … هدرت السيولُ … انهض و الشرر يتطاير من مسامي وشعري وأناملي … نظرات أبي المذعورة تستوقفني قبل أن أخرج من الغرفة صارخة « لن أتزوج من هذا الرجل … أريد أن أتمم دراستي … أحمد يتضاءل أمامي … يتضاءل … يستحيل إلى قزم … يتسلل من دارنا مع أمه ، وأنا أردد بلذة محمومة : أريد … أريد … للمرة الأولى أتجرأ على أن ألفظ كلمة « أريد … « . إن لهذه الثورة ، في وجه هذه الثوابت البالية ، التي رسمها المجتمع العربي بعامة والمجتمع الدمشقي بخاصة منذ القديم ، لجُرأة تكسر من خلالها أغلالا وأصفادا ظلت تعمل على إقصائها الدائم و المستمر من بناء مجتمع متكافئ وديمقراطي ، يؤمن بقوة الحرية و العلم . ومنه فإن الكاتبة غادة السمان سلكت سمتا مليئا بالحفر، وطويلا من النضال ، معلنة انضمامها إلى طابور من الكاتبات العربيات ، اللواتي احترفن تعرية الواقع العربي من طابوهات ، التي اعتبرنها مجرد قناعات تخفي غابات من تسلط و استبداد وسلب الحرية ، وفي مقدمتهن ليلى بعلبكي وكوليت خوري وليلى العثمان ، وفاتحة مورشيد وخديجة مروازي ومليكة الصوطي … وغيرهن كثيرات . وأخيرا ، يطول بنا الحديث عن تجربة المرأة في الكتابة والإبداع ، ويَبْقى لِبَانُ الحكي مُلقى على غريب التخييل ، وعلى طاقة مفعمة حيوية بالحلم والاستيهام . إلا أن الكتابة النسائيَّة تبقى إحدى اللبنات الأساسية ، التي يشد عندها اكتمال صرح الإبداع في تجلياته الإنسانيَّة الرَّفيعة ، فمن دون رقة ولمسة جنون وحنين وحب كالبلسم الشافي ، لا نستطيع أن نعلن عن عبير المرأة كعبير ورد في الكتابة . فمهما حاول الرَّجلُ فرض سطوته على مجالات الإبداع ، يظل عاجزا ، بل تتكسر مراياه عند هذه الأنامل المتمردة … التي احترفت سرقة القمر … فمن دون هذا الأخير لن نعرف للإبداع معنى و لا مغزى .