يعرف قطاع الصحة ببلادنا العديد من الاختلالات، تعبر عنها بكل وضوح الاحتجاجات المستمرة و المتصاعدة للمواطنين ، الذين يطالبون بحقهم في الولوج إلى العلاج، ومن جهة أخرى الاحتجاجات المتكررة للعاملين في قطاع الصحة العمومية الذين يعيشون وضعا صعبا، بسبب الإهمال الذي طال جل المؤسسات الصحية العمومية، مما دفع العديد منهم إما إلى تقديم استقالته والتوجه للعمل في القطاع الخاص، أو الهجرة خارج أرض الوطن، و للأسف هناك من فضل اللجوء إلى ممارسات غير قانونية لحل مشاكله المادية، والضحية بطبيعة الحال دائما هو المريض المضطر للتوجه إلى المستشفى العمومي لطلب العلاج، والذي أصبح يتعرض في كثير من الحالات للابتزاز والمساومة، في حين أن أطباء القطاع الخاص يشتكون من ضعف الإقبال على العلاج بحكم ضعف القدرة الشرائية للمواطنين وتعثر تعميم نظام التأمين الإجباري على المرض، بالإضافة إلى حرمانهم من الحق في التغطية الصحية والحماية الاجتماعية لهم ولأفراد أسرهم. هذا الوضع ، بطبيعة الحال ، تم التحضير له منذ سنوات، و كانت البداية عندما بدأ المغرب في تطبيق سياسة التقويم الهيكلي المملاة عليه من طرف صندوق النقد الدولي، حيث عمل على تقليص كل الميزانيات المخصصة للخدمات الاجتماعية بشكل عام ، ومن ضمنها ميزانية قطاع الصحة، و لحد الآن ، وبالرغم من تعاقب الحكومات المختلفة شكلا، نلاحظ أن هناك الاستمرار في التوجه نحو التخلي نهائيا عن قطاع الصحة وتفويته إلى المستثمر التجاري، و في هذا الإطار تعمدت الدولة عدم تجهيز المستشفيات والمراكز الصحية بما يحتاجه الأطباء للقيام بعملهم، كما عملت على فتح الباب لهجرة المستشفى العمومي، أولا بوضع نظام يسمح للأساتذة الباحثين بكلية الطب والصيدلة وطب الأسنان، بالعمل في المصحات الخاصة لمدة كان من المفترض ألا تتجاوز 5 سنوات في انتظار إحداث مصحات جامعية، وبعد ذلك فُتح الباب أمام المغادرة الطوعية، والاستمرار في دفع العديد من الأطر الصحية إلى التوجه للعمل في القطاع الخاص أو في مؤسسات غير حكومية مربحة أنشئت في مجملها خارج القانون (مصحات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومستشفى الشيخ زايد نموذجا) لخلق الفوضى وفرض الأمر الواقع. و الهدف الذي لم ينتبه له العديد من الناس بمن فيهم بعض الأطباء الذين ساهموا بوعي أو بدون وعي في تدهور الوضع داخل المستشفى العمومي، الذي بني وجهز من أموال الشعب المغربي، وبذلك ساهموا في تهيئ كل الظروف الملائمة لتفويت القطاع الصحي للمستثمر التجاري. وبالموازاة مع ذلك تم تشجيع وخلق جمعيات ومؤسسات تحت غطاء العمل «الخيري» وتشجيع الحملات الطبية الموسمية، والهدف غير المعلن من ذلك هو ترسيخ ثقافة التسول عند المواطنين وإفهامهم بأن الولوج إلى العلاج ليس حقا ،وإنما صدقة و هبة تقدمها الدولة. وكنتيجة طبيعية لهذا الاختيار ، نجد أن العديد من المؤشرات المتعلقة بالوضع الصحي ببلادنا لا تدعو فقط إلى القلق، بل إلى الخوف من المستقبل، إذ نلاحظ أن أغلبية الساكنة مازالت محرومة من حقها في الولوج حتى إلى الخدمات الصحية الأساسية، كما أن العديد من المواطنين، سواء كانوا فقراء أو من الطبقة المتوسطة، لا يعيشون فقط لمدة أقل، بل يوجدون في حالة صحية سيئة في مراحل مبكرة من عمرهم، بحيث أصبح العيش في صحة جيدة يعتبر بالنسبة لهم حلما بعيد المنال. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تدهور المستشفى العمومي بهذه الطريقة المتعمدة يدخل في إطار استراتيجية تخلي الدولة عن القيام بواجباتها من أجل تقديم الخدمات العمومية للمواطنين، وتفويت جل القطاعات الإستراتيجية والحيوية إلى المستثمر التجاري. هذا ما وقع بالنسبة لقطاع التعليم و جزء كبير من قطاع النقل والسكن وتوزيع الماء والكهرباء، و يتم الآن العمل من أجل إتمامه بالنسبة لقطاع الصحة، من خلال محاولة تمرير المشروع المتعلق بتبضيع صحة المواطنين والسماح بخلق عيادات ومصحات وفقا للقانون التجاري. حيث عملت الحكومة بالضغط عبر أغلبيتها العددية بالغرفة الأولى للبرلمان، من أجل التصويت على هذا المشروع حتى قبل أن يتمكن المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي من إبداء رأيه الذي سبق لمجلس النواب أن طلبه منه. هذه المناورة التي قامت بها الحكومة و أغلبيتها العددية في مجلس النواب تعتبر في حد ذاتها تحقيرا للمهام التي أناطها الدستور المغربي بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي وإهانة لمكوناته. كما أن إصرار الحكومة على تمرير هذا المشروع يأتي في الوقت الذي تؤكد كل الدراسات العلمية أن تعميم الولوج إلى العلاج لا يمكن أن يتحقق إلا بالتدخل المباشر للدولة. و هذا ما أدى حتى بالبنك العالمي إلى أن يوجه نداء إلى حكومات الدول الفقيرة والدول في طريق النمو ، كي تضع نظاما ضريبيا خاصا، من أجل تمويل الخدمات الصحية في القطاع العام كشرط أساسي لتعميم وتسهيل الولوج إلى العلاج للمواطنين ولإنعاش الاقتصاد. لأن المستشفى العمومي يجب أن يكون هو القاطرة للنهوض بقطاع الصحة، أما القطاع الخاص فلا يمكن أن يلعب إلا دورا مكملا. كما تجب الإشارة إلى أن العديد من الدراسات التي أنجزت في البلدان التي سبقت المغرب في فتح الاستثمار التجاري في الصحة، تؤكد كلها فشل هذه التجربة، لأن فتح الباب أمام الاستثمار التجاري في الصحة انعكس سلبا على قدرة المواطنين للولوج إلى العلاج من جراء ارتفاع تكلفة العلاج. لأن المستثمر التجاري يسعى إلى تحقيق أكبر نسبة من الربح، و هذا طبيعي، ومن أجل الوصول إلى ذلك، فإنه يلجأ إلى الرفع من المداخيل، وفي المجال الصحي فإن ذلك يتم عبر الزيادة في أيام الاستشفاء والمغالاة في بعض الفحوصات والتحاليل حتى بدون مبرر علمي، و في المقابل يعمل المستثمر على تقليص النفقات حتى على حساب جودة الخدمات الطبية المقدمة للمريض، وهذا تسبب بطبيعة الحال في إقصاء المرضى الذين لا يتوفرون على تغطية صحية من الولوج إلى العلاج، كما دفع بالصناديق المكلفة بتدبير التأمين عن المرض، إلى فرض الزيادة في قيمة الاشتراكات، مما تسبب في فرض أعباء إضافية على المقاولات وأثر سلبا على قدرتها التنافسية. لهذه الأسباب، فإن العديد من المنظمات الحقوقية والنقابات المهنية وجمعيات المجتمع المدني، ومنذ سنة 2009، اعتبرت أن فتح الاستثمار في الصحة لرؤوس الأموال التجارية يعني الامتثال لنظام السوق مع خلط الضروريات و الحاجيات مع الكماليات في التأسيس للطلب من أجل البحث عن الربح، لأن الفاعل الاقتصادي والمالي لن يتردد في الترويج لخدمات بما فيها المشبوهة من أجل تحقيق أعلى نسبة من الربح. وكل هذا سيؤدي ، بطبيعة الحال، إلى تفاقم أحوال منظومتنا الصحية، التي تتميز حاليا بإقصاء الفئات المستضعفة من الولوج إلى العلاج وعدم التكافؤ أمام التطبيب اجتماعيا وجغرافيا، وسيكرس التمييز في الحق في الولوج إلى العلاج. كما طالبت هذه المنظمات بفتح نقاش وطني، يشارك فيه كل الفاعلين المهنيين والنقابيين والسياسيين والمجتمع المدني، من أجل وضع تشخيص حقيقي للمنظومة الصحية ببلادنا، لتحديد الإشكالات المطروحة والحاجيات والضروريات والإمكانات المتاحة والواجب تجنيدها من أجل ترتيب الحلول حسب الأولويات، على أن يتوج هذا النقاش الوطني بتنظيم مناظرة وطنية للإعلان عن ميثاق وطني للصحة متوافق حوله، ليكون بمثابة الإطار الذي يجب على الوزراء المتعاقبين على قطاع الصحة الاجتهاد ضمنه لا خارجه للوصول إلى الأهداف المسطرة من أجل خدمة صحة المواطنين. صحيح أن التقدم العلمي والتكنولوجي وظهور أمراض جديدة ومستعصية، أدى ، في كل دول العالم، إلى الارتفاع في الطلب على العلاج وإلى ارتفاع مستمر لتكاليف العلاج، وإذا أردنا التغلب على هذا الإشكال لا حل لنا إلا باعتماد سياسة تجعل من الصحة خدمة عمومية، وفي هذا الإطار يجدر التذكير بأهم الاقتراحات التي سبق لنا أن تقدمنا بها للحكومة المغربية في العديد من المناسبات وهي كالتالي: 1 - ضرورة النهوض بالمستشفى العمومي عن طريق تقديم تحفيزات للعاملين بالقطاع العام، لحثهم على الرفع من مردودية المستشفى ليصبح مؤسسة منتجة، والكف عن اعتبار أن المستشفى العمومي خاص بالفقراء و المعوزين، و في هذا الإطار طالبنا بالسماح لصندوق نظام المساعدة الطبية الخاص بالمعوزين، تحمل مصاريف علاج هذه الفئة عند أطباء القطاع الخاص الذين عبروا عن استعدادهم لتقديم خدماتهم الطبية لهذه الفئة المعوزة من شعبنا، مقابل نفس تكلفة تلك العلاجات في القطاع العام. 2 - الإسراع بتعميم التغطية الصحية الأساسية من أجل تسهيل و تعميم الولوج إلى العلاج للمواطنين بدون تمييز. 3 - تنظيم الولوج إلى العلاج وإدخال ثقافة طبيب العائلة إلى نظامنا الصحي، من أجل تحسين جودة الخدمات الصحية و العمل على خفض تكلفة العلاج، حتى نتمكن من تجنب الخسارة لأنظمة التأمين عن المرض، وتبذير أموال الصناديق المكلفة بالتغطية الصحية، وهذا ما سينتج عنه بدون شك المساهمة في ترشيد ما تتوفر عليه بلادنا من إمكانيات، وعدم الزيادة في نفقات المؤسسات الإنتاجية الوطنية. 4 - تقديم تحفيزات للأطباء المغاربة لخلق عيادات ومصحات بالمناطق النائية، مثل ما هو ممنوح لمستشفى الشيخ زايد مثلا. 5 - ضمان احترام حق المريض في اختيار طبيبه المعالج، لما لهذا المبدأ الكوني من أهمية، وما يشكله عنصر الثقة بين المريض وطبيبه المعالج في إنجاح عملية العلاج. 6 - تعزيز الاستقلالية والمكانة التي يحظى بها العمل الطبي داخل المجتمع، لأن الطبيب المعالج هو المسؤول عن وصف طرق التشخيص والعلاج، والمعني الأول والمساهم الرئيسي في عملية الاقتصاد في مصاريف العلاج. 7 - توفير شروط تكافؤ الفرص بين كل مقدمي الخدمات الصحية، والحد من ظاهرة الضغط المباشر أو غير المباشر، الذي يمارس على المرضى قصد توجيههم لهذا المعالج أو ذاك، وهذا ما سيؤدي بالضرورة إلى خلق ظروف ملائمة للتنافس الشريف و التكامل المثمر بين القطاع العام والقطاع الخاص، من أجل تقديم أجود الخدمات الصحية للمريض، وخلق مناخ جديد لاستقطاب الأطر الطبية الوطنية التي دفعها الوضع الحالي إلى الهجرة خارج المغرب للبحث عن ظروف أحسن لمزاولة مهنتهم، مما سيكون له ، بدون شك ، انعكاسات جد هامة على مستوى العلاج وجودته، وبالتالي على المستوى الصحي العام للمواطنين وبتكلفة أقل.