يتذكر المهتمون بالمجال الصحي ، ومعهم المتتبعون، كيف احتدم النقاش في 2009 بين مكونات مهنية في مجال الصحة ووزارة الصحة ممثلة في الوزيرة السابقة ياسمينة بادو، وذلك لعدم تمرير مشروع قانون لتغير القانون المنظم للصحة 10 94 ، بهدف فتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمار التجاري في مجال الصحة، والذي اعتبر بمثابة خطوة للإجهاز على الصحة العمومية، حيث أمكن بالفعل تجميده وإعادته إلى رفوف من صاغوا تفاصيله. نقاش طفا من جديد على السطح خلال ولاية وزير الصحة الحالي الحسين الوردي، الذي عاود الكرّة ومحاولة تمرير المشروع، الأمر الذي استنفر عددا مهما من التنظيمات المهنية، النقابية، الحقوقية والجمعوية، التي توحدت في إطار جبهة وطنية من أجل الدفاع عن الصحة، وبعد ان تواصلت مع الوزارة الوصية على قطاع الصحة من اجل إبلاغها بمواقفها في شأن هذا المشروع، نظمت أول أمس السبت يوما وطنيا للدفاع عن الصحة كمرفق عمومي و خدمة اجتماعية، تحت شعار «من أجل الحق في الولوج للعلاج للجميع بدون تمييز، نعم لإصلاح المنظومة الصحية، لا للاستثمار التجاري في الصحة و تبضيع صحة المواطنين»، ناقش انعكاسات تحرير رأس مال المصحات على الحق في الصحة و الولوج إلى العلاج، وعلى الممارسة الطبية وصحة المواطن، وكذا على تكلفة العلاج. «الاتحاد الاشتراكي» وتتبعا منها لمجريات النقاش المرتبط بهذا الموضوع، تتبعت المراحل التي قطعها منذ المحاولة الأولى لتمريره في 2009، وصولا إلى تفاعلاته وتجاذباته اليوم، مقدمة لقرائها موقف الطرف الرافض، والرؤية الأخرى لمشروع قانون مثير للجدل، يشبهه البعض بكونه الشجرة التي تخفي الغابة وراءها؟ ماهي الدوافع التي دفعت إلى تشكيل جبهة بمكونات مهنية، حقوقية وجمعوية ضد محاولة وزارة الصحة تمرير مشروع قانون معدل للمهنة ؟ هو دافع أساسي ومحوري يتعلق بالمواطن الذي سيكون المتضرر الأول في حال اعتماد هذا القانون، حيث سيتم إقصاء المواطنين من العلاج، بالنظر إلى وضعية القدرة الشرائية الضعيفة لأغلب المغاربة، ولغياب تعميم التغطية الصحية، أخذا بعين الاعتبار أن المستشفى العمومي تم تهديمه. وهو ما سيؤدي إلى رفع تكلفة العلاج حسابيا، لذلك فقد بادرت جمعيات حقوقية ومنظمات المجتمع المدني إلى تشكيل جبهة من أجل الدفاع عن الصحة كمرفق عمومي و خدمة اجتماعية، ونحن كأطباء ولأننا مواطنون في الأصل، فقد انخرطنا في هذه المبادرة النضالية الهامة بجانب باقي النقابات المهنية الممثلة للمحامين، و للمهندسين، و أطباء الأسنان و الإحيائيين و غيرهم ... ، ولحد الساعة فقد وقعت على بيان هذه الجبهة الوطنية، 34 منظمة وطنية نقابية و حقوقية وجمعوية. ألم تكن هناك اختلالات في المنظومة الصحية أكثر خطورة تستدعي تشكيل جبهة مماثلة في وقت سابق؟ يجب التذكير على أننا كنقابة وطنية لأطباء القطاع الحر، سبق لنا أن تقدمنا باقتراحاتنا للوزير الأول سنة 2000 من أجل إصلاح المنظومة الصحية، ونحن اشتغلنا كذلك على أولوية تتمثل في إصلاح البيت الداخلي للأطباء حيث تشكلت لجنة وطنية للتنسيق تضم كل النقابات الممثلة للأطباء في القطاع الجامعي و القطاعين العام و الخاص، واشتغلنا على القانون الجديد لإصلاح الهيئة الوطنية للأطباء، حتى تكون أداة فاعلة للدفاع عن الضوابط و أخلاقيات الممارسة الطبية و حماية صحة المواطن، إلا أنه و رغم المصادقة على هذا القانون و نشره في الجريدة الرسمية يوم 11 أبريل 2013 ، فإنه لحد الساعة لم يتم تفعيله، إذ لم يتم انتخاب هيئة جديدة، و ذلك رغم أن القانون الجديد حدد مهلة زمنية أقصاها 6 أشهر بعد صدوره في الجريدة الرسمية من اجل إجراء الانتخابات، ورغم انصرام هذا الأجل القانوني، فإن الرئيس الحالي و الذي أصلا عين لمرحلة انتقالية، لم يقم بالدعوة لتنظيم انتخابات لأجهزة الهيئة التي أصبحت الآن في وضعية غير قانونية. فجمود أجهزة هيئة الأطباء، و سكوت السلطات عن الفضائح و الممارسات غير القانونية لمهنة الطب، وعن أعمال الشعوذة التي أصبحت تشكل خطرا على الممارسة الطبية، هو الذي تسبب في العديد من المشاكل و التجاوزات في الممارسة التي يذهب ضحيتها المريض و تؤثر سلبا على منظومتنا الصحية و اقتصادنا الوطني، و هذا ما يؤكد لنا بأن الدولة كانت لها نية مبيتة للقضاء على المستشفى العمومي، فالجميع يعلم بتفاصيل توصيات صندوق النقد الدولي في بداية الثمانينات، والذي ترتب عنها تقليص الميزانية المخصصة للخدمات الاجتماعية، و بالخصوص قطاع التعليم والصحة، رغم أنهما عاملان أساسيان لتحقيق التنمية البشرية، و هذان القطاعان يوجدان معا في قاعة الإنعاش يحتضران من جراء تخلي الدولة عن مسؤوليتها في هذا الصدد. من جهة أخرى، فالجبهة هي ليست وليدة اليوم فقد أحدثت في 2009 ب 26 منظمة، وبقيت مفتوحة على كل الفاعلين والمهتمين، وهي اليوم توسعت وتعمل على تفعيل قرارات الندوة الوطنية المنعقدة سنة 2009، و القيام بمجموعة من المبادرات ومنها مبادرة تنظيم اليوم الوطني للدفاع عن الصحة كمرفق عمومي و خدمة اجتماعية المنعقد أول أمس السبت بالدارالبيضاء، لنقول لا للاستثمار التجاري في الصحة و تبضيع صحة المواطنين، و لنقول كذلك نعم لإصلاح منظومتنا الصحية من أجل الحق في التغطية الصحية و الحماية الاجتماعية للجميع و الحق في الولوج للعلاج للجميع بدون تمييز القانون المثير للجدل، هل هو مشروع قانون جديد أم هو مشروع مستنسخ؟ مشروع القانون تم إعداده في عهد وزير الصحة محمد الشيخ بيد الله، و الذين أعدوه كلفوا الوزيرة السابقة ياسمينة بادو بتمريره، إلا أن المواقف التي عبرت عنها المنظمات النقابية و الحقوقية و جمعيات المجتمع المدني خلال الندوة الوطنية المنعقدة يوم 30 مايو 2009 ، جعلت السيدة الوزيرة تتراجع، واليوم كلف وزير الصحة الحالي بمحاولة تمرير نفس المشروع و هو يدعي أنه تطلب منه مجهودا، والحال أنه نفس المشروع حرفيا، باستثناء عشر مواد التي تم حذفها، و السؤال الذي يطرح نفسه علينا الآن هو من هي الجهة الحقيقية التي صاغت هذا المشروع و تضغط من أجل تمريره، و من المستفيد من تبضيع صحة المواطنين؟ و بالتأكيد لن يستفيد منه المواطن المريض. أين تكمن خطورة العمل بهذا القانون؟ يجب التذكير بأن الصحة ليست بضاعة تجارية يمكن أن تخضع للمنطق التجاري، فهي يجب أن تكون خدمة عمومية لأن المريض لا يختار أن يصاب بالمرض حتى يُفرض عليه منطق السوق، و التغلب على المرض يستوجب تضامن المجتمع برمته، إذ ليس في استطاعة أي أحد تحمل مصاريف العلاج خاصة بالنسبة للأمراض المستعصية والمكلفة كالسرطان وغيره من الأمراض الأخرى المكلفة. كما أن القانون الحالي لم يأت إلا بتغيير واحد في العمق و هو المتعلق بشروط وكيفية فتح المصحات، ليعطي الحق للشركات التجارية أن تفتح و تمتلك مصحات طبية، و هذا ما سيمكن كل مستثمر تجاري توفرت له الأموال سواء كانت مصادرها معلومة أو مجهولة، أن يمتلك مصحة، و ما يروج له السيد الوزير من وجود ضمانات تحمي استقلالية الممارسة الطبية و تحمي صحة المواطن هو كلام فارغ لأنه طبقا لقانون الشركات التجارية المعمول به، فإن من يملك أغلبية أسهم الشركة هو من له الحق في رئاسة المجلس الإداري للشركة و بقوة القانون هو من يحدد سياسة و أسلوب العمل بالشركة، و من أجل تحقيق أرباح للشركة سوف يتم اعتماد بعض الأساليب مثل الزيادة أيام الاستشفاء، كما سيسعى إلى خفض المصاريف على حساب جودة العلاجات المقدمة، و ما نقوله هنا ليس بجديد، بل هو ما تؤكده كل الدراسات التي أنجزت في كل الدول التي سبقت المغرب في فتح الباب أمام الاستثمار التجاري في الصحة. ماذا تقترحون بالمقابل؟ الحل الذي نقترحه هو تحسين الخدمات الصحية داخل المستشفيات العمومية، عبر خلق طريقة جديدة للتعامل داخل المستشفى العمومي، وتحفيز الأطباء من أجل العمل على تحقيق مردودية أحسن، والعمل على توفير التجهيزات اللازمة التي تسمح للمهنيين بتقديم خدماتهم، فالجميع يهجر المستشفى العمومي لأنه أصبح في غالبية الأحيان يفتقد إلى أبسط وسائل العمل، و هنا لابد من التذكير بأن 80 في المئة من المعدات الطبية توجد بالقطاع الخاص، كما يجب إعادة النظر في ظروف عمل رجال الصحة العمومية، و مراجعة التعويضات على الحراسة ...الخ، وعليه يجب دراسة هذا الوضع من أجل إيجاد حل لتحفيز الأطباء للحصول على مردودية أفضل بهدف إنقاذ المستشفى العمومي حتى يصبح قاطرة للصحة في المغرب، والقطاع الخاص يجب أن يكون فقط عنصرا مكمّلا، يعني عكس الوضع الحالي. لكن هناك من يؤكد نجاعة فتح باب الاستثمار التجاري في مجال الصحة، مستدلا على ذلك بكونه اعتمد في تجارب قائمة خارج المغرب، وحتى داخله كما هو الحال بالنسبة لمستشفى الشيخ زايد؟ أصحاب هذا الادعاء يقفون عند ويل للمصلين ، لأنهم يخفون على الرأي العام الوطني فشل هذا النظام في كل الدول التي عملت به، و ما نراه الآن هو ما تقوم به تلك المجتمعات للضغط على حكوماتها من أجل التراجع عن هذا النظام و سوف أعطيكم فقط مثالا واحدا على فشل مثل هذا النظام، الكل يعرف أن لبنان هو البلد الرائد في الاستثمار التجاري في الصحة و تبين دراسة أن الإنفاق الإجمالي على الصحة في لبنان هو ضعف الإنفاق الإجمالي على الصحة في سريلانكا التي يعتمد نظامها الصحي على الخدمات العمومية ، إلا أن الدراسة تبين أن عدد وفيات الاطفال في لبنان هو مرتين و نصف أكثر من سريلانكا و وفيات الأمهات عند الولادة في لبنان هو ثلاث مرات أكثر من سريلانكا، فهل هذا النمودج الفاشل في لبنان هو الذي يريد تطبيقه السيد وزير الصحة في المغرب؟ أما في ما يتعلق بالمستشفى الشيخ زايد المعفى من كل الضرائب و الرسوم الجمركية، و يشتغل بالعديد من أطباء الصحة العمومية، فإن تكلفة العلاج تساوي 3 مرات تكلفة العلاج بالقطاع الخاص، ولا حق للإدارة المغربية القيام حتى بمراقبة مالية هذا المستشفى، للإشارة لو منحت لنا كأطباء المغاربة نفس الشروط التفضيلية الممنوحة للمستشفى الشيخ زايد لقمنا بفتح مصحات و عيادات في كل المناطق المغربية و يمكن أن يكون ذلك حافزا لاستقطاب أكثر من 8000 طبيب مغربي فضلوا الهجرة من المغرب للبحث عن ظروف أحسن للعمل و عن حماية اجتماعية لهم و لأفراد أسرهم. هناك من يعتبر أن انتفاضة الأطباء هي من أجل الدفاع عن مصالحهم؟ هو ادعاء خاطئ بالنظر من جهة إلى تركيبة الجبهة التي لا تتشكل من الأطباء لوحدهم، و من جهة ثانية لكون الأطباء على العكس فإن مصالحهم المادية لن تتضرر، و إذا ما رأينا ما وقع في بلدان أخرى التي اعتمدت هذا النموذج، فإن الأطباء أصبحوا يشتغلون أقل و يربحون أكثر، في حين أن المواطن هو المتضرر الأول والأخير، أما الطبيب فمستحقاته المادية محفوظة. ما هي الخطوات التي تعتزمون القيام بها لكي لا يخرج مشروع القانون إلى حيز الوجود؟ لقد نظمنا أول أمس السبت يوما وطنيا للدفاع عن الحق في الصحة، من أجل تحسيس الرأي العام و كل المتدخلين بخطورة و تداعيات اعتماد هذا المشروع الذي كُلف وزير الصحة الحالي بالترويج له، وستتم بلورة التوصيات التي صدرت عن هذا اليوم وفقا لبرنامج نضالي تصعيدي لمواجهة هذا الهجوم الخطير على حق المواطنين في الولوج إلى العلاج.