في سنة 1992 كتبت قصيدة نثر صغيرة ووضعتها في غلاف، ثم أرسلتها عبر البريد إلى الملحق الثقافي ل»جريدة الاتحاد الاشتراكي». كان يوم اثنين مشمس، وكنت أنا فتى مفعماً بالحماس والأمل. منذ ذلك اليوم الجميل وأنا انتظر نشر قصيدتي في الملحق الثقافي. لكن ذلك لم يحدث إلى أن أخبرني الفنان التشكيلي عبد الله بلعباس أنه قرأ لي قصيدة نثر جميلة في الصفحة الأخيرة، عدد يوم سبت كما أذكر. تلك هي القصيدة التي عرفتني ببنداوود ونجمي وعاهد سعيد والجماهري والحكماوي والصالحي وشعراء آخرين، مازالوا أصدقاء إلى اليوم. علمت في ما بعد أن بنداوود هو من تحمس لنشر القصيدة، كما بلغني أنه قال عني إني شاعر قادم ستنشر له الجريدة في ملحقها أي قصيدة أبعث بها للجريدة. منذ ذلك الزمن وأنا احترمه وأحبه، وتمنيت لو التقيت به لأشكره، وهو اللقاء الذي سيحدث حين توجهت ذات صباح من الجديدة إلى مقر الجريدة بالدارالبيضاء لأضع قصيدة جديدة لدى هيئة تحرير الملحق. وجدت بنداوود في مكتبه الذي دخلته مرتبكاً وقصيدتي ترتعش في يدي. أتذكر أنه أثنى على قصيدتي الأولى وضرب على نفسه وعداً بنشر قصيدتي الجديدة في «الملحق الثقافي»، الذي كان النشر فيه حلم كل أديب صاعد. ولأن عبد الحميد صحافي متمرس وأديب شديد الإحساس، لم يكتف بالثناء فقط بل أرفقه ببعض الملاحظات، أذكر منها انه كان يميل نحو كتابة القصائد القصيرة، وهو موقف ينسج مع ميوله إلى كتابة الشذرة الشعرية، والحِكم القصيرة، وكذلك بقي حتى موته رحمه الله. حين أردت أن أنصرف دعاني عبد الحميد إلى تناول قهوة في وسط الدارالبيضاء، لم أعترض فتوجهنا في سيارة أجرة إلى أمكنة صاخبة، مليئة بالناس والسيارات. وحقيقة الأمر أن المكان لم يكن مقهى بل مطعماً وحانة، لا أذكر منها اليوم سوى أغطية موائدها، والاستقبال الجيد الذي حظي به عبد الحميد. بقينا نتكلم طوال ثلاث ساعات تقريباً، مرّ منها أشخاص كنت أعرف منهم الممثل المسرحي مصطفى سلامات. بقي عبد الحميد يغني: «سلامات سلامات سلامات يا حبيبني يا بلديات…» يضحك ويدخن ويشرب، إلى ان تحولت نشوته إلى كلام صريح وانتقادات وغمز ولمز لأشخاص يجلسون جنبنا. شعرت بالهرج والمرج والصخب في رأسي وفي المحيط، فقررت الانصراف. لكن عبد الحميد دعاني للمبيت معه ومع جلال الحكماوي الذي كان يقيم معه في نفس البيت. تذرّعت بمحاضرات في كلية الآداب عليّ الحضور إليها صبيحة الغد. كانت الساعة تشير إلى الساعة الخامسة مساء، ومباشرة من صخب عبد الحميد توجهت إلى بيتي في مدينة الجديدة على متن حافلة بطيئة. نمت حين قطعتْ نصف المسافة. بقي عبد الحميد صديقي منذ ذلك اليوم، وبفضله وفضل نجمي وعاهد سعيد، واصلت النشر في الملحق الثقافي إلى اليوم. وإني اليوم إذ أنشر شهادتي عن هذا الصديق، فإني أصل بداية صداقة بنهايتها. فضل عبد الحميد العيش دون أن ينتبه إليه أحد، إلا أمكنته التي بقي وفياً إليها، وأصدقاءه الذين تناقص عددهم يوماً بعد يوم..