1 «أنا أعرف ما الزمن لكني حين أسأل عنه لا أعرف.» جملة القديس أغسطينوس يمكن أن تكون مدخلا ملائما، بغض النظر عن سياقها الأصلي: محاولة القديس مواجهة الزمن الموضوعي الأرسطي بالزمن السيكولوجي. اسمحوا لي أن أتخذها منطلقا لهذه التداعيات التأملية حول موضوع الزمن والقصة. الزمن كالموسيقى، نحدسه ونحسه ولا نعرف التحدث عنه. يضيع ويفتقر معناه وزخمه في، وباللغة المتمفصلة. كاتب القصة خاصة، يعرف معنى الزمن، لكن حين يصبح الزمن موضوع وعي «لا يعرف» … يبدأ الادعاء، يبدأ اللعب بالزمن كرد فعل وقناع على اللامعرفة: خرق الأزمنة، تفكيك الحبكة، رفض الحكاية حاملة الاستمرارية والتتالي… نسقط في الوعي بالزمن… الزمن جرجونة ما أن نلتفت إليه بوعينا حتى… حتى ندخل إلى الحداثة. الحكاؤون الكبار لعبوا ويلعبون مع الزمن لعبة اللامبالاة، وتركوا الزمن للزمن… الزمن يوجد في لاوعي القصة… لا يوجد… يتخلق. هو الجزء المتخفي من جبل الجليد. هو ما يتخلق من منقوص كتلة القصة حين تحذف بدايتها ونهايتها عند تشيخوف. هو ذلك الفعل والأثر الذي يسميه إدغار ألن بو حبكة «الكل في الكل»، ويقرنه موباسان بزمن الوسوسة حيث يتراكب السواء والخلل في آن متصل. هذه اللامعرفة اليقينية (مثل حيرة المتصوف: الحيرة يقين المؤمن) هي التي تسمح للكاتب بتدبير الاستمرارية والرتابة، وبالاستكشاف الجمالي للحياة. حين أصبح الزمن موضوعة الموضوعات في القصة ولدت القصة البورخيصية: العود الأبدي، العود الأسود الفاجعي… تلك الاستيهامات الميتافزيقية البورخيصية. تلك البريكولاجات التي تحول التجربة… هل هي تجربة فعلا؟ إلى مجرد أورغازمات ذهنية مصعدة إلى مستوى لقيات مبهرة. بما أن علم السرد يدعي عقلنة السرد فإنه ينتج تحديدات للزمن ولغير الزمن اعتمادا على الأجناس الأيسر للعقلنة كالرواية والحكاية. والمؤسف أن دارسي القصة يلجؤون إلى تلك الترسانة المفاهيمية لفهم وتفسير آليات السرد القصصي… في مشروع ضخم حول الزمن والسرد مثل مشروع «بول ريكور»، لن تجد الإحالة على القصة: مسز دالوواي لفرجينيا وولف، الجبل السحري لتوماس مان، البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست… والدراسات القليلة عن الزمن والقصة باهتة فكريا، أو تقنية أكثر من اللازم (دراسة كريماص لقصة موباسان صديقان)، أو مجرد تهويمات لا طائل من ورائها… ألا يترك هذا فينا الإيحاء بأن القصة فن لا زمني أو ربما هي فن الزمن الأولي والحدسي: فن الزمن المغمور. _ اللغة أفق حد… اللغة كلها زمن. شرطها الزمن التتالي والتتابع والاستمرارية… الزمن أهم عنصر في اللاوعي اللغوي… أما الزمن الذي بحوزة الكاتب وليس له أن ينشغل إلا به فهو الحاضر، حاضر الخطاب… الذاكرة بناء لغوي في حاضر الخطاب والمستقبل أيضا مستقبل حاضر الخطاب… كل الاشتغالات على الزمن ممكنة: حياة كاملة في صفحة أو أقل (أمام بوابة القانون). يوم أو أقل من حياة طفولة أو شيخوخة في صفحات مديدة (فانكا، قصة تقليدية). حياة لم تحدث في الزمن التجريبي كأنها حدثت، وما إلى ذلك من التحيينات الممكنة… حاضر الخطاب هو الإطار الذي يسمح لنا بكل تلك التحيينات… كل الصور ممكنة… من قديم، أبدع الفكر حيلا للالتفاف على لغزية الزمن، لعل أشهرها مجازات الأنسنة والتشييء والتفضيء: نملة، وردة لوتس، كتاب (كتاب الرمل)، ألف، فم مبتلع، سارق، نهر، متاهة، كلها وغيرها مجازات للزمن… لكن حساسية القصة المتأصلة ضد الرمزية تجعل كتابها الكبار يحذرون من سقوط القصة بهذه الأبنية المجازية في الأمثولة والأليكوريا… 4 لكي تحفر طريقها إلى جماليتها الخاصة، انسلخت القصة عن الزمن التاريخي وأطره الإيديولوجية التي تحدد الأفعال الإنسانية الكبرى، وعن الزمن الخرافي بعجيبه وغريبه وأخلاقيته الفطرية المانوية؛ لتعيد اندراجها في التاريخ وفي الخرافة بطريقتها الخاصة، أي لتأسيس التاريخ الجمالي للأشياء الصغرى على هامش وضدا على التاريخ الكبير الكلي، ولترسيخ الغرابة المقلقة والعجيب الواقعي ضدا على العجيب الخرافي، عجيب الحس المشترك… 5 في السرد القصصي تتجادل غريزتان غريزة الأجزاء وغريزة الكل، حبكة الأحداث ووحدة الأثر أو كليته، منطق الاستمرارية وإكراه الختم. ألبرتو مورافيا يقول إن حبكات القصص أشبه بحدوس شعرية… مقارنة بالرواية التي تقترب حبكاتها من المنظومات الإديولوجية المكتملة… الزمن الحدسي فعل قطع: القطع النفسي والروحي لزمن الاستمرارية… في قصة لأدولفو إدواردو غاليانو، يسأل الطفل النحات بعد انتهاءه من نحت الحصان: كيف عرفت أن الحصان كان مختبئا في كتلة الغرانيت؟ هل تستطيع تخيل طفل أمام كاتب قصة: كيف عرفت أن القصة تختبئ في الكتلة السائلة والسديمية للزمن؟ 6 الزمن في القصة إيقاع يدخل في الوعي الفني للكاتب وينتج أثره في القراءة… الفقرة والجملة والكلمة هي مجالات الإيقاع وأدوات الترقيم أنواع وقفات تمفصل الإيقاع وتمنح الدلالة تلك المجسات التي يتحسس بها القارئ الكون المتخلق بالكلمات القصصية… هذا مستوى بدئي للوعي الفني بالقصة والكتاب الذين يهملونه أو يستهينون به يضيعون الجواهر التي في حوزتهم. يمكن أن نستشف من التقليدين التشيخوفي والبورخيصي (المتحدر من ألن بو والمطعّم بالموسوعية والفكر الميتافزيقي) نمطين كبيرين فيما يتصل ب»الإيقاع القصصي: نمط الخطية والعلاقات الإفضائية والتراكبية والبناءات الوجدانية والحبكات الناقصة بناءً والمفتوحة أثرا… ونمط الأدوار والتكرارات والعلاقات المرآوية والاستبدالية والبناءات الذهنية والحبكات المغلقة بناءً والدائرية أثرا… – البداية والنهاية: وصفات أ- لا تبدأ إلا بعد أن تكون قد أنهيت القصة في ذهنك. البداية أساسية هي الطعم. والقارئ يجب أن يجر من أنفه… والنهاية حاسمة هي التي تكشف للقارئ أوهامه (الاستنارة)… الكاتب إله حبكة. مبدأه في الحبكة :الكل في الكل. (إدجر ألن بو) ب – ابدأ من حيث شئت وانته حين يجب الانتهاء. هناك حرية لكن هناك إكراه… النهاية تعني أن العالم الذي قدمناه من صنع الفن، وانفصل الآن عن الكتلة السائلة للزمن. ج- يقال إن مهارة شهرزاد السردية أنقذتها من الموت… يجب تدقيق هذا الأمر: لكي تبقى على قيد الحياة كان عليها أن تتقن فن النهاية والوقف… هذا هو سر شهرزاد… ولكي لا تموت القصة في المهد يجب على السارد أن ينهيها حين ينبغي أن تنتهي… د- تشيخوف: حين تنتهي من كتابة قصة احذف بدايتها ونهايتها. كان قد فعل ذلك حين كتب «موت موظف» محاكاة نقدية لقصة «المعطف»، فحذف التمهيد القصصي الذي يرسخ القصة في الزمن التاريخي، وحذف النهاية الخرافية التي تصل القصة بالزمن الخرافي. ه– يكون كل شيء قد تغير حين نشرع في الحكي. الأحداث التي تخلق وفق اتجاه، نسردها الآن في اتجاه معكوس. تبدو كأنها تحدث بينما هي قد ضاعت وتبددت. نتوهم أننا نبدأ من البداية: وفي الحقيقة، من النهاية نكون قد بدأنا. والنهاية هي التي تمنح بضع تلك الكلمات دافع وقيمة بداية. ولكن علينا أن نختار: نحيا أو نحكي…. حين نحيا لا يحدث شيء..ما من بدايات. تنضاف النهارات إلى الليالي والليالي إلى النهارات دون لازمة ولا منطق، إركام لا منته ورتيب… وما من نهايات أيضا: لا نفارق امرأة، صديقا، فتاة مرة واحدة… هذا ما توسع فيه جان بول سارتر جيدا في كتاب «الغثيان». البداية والنهاية في السرد بنتا حاضر الخطاب… 7 تبدأ قصة دراية لمحمد زفزاف بالواو فتعطف ماثلا على غائب. تقول لنا هذه الواو إننا في إيقاع الحلم… القصة تتنامى والعالم ينطرح وينمو، واضحا شفافا حتى يتجلى للعين، أو غامضا ملتبسا حتى يتجلى للذهن والحدس… أو صامتا حتى ينحفر في القصة لاوعيُها الملغز… ولأن القصة نص فكرة (الحفر في صورة الأب) فإن الإيقاع يحيى ويتجلى في تلك المسافة العلاقة بين زمن الحلم وزمن الواقع، بين لذة الحدس وضبابيته وبين متعة الحس ويقينيته… كل هذا الكون مؤطر بحاضر الخطاب، باللحظة التي استلمت فيها واو العطف الخطابَ واللحظة التي قفلت فيها جملة «لا أدري» المسار لتنقل التلقي من تجربة الزمن الفيزيائي إلى زمن كلي، ولتلحق صورة الأب الواقف أمام كراج قديم بالصور الجمالية والرمزية للأب في تاريخ التمثيل السردي. 8 في اليوم السادس من كتاب الديكاميرون لبوكاتشو، نقرأ القصة التالية: خلال نزهة ما بعد الغذاء، وبما أن النزهة كانت مشيا على الأقدام، يقترح أحد المرافقين على السيدة أوريتا أن تمتطي إحدى أجمل القصص في العالم، هديةً منه. يشرع الفارس، الذي لم يكن لسانه مشدودا إلى حنكه، تماما مثل سيفه المتأرجح من حزامه، يشرع في الحكي. كانت القصة مليحة في ذاتها، ولكنه صار مرة يكرر الكلمة نفسها ثلاثا وأربعا وحتى ستا، وأحيانا يعود القهقرى ليذكّر بما فات، وأحيانا يقاطع نفسه: «أوه لم أعبر جيدا هنا»، ومرة يخلط بين الأسماء واضعا بعضها مكان البعض الآخر، مضيعا بشكل مؤسف الملاءمة بين نبرة الحكي وطبيعة الشخصيات والأحداث. لسماعه، شعرت السيدة أوريتا أنها غارقة في العرق، وظنت للحظة أن قلبها سيتوقف عن النبض كما لو لأنها مريضة وعلى وشك الموت. وحين أدركت أن الفارس زج بنفسه في ورطة يشق عليه الخروج منها، قالت له بلطف: «سيدي، خبب جوادك متعثر وقاس جدا. رجاء أنزلني. أفضل الذهاب مشيا.» أخطاء كثيرة تكسر الإيقاع، يفقد التعبير مرونته الموازية للفكرة… قصص كثيرة تفرض علينا أن نترجل عنها قبل الوصول إلى النهاية…. 9 عرفت القصة المغربية أنظمة للزمن (يهيمن كل منها أوبينها علاقة معاصرة وتعايش) يمكن اختزالها في: الزمن التاريخي والإيديولوجي، سيادة الحكاية، الزمن الخطي، الإيمان بإمكانية التطور… زمن ذاتي: الذات بالمعنى الثقافي والمعنى النفسي… استبطان التراث والاستبطان النفسي، استكشاف العمق الوجودي للواقع بوساطة الزمن النفسي الذاتي… تهذيب انخراط القصة في الزمن التاريخي الواقعي بفكر فني مستقل نسبيا… زفزاف أكبر ممثل لهذا العمل… الوعي الإشكالي بالزمن وتجلى في أشكال مناوشة الحكاية وفي الميتاقصة والق ق ج… وهي جميعا ردات فعل… على ماذا؟ على أشياء كثيرة، لكن في سياقنا، على تعب، على هزيمة أمام زمن الحكاية وزمن الحدث وزمن الواقع وزمن المأساة… 10 _ القصة الأثر إلى المبدع عبد الحفيظ المديوني تختار أدبيات تاريخ وجماليات الفن الغربي تتويج حكاية يسردها المؤرخ Pline (القرن الأول المسيحي) في «التاريخ الطبيعي» الكتاب الخامس والثلاثون»، عتبةً لفن الرسم والتشكيل. تقول القصة إن ابنة الطيان بوتاديس من كورنثه عشقت شابا كان مصيره أن يلتحق بفيلق الجند المحارب وألا يعود إلى حضنها. وفي لقائهما الأخير خطت الفتاة على الجدار صورة الفتى الغافي معتمدة على حواف ظله الذي يعكسه قنديل زيتي… طريقة ربما أشبه ب»اختلاس» شبحه أو صورته. «حيلة» الفتاة العاشقة ستنقذها من الغياب المطلق، وتبقي لها على الجدار «أثرا». ولما رأى بوتادس حزن ابنته لرحيل معشوقها، واكتشف رسمة ابنته على الجدار، رق لحالها واستخرج على الرسم صورة من طين جعلها تيبس ثم أدخلها الفرن. وكان هذا أصل التشكيل الطيني. الدافع للخلق الفني يجد مصدره في اللوعة المعاناة على شخص الغائب. هذا النوع الخاص من «الرغبة غير القابلة للارتواء» يحمل في اليونانية اسم بوتوس pothos وفي اللاتينة اسم desiderium وفي العربية؟ التولّه ربما… يعيد إدواردو غاليانو تشكيل الحكاية في كتابه «مرايا: ما يشبه تاريخا للعالم» في لمحة قصصية مما صار يسمى «قصة قصيرة جدا» كالتالي: «في فراش في خليج كورينثو، امرأة تتأمل على ضوء النار بروفيل حبيبها النائم. وعلى الجدار ينعكس الظل. الحبيب الذي ينام إلى جانبها سيذهب. عند الفجر سيذهب إلى الحرب، سيذهب إلى الموت. وكذلك الظل، رفيق رحلته، سيذهب معه وسيموت مثله. الوقت ما زال ليلا. تلتقط المرأة قطعة فحم من بين الجمار وترسم، على الجدار، محيط الظل. تلك الخطوط لن تذهب. الخطوط لن تعانقها، وهي تعرف ذلك. ولكنها لن تذهب.» ما صنعته العاشقة مع وجه الحبيب يصنعه الكاتب المعاصر مع القصة الميثولوجية أو التاريخية… رسمة على رسمة.