مند فترة ليست بالطويلة، وبمناسبة مشاركتي في أحد المؤتمرات العلمية المهتمة بمجال أمراض الدم، شدّ انتباهي في إحدى لحظات المؤتمر وغمرني خلالها، طائف من المشاعر الجياشة والخواطر المتداخلة نقلتني بعيدا عن المكان والزمان، وتجمدت حسّا ومعنى في لحظة استحضرت فيها الماضي والحاضر باحثا عن المعنى والجدوى في كل ما حولنا. كانت الكلمة الافتتاحية للمؤتمر وكان يلقيها شخص شاحب اللون هزيل البنية لا تكاد ترى من ملامح وجهه إلا الشكل، لكني عرفته من خلال اسمه. إنه أحد أعلام مجال علم الدم على المستوى العالمي. قام بعدة أبحاث علمية ساهمت في تطوير هذا العلم وقدمت خدمات جليلة في إطار العلاجات لمرضى الدم. كان من المنظرين المتحمسين إلى درجة التطرف في الدعوة إلى التبرع بالدم ونشر ثقافة العطاء في هذا المجال. صرّح في كلمته الافتتاحية، ولا يكاد يبين من أثر المرض، أنه اليوم ليس شخص آخر لا يمت بأية صلة لما كان عليه بالأمس. كان بالأمس يعلو المنابر داعيا بحماس منقطع النظير إلى التبرع بالدم من أجل مرضاه وهو طبيبهم المعالج. أما الآن فهو يتحدث إلى الحاضرين كمريض مصاب بسرطان الدم ويحتاج إلى أكياس من الدم وإلى طبيب معالج. الشخص لم يتغير على المستوى الظاهر لكن النظرة إلى الفعل لم تعد كما كانت. لا يمكنك أن تستحضر الآن وأنت معافى في جسدك كيف ستكون نظرتك إلى نفس الفعل وأنت مصاب ومحتاج. عندما تنظر إلى محتاج إلى دم فإنك تنظر إليه بعينك فقط مهما كان إحساسك وعندما تكون مكانه تكون في مقام عين اليقين فتتغير النظرة والإحساس جملة تفصيلا. لقد تمنى في الأخير أن يعود إلى سالف أيامه حتى يستدرك ما يراه الآن تقصير في مجال الدعوة إلى التبرع بالدم و معالجة مرضى الدم. إنها عبرة من الواقع المعاش لمن أراد أن يعتبر.