حين تهرول بعض المواقع الإلكترونية التافهة على عجل لأخذ تصريحات أناس تافهين، فهي لا تهدف في جوهر فعلها سوى إلى رفع منسوب تفاهتها لدى هؤلاء، وترسيخ تفاهة الآخرين لديها، حتى ما إذا أصبح العالم تافها، أخذنا نحن في الجوار نصيبنا من تفاهته. علمتنا أخلاقيات المهنة الجليلة أمورا كثيرة، لكنها لم تعلمنا الهرولة نحو التفاهة التي بجميع أشكالها مع مرور الوقت تقع، فمع أننا منذورون للخبر باعتباره شرفة جليلة للتنوير والإشعاع المدني، لم يكن في مقررنا فعل شيء عن أناس لا يفتحون فمهم إلا ذات عطب، ولا يلهثون إلا ارتباطا بخلل نفسي أو اضطراب جسدي أو في أواخر العمر لاستجداء الستر والإجهار بالفاقة والعوز الاجتماعي . كان الهدف من الصحافة بمعناها الجليل، كما تعلمناها وكما فهمنا من روادها الأولين، هو تعليمنا كيف نرتقي بحياة الناس صدقا، بعيد عن الكذب والتلفيق، وليس كيف نعتني بعاهاتهم، ونمجد سخافاتهم، ونبرزها كميزة، وسابقة مجتمعية من أجل الرفع من منسوب النقرات والفقاعات ومن معها. واخر العمر اليوم يبرز شعار «احشد تحشد» برفع التاء، وتظهر الثقافة الحشدية قاسما مشتركا لدى المغاربة في غالبيتهم، وذاكرة المغاربة في الجزء الكبير منها ثقافة حشدية سواء في المعلومات والأفكار والمعارف في التصورات والتمثلات والتخاريف وفي التفاعل والانفعال مع كافة أشكال الحياة واضطرابات المجتمع. ليس لأن الذاكرة أو التاريخ الجماعي والمأثور الشعبي لدى المغاربة في الجزء الأكبر منه، مبني على ثقافة الحشد والتكديس، بل لأن هناك عوامل مساعدة وعلى مستوى عال من الكفاءة والمهارة والقدرة على إذكاء هذه الثقافة و دعمها ومنحها الشساعات الكافية للنمو والازدهار. ويعتبر التلفزيون بقنواته المفردة بصيغة الجمع، وحلقيات ساحة جامع الفنا وحوادث السير الاحتكاكات الاصطدامات وما ينتج عنها في شوارع مدن المملكة التجسيد الحقيقية لظاهرة التجمهر و الحشد، هذه العوامل الثلاثة مجتمعة من بين ثلاثة أسباب مرسخة للتربية على الحشد الجماهيري و بنجاح كاسح. وللذين يستغربون الهرولة الجماعية على مواقع التواصل الاجتماعي نحو التفاهة و تقاسم أعطابها النفسية و الجسدية، لا سيما الفايسبوك واليوتوب، أن يتذكروا أن ذلك تحصيل حاصل، فمن يزرع الفراغ والعجز والعدمية، يحصل على إفرازاتهم مجتمعين، وأن المنتوج والغلة هي السلبية كأمر طبيعي، في انسجام تام مع القيم والمبادئ التي نشأ وتربى عليها المواطن، وتمت التنشئة و الرعاية الاجتماعية بموجبها. فالحياة في وسط سكني ضاج لا يليق في حي شعبي بلا مرافق ولا ضروريات، في منطقة سعيدة بالأسماء فقط (حي الزهور، السعادة، النرجس، الكرامة..) بئيسة في حياتها ومختلة في مسارها التنموي، والعيش في وسط تنعدم فيه الكرامة ويعيش فيه الآدمي الحرمان الاجتماعي والمجتمعي بكافة أبعاده ومستوياته، لا يمكن أن يفرز صفاء في الذهن، ولا نقاء في التصورات، ولن ينتج سوى حالات كئيبة مصابة بالإحباط وموسومة بالعدمية. لا ينبغي هنا الإشارة إلى الحالات المنفلتة من هذا الجحيم وهي شاذة ولا يقاس عليها وقد تقتصر على بضع حالات اجتماعية لها ما يبررها في الزمان و المكان. وما دام للكذب صلة بالموضوع، لا سيما والشعوب تتماهى مع فاتح أبريل الذي يخلده فالمغاربة، لا يحتاجون إلى التيمن ببركات يوم للكذب وتقاسم تنويعاته، لسبب بسيط، هو أن أيامهم كلها ضرب من الأكاذيب، في السياسة و في الاقتصاد وفي التدبير اليومي لشأنهم الاجتماعي المعيشي، أكاذيب المنتخبين في الجماعات والبلديات والمقاطعات أكاذيب في البرلمان بغرفتيه، ومثيلاتها في المنتديات والمجالس والحفلات الشعبية و غير الشعبية، و إفك و بهتان على منصات السوسيال ميديا . في العالم اليوم، أصبح أول أبريل هو اليوم المباح فيه الكذب، وفي ذلك تقليد لدى جميع شعوب العالم تقريبا، باستثناء الشعبين الإسباني والألماني، والسبب في ذلك، حسب أدبيات وتقاليد الشعبين المذكورين، أن هذا اليوم مقدس في إسبانيا دينياً، أما في ألمانيا فهو يوافق يوم ميلاد بسمارك أحد الزعماء التاريخيين لألمانيا.. والواقع أن كل هذه الأقوال لم تكتسب الدليل القاطع لإثبات صحتها، وسواء كانت صحيحة لكن المؤكد أن قاعدة الكذب كانت و لا تزال هي الأول من أبريل كل سنة وهناك رأي سائد مفاده أن فصل الربيع يغري بالمرح والمتعة وفي فصل الربيع ومعه يحلو للناس المداعبة والمرح. لذلك جاءت كذبة الربيع العربي .. تلك الدراما المحبوكة بالدم والمنسوجة بخيط الكذب والحشد العربي الرفيع .. وإذا تعذر اليوم وجود حقيقة مؤكدة لأصل هذه عادة الكذب المرتبطة بأبريل، فإن ترجيح بدايتها في فرنسا بعد تبني التقويم المعدل الذي وضعه شارل التاسع عام 1564م وارد . وكانت فرنسا حسب ويكيبيديا أول دولة تعمل بهذا التقويم و حتى ذلك التاريخ كان الاحتفال بعيد رأس السنة يبدأ في يوم 21 مارس وينتهي في الأول من أبريل بعد أن يتبادل الناس هدايا عيد رأس السنة الجديد ، وهناك باحثون آخرون يؤكدون أن كذبة أول أبريل لم تنتشر بشكل واسع بين غالبية شعوب العالم إلا في القرن التاسع عشر وللكذب علوم و معارف. فما معنى التجمهر حول حركات الأفعى في إحدى حلقيات جامع الفنا ؟ ما دلالة فن الحلقة في جوهره ؟ و ذاكرة الطفولة في الحي السكني الشعبي ؟ ما معنى الحولقة حول التلفزيون ليالي رمضان وقبيل الإفطار وما بعد الآذان ؟ ما معنى التجمهر حول حادثة احتكاك بسيطة بين سيارة خفيفة ودراجة ثلاثية العجلات والحشد لساعات طويلة لدرجة الاحتقان المروري؟ ما معنى التجمهر لحد الاحتقان المروري حول حالة نزاع مسلح بين شخصين في أحد أحياء المدينة الهامشية؟ المشكل في أن الناس يحبون التجمهر .. التكدس .. الحشد حول أي كان .. وتكبر هذه الخاصية وتنمو إلى درجة المرض حين ترتبط بالتفاهة على الوات ساب والفايسبوك كيف ذلك؟ متى بدا ؟ كيف ولماذا؟ في مسعى جاد لإثراء موضوع الحشد الجماهيري يروي صديقي الناشط التواصلي وهو من المعتمدين في التحليل والمقاربة «عن حالة مجسدة لهذا الواقع فيقول» لم يكن أحد يبدي اتجاهه أي نوع من الاهتمام ورغم أنه كان شخصا مستهترا وعدميا، ولا ينظر بعين الرحمة إلى الأشياء من حوله، حيث كان يمر بلحظات معاناة نفسية صادمة بسبب أنانيته وحقده على الجميع، إلا أن حقه في الحياة وفي الكرامة وفي الاستفادة من مباهج الحياة لا يناقش. كان فمه ساقطا، وملابسه رثة، وتعليمه لم يتجاوز سنتين تحت التهديد بنواحي سطات، هذا مع أن سلاطته وسوء التربية التي تلقاها تمنعه من أن يكون لبقا ومرنا في سلوكه وتفاعلاته مع ذاته ومع الناس من حوله، فجأة، وبقدرة تقاسم عبيط، أصبح صاحبنا قبلة لجمهور حاشد متلهف لرؤيته، ونقرات قياسية لسماع هرطقاته التي تخرج ما بين العسر والعي بمتاعب، وصار العديد من الناس مسكونين بهوس سماعه إلى درجة النهم … صار صاحبنا نجما .. ومطلوبا صورة وصوتا حيا ومتشنجا …