مثلما يُنصح المتدين حسب المبادئ الروحية باستعمال أمكنة وأزمنة مُعَدَّةٍ للصلاة، وبالقيام بالاستنجاء والاستبراء، يخضع بعض الكُتَّاب لطقوس معينة، وشعائر يظنون أنها تُنَبِّه فيهم حالة الإبداع. تبدو كنزوات تشترك في أنها، بفعل التداعي والإعتياد، تسهل الإنتاج المنتظم. بعضهم يركن إلى الصمت والعزلة، والبعض الآخر يفضل الصخب، يكتب في المقهى أو بين أفراد عائلته... بعض الكتاب، لا يستطيعون أن يكتبوا إلا في فصول معينة من السنة. كمثل «ميلتون» الذي كان يقول أن موهبته الشعرية، لا تتدفق صَبَباً إلا من الاعتدال الخريفي إلى الاعتدال الربيعي. وهو عكس من يعتقد أن في وسع الكاتب أن يكتب في أي وقت يشاء إذا أَلْزَم نفسه بذلك حتى تحت ضغط الحاجة المادية. يحكى عن بلزاك أنه كان لا يباشر الكتابة إلا عندما يرتدي مسوج الرهبان. وكانت رائحة التفاح الفاسد تستهوي شيلر إلى درجة أنه كان يترك كمية منه في بيته. ويختلف الكتاب اختلافا بيّنا مثلما يختلف «بروست» عن «مارك توين» (Mark Twain). حيث نجد من يفكر «تفكيرا أفقيا» وهو مضطجع أو يكتب فوق السرير. يشعر بعض المبدعين بأن للإلهام علامات أساسية، هي الفجاءة، ينبثق من تلقاء نفسه كما يصدر الماء عن الينبوع ! كانت طبيعة العبقرية الأدبية مثار تخمينات على الدوام، عند الأغريق القدامى كانت تُقْرَنُ بالجنون. وتُؤَوَّلُ بأنها المدى الممتد من العصاب إلى الذهان. الشاعر رجل «مجذوب» ليس كباقي الناس، فهو أقل أو أكثر منهم في آن واحد. لقد كان أفلاطون الفيلسوف اليوناني القديم أول من ذهب إلى القول بأن الإبداع الفني لا يخرج عن كونه ثمرة لضرب من الإلهام أو الجنون الإلهي، وأن المبدع هو ذلك الشخص الذي اختصته الآلهة بنعمة الإلهام، حتى ساد الزعم بأن الإبداع وكل الأعمال الفنية ثمرة لملكة سحرية لا نظير لها عند عامة الناس، بمعنى أن الفنان، الشاعر، الكاتب المبدع كائن غير عادي. ولم يجد بعض أهل الفن والإبداع أي حرج في أن يَظْهَرُوا لنا بمظهر العباقرة الذين يتمتعون بمزاج خاص، لا يتفق مع أمزجة غيرهم من عامة الناس، فحاولوا أن يظهروا لنا الإبداع بصورة الإلهام المفاجئ، أو الوجد الصوفي.. ولعل ما رُوِيَّ عن «لامارتين» أنه قال: «إنني لا أفكر على الإطلاق، وإنما أفكاري هي التي تفكر لي، أو ما نُسِبَ إلى «شاتو بريان» من أنه قال : «إنني لأستلقي على سريري، وأغمض عيني تماما، ولا أقوم بأي مجهود، بل أدع التأثيرات تَتَابَعُ فوق شاشة عملي، دون أن أتدخل في مجراها على الإطلاق.. وهكذا أنظر إلى ذاتي، فأرى الأشياء وهي تتكون في باطني. إنه الحلم، أو قل إنه «اللاشعور». ويقال أيضا أن «جيته» قد كتب روايته «آلام فرتر»، دون أن يقوم بأي جهد شعوري، اللهم إلا جهد الإنصات إلى هواجسه الباطنية ! تروي «جورج صاند» عن الموسيقار المشهور «شوبان» » Chopin « (1810-1849)، أن الإبداع كان عنده تلقائيا سحريا، كان يجده دون أن يَتَوَقَّعَهُ، وكأنما هو معجزة كانت تتحقق مفاجئة.. ويُرْوَى عن الشاعر الإنجليزي «كولردج» الذي كان يتعاطى للأفيون، أنه كتب «كوبلا خان» أثناء نومه كما لو كان مسحورا.. هذا ما ذَكَرَهُ «هنري دو لاكروا» في كتابه de l?art Psychologieص 137. يحدثنا «جيته» » Goette عن الإبداع الفني فيقول : «إن كُلَّ أثر ينتجه فن رفيع، وكل نظرة نفاذة ذات دلالة، بل كل فكرة خصبة تنطوي على جدة وثراء.. فالإنسان أسير لشيطان يتملكه، ويَرين عليه. وبعبارة أخرى يمكننا أن نقول إن الإنسان لا يخرج عن كونه أداة في يد قوة عليا»، في كتابه «هو ذا الإنسان» يقول نيتشه: «حينما يهبط الإلهام المفاجئ، فهنالك يخيل إليك أنك قد أصبحت مجرد واسطة أو أداة أو لسان حال لقوة عليا فائقة للطبيعة... وهكذا يسمع الإنسان دون أن يبحث.. ويأخذ دون أن يتساءل من الذي يمنح، وتنبثق الفكرة في ذهنه، وكأنها برق خاطف.. وحينما تغمر الإنسان نشوة الوجد، وأن ثمة قشعريرة حادة قد أخذت تسري في عروقه من أخمص قدمه إلى قمة رأسه.. وكأننا هنا بإزاء إنفجار عنيف..» وهكذا ساد الظن عند الكثير من الفنانين والمبدعين بأنه ليس ثمة فن عظيم بدون إلهام، وأن كل ما في الإبداع الفني سر وسحر وإعجاز. والظاهر أن بدعة الإلهام هذه هي التي اضطرت الكثير من أهل الفن والإبداع من دعاة الرومانتيكية على الخصوص إلى الإعلاء من شأن الفن الحالم النشوان، وإظهار أنفسهم بمظهر أصحاب الرؤى وأهل الخيالات وأرباب الوحي ! وليس من الثابت أن هؤلاء كانوا يملكون بالفعل قدرة أكبر على التخيل أو الإبداع من غيرهم أصحاب المدارس الأخرى ولعل تاريخ الفن والإبداع ليظهر لنا على أن كثيرا من الأعمال الفنية والإبداعية قد تحققت على أيدي مبدعين متزنين هادئين، لم يزعموا لأنفسهم يوما أنهم قد وقعوا تحت تأثير شياطين ملهمة أو قوى إلهية خارقة. غير أن أمثال هذه الاعترافات التي تؤكد على أهمية عنصر الإلهام في عملية الإبداع تعد بلا شك مادة هامة للدراسة السيكولوجية. وهذا ما سنعرض له في موضوع لاحق.