يعود فيلم الزفت للواجهة، دائما، في مثل هذه الفترة من الحياة الجماعية، هو فيلم لا ينتهي، ومازال «مخرجوه» يصرون على إعادة وتكرار تصويره.. لا يتعلق الأمر هنا، بطبيعة الحال، بالعمل الإبداعي لأستاذ المسرح الكبير الطيب الصديقي، صاحب مسرحية «سيدي ياسين في الطريق” «التي حولها إلى فيلم جميل استمتع به محبو السينما وأبرز فيه كيف يوضع الزفت بطرق عشوائية، حتى أنه خرج مباشرة في الولي الصالح، الذي يزوره الناس، لتأتي «الأطوروت» وتحصد الولي..…. بل يتعلق بفيلم آخر، ولعل الصديقي، نبه إلى الأمر قبل 40 سنة. ففي هذه الفترة خرج بعض رؤساء مقاطعات العاصمة الاقتصادية إلى الناس مصحوبين بجرافات ستضع الزفت في أزقتهم، منهم من اختار أن يتصور مع أشغال الزفت ومنهم من أخذ حتى «سيلفي» مع شاحنات الزفت، ومنهم من نظم تجمعا سريا، جلس فيه «حياحة» الانتخابات الموالون له، ليعطيهم الكيفية التي يسوقون بها لعموم الساكنة كيف أن الرئيس سيأتي بالزفت وهو صاحب الزفت، وكم هم محظوظون لأن لهم رئيسا يروض الزفت ويأتي به إلى دروبهم دون غيرهم في مقاطعات أخرى! … كل المتتبعين يعلمون بأن المنتخبين يخبئون المفاجآت إلى أن تحين اللحظات القريبة من الانتخابات، وهي عملية قديمة عرفت أيام كان إدريس البصري وزيرا للداخلية والمتحكم في كل شيء، بحيث لا تظهر المشاريع إلا في الدقيقة التسعين من انتهاء الولاية الجماعية…! هناك اليوم من يصر على العودة بنا إلى هذا الزمن الغابر، الذي قطع معه المغاربة، الذين أصبحت أحلامهم واسعة، خصوصا مع الانفتاح الحاصل اليوم على مستوى الكرة الأرضية ووسائل الاتصال التي أصبحت تقرب كل بعيد… الصور تخدش مخيلتك، وأنت ترى مثل هذه التصرفات من مسؤولين لهم مهام حزبية، المفروض أنهم يؤطرون المواطن نحو الأفضل، كما أن لهم مهاما في قطاعات مختلفة، بل منهم من يجلس تحت قبة البرلمان ويشرع قوانين الانفتاح والحقوق، لكنه وسط الدرب يتحول إلى شيخ قبيلة عتيق، يوزع الصكوك! لم أستسغ أن يقوم مثل هؤلاء بمثل هذه الأعمال الحاطة بكرامة الناس، وأن يتبجحوا أمامهم، كونهم وفروا لهم الزفت. والحال أن هؤلاء الناس، يعيشون في العاصمة الاقتصادية للمملكة، والتي حظيت ببرنامج أشرف عليه الملك، بلغت ميزانيته أكثر من 3380 مليارا، لتضاهي به مختلف العواصم العالمية، كهونكونغ ودبي وباريس وريو ومدريد وغيرها من المدن التي تتمتع بالجاذبية المطلوبة التي يتوخاها كل بلد. أصحاب الزفت الجدد يعلمون، وهم يتمتعون بمسؤوليات مختلفة، أن بلدهم يعمل بشكل حثيث كي يبلغ الحداثة المنشودة ليصبح رياديا في محيطه الإقليمي والقاري. لكنهم مع ذلك يصرون في الخفاء على الرجوع بنا إلى منطق الشيخ والمورد، بكمشة أصوات تحصلوا عليها في غفلة فراغ. دافعو الضرائب الذين يتفاخرأمامهم مثل هؤلاء، عليهم أن يعلموا بأن المشرع في القانون التنظيمي للجماعات ركز على بنود تتعلق بخدمة الساكنة وجعلها من الأولويات حتى لا تصير هذه الخدمة عكازا انتخابيا، منها أن المقاطعات من واجبها القيام بأعمال الصيانة الطرقية للدروب والأحياء وخصص لها ميزانية جد مهمة قد تصل إلى خمسين في المئة من ميزانيتها العامة، ولو ترك المنتخب الموظفين لضميرهم لأغرقوا هذه الأحياء والدروب زفتا وصيانة حد التخمة، بدل أن تؤجل مثل هذه الأشغال إلى حدود التوقيت الذي يريده، وهو منغمس في الكراسي المريحة والسيارات الفارهة من أموال الجماعة أو غيرها من المؤسسات… استغرب أننا مازلنا نعيش، في القرن الواحد والعشرين، مع مثل هؤلاء. الذين بدل أن يذهبوا إلى صميم البرامج التي وضعتها الدولة، مازالوا يؤمنون بأن الفتات قد يصنع الشعبية. المنتخب الحقيقي اليوم، هو من له القدرة على الإقناع بمحاربة الفوارق، وخلق التوازن بين أحياء العاصمة العالمية، من خلال البحث عن استثمارات وبرامج تجعل حي مولاي رشيد مثلا، واسباتة وابن امسيك، والأحياء المماثلة لها، تضاهي عين الذئاب والمعاريف من حيث الخدمات، وتحولها إلى نقطة جذب، وذلك بتسطير مشاريع كبرى، تدفع بالمواطن إلى الرقي ليسهم بدوره في التنمية، بدل التعامل معه بمنطق »”جبت ليكم ماتنساونيش«”، الشبيه، إلى حد ما، بمنطق الاتجار بالعقول!