ألقى الروائي الفرنسي باتريك موديانو، لحظة تسليمه جائزة نوبل بالعاصمة السويدية ستوكهولم كلمة بليغة عميقة حول رؤيته للأدب وللعلائق التي تنتجها الرواية، وهي الكلمة الشفيفة، البهية، التي نقدم هنا نصها الكامل كما نشر باليومية الفرنسية لوفيغارو في عددها ليوم الإثنين 8 دجنبر الجاري. أود أن أعبر لكم، عن مدى غبطتي بالتواجد معكم هنا، ومدى تأثري بشرف منحي جائزة نوبل للآداب. وهذه أول مرة، علي إلقاء خطاب أمام جمع كبير، مما يجعلني أستشعر حرج تطويق خاص. علما أنه كثيرا ما يعتقد أن الأمر يسير بالنسبة للكاتب القيام بذلك. لكن الكاتب ? أو أقله الروائي ? له علاقة سلسة مع الكلمة. وإذا استعدنا ذلك التصنيف بين الشفوي والكتابي في مراحل دراستنا، سندرك أن الكاتب أفلح في المكتوب من الشفوي. فعادته هي الصمت، وإذا أراد تمثل حالة ما، فهو يندس بين الجموع. ينصت للحوارات دون أن يظهر عليه أنه مهتم، وإذا ما حدث وتدخل فإنه فقط ليطرح أسئلة تساعده على فهم أحسن للرجال والنساء المحيطين به. بالتالي فكلمته دوما مترددة، بسبب تعوده على إعادة تشطيب ما يكتبه، ما يسمح لكتابته بعدها أن تظهر شفيفة.. لكنه حين يأخد الكلمة، فإنه يتورط في لعبة عدم إمكانية التصحيح، تصحيح تردداته. ثم، إنني أنتمي إلى جيل، كان لا يسمح فيه للأطفال بالكلام، عدا في بعض المناسبات النادرة، أو بعد أن يؤدن لهم بذلك. هذا ما يفسر تلعثم بعضنا، الذي يجعلنا أحيانا نبطئ أو نسرع، كما لو أننا نخشى أن نمنع من الكلام. من هنا جاء ذلك الشغف بالكتابة الذي تملكني مثل الكثيرين بعد مغادرة الطفولة. يكون حلمكم حينها أن يقرؤكم الكبار. في الحقيقة سيكونون حينها ملزمين بالإنصات دون إمكانية أن يسكتوكم وسيعلمون حينها فقط ما يثقل على قلبكم. إن الإعلان عن هذه الجائزة، قد كان أشبه بالخيال بالنسبة لي، وبقيت من لحظتها شغوفا بمعرفة السبب الذي جعلكم تختاروني. من لحظتها أدركت مدى العمى الذي يكبل الروائي إزاء أعماله، التي يعلم القراء أهميتها أكثر منه. لا يمكن أبدا للروائي أن يكون قارئ أعماله، إلا عندما يعمل على تصحيح خطاطاتها، إملائيا أو يلغي التكرارات الزائدة وأحيانا يحذف فقرات كاملة. بالتالي، فإن له تمثلا ضبابيا لكتبه، تماما مثل رسام، نائم على ظهره، يرسم التفاصيل الدقيقة لرسم حائطي على السقف، يكون قريبا من التفاصيل فلا ينتبه للمشهد العام الذي يبدعه. كم هي وحدانية مغامرة الكتابة. وكم تعبر لحظات يأس حين تدبج أول صفحات الرواية، لأنكم تحسون كل يوم أنكم على الطريق الخطأ. فتكون الرغبة مستبدة، أن تغيروا المسار. عليكم أن لا تستسلموا لهذا القلق وأن تصروا على إكمال المغامرة. الأمر أشبه بشخص يقود السيارة بليل في عز الشتاء وتمشون فوق الجليد في قلب ضباب دامس. لا خيار لديكم غير مواصلة الطريق والسياقة، لأنه لا مجال للتراجع، محاولين إقناع ذاتكم أن الطريق ستصلح بعد حين وأن الضباب إلى زوال. جديا، يعرف القارئ عن الكتاب أكثر من مؤلفه. لأنه بين رواية وقارئها تولد تواطؤات أشبه بعملية تحميض الصور كما يتم قبل اكتشاف تقنية الرقمي. ففي غرفة التحميض المعتمة، تأخد الصورة ملامحها بتؤدة. وكلما تقدمنا في قراءة الرواية تحدث نفس الكيمياء. لكن ليتحقق ذلك الشغف، بين الكاتب والقارئ، على الروائي أن لا يكره قارئه (مثلما قد يفعل مغن يعلي مقامات صوته) على الشغف، بل عليه أن يمنحه مكرمة أن يبني لوحده أثر الكتاب فيه، في ما يشبه الوخز بالإبر، حيث تكفي لمسة إبرة واحدة في مكان حساس حتى يسري الدبيب في كل الجهاز العصبي. ثم إن عدم الوضوح وضعف الرؤية النقدية الكافية للروائي في علاقته بمجموع أعماله، تبرز أيضا في ظاهرة عشتها دوما، ويعيشها الكثيرون مثلي، هي أنه مع كل نص جديد، لحظة الكتابة، تكون كما لو أنك لم تكتب أي شئ قبل، كما لو أنك تصاب بلوثة نسيان ما سبق ونشرته من كتب. وظللت أتوهم أنني كتبتها واحدا بعد الآخر بشكل غير متجانس، لدرجة أن ذات الأسماء والأمكنة والوجوه والجمل تعود واحدة بعد الأخرى مثل تفاصيل زربية نسجناها بين النوم واليقظة. إن الروائي، بالتالي، مثل من يمشي نائما، ملزم بتحرير ما عليه تحريره، لكننا نخاف عليه أن يقطع الطريق نائما، غافلين على أن كل المشائين النيام، الذين يمشون على سراط الأسطح (حوافيها) لا يقعون أبدا. لقد احتفظت بهذه العبارة، في إعلان فوزي بالجائزة، التي فيها إحالة على الحرب العالمية الثانية: "لقد أماط اللثام عن عالم الإحتلال". إنني مثل الكثيرين والكثيرات من مواليد سنة 1945، ابن للحرب. وبتحديد أكبر، كوني ولدت بباريس، أنني ابن يعود الفضل في ميلاده لباريسالمحتلة. إن الأشخاص الذين عاشوا تلك الباريس أرادوا نسيانها بسرعة، أو على الأصح أن لا يتذكروا غير التفاصيل اليومية الصغيرة التي تهب وهم اليقين أنه في نهاية المطاف كانت الحياة اليومية مثل حياة كل الأيام العادية. وكابوس في حلم هو في نهاية المطاف ندم عابر على أنهم بقوا من الأحياء. وحين كان أطفالهم يسألونهم بعد ذلك، حول تلك المرحلة وحول الباريس تلك، كان جوابهم مراوغا. أو يغرقون في صمت في محاولة لإلغاء تلك السنوات من ذاكرتهم أو أن يخبوا عنا شيئا ما. لكن، أمام صمت أبائنا استنبطنا كل شئ كما لو أننا نحن من عشنا ذلك. لهذا السبب ظلت باريس الإحتلال بالنسبة لي، أشبه بليل بادخ استثنائي. بدونه ما كنت لأولد. باريس تلك، تطاردني وضوؤها الشفيف يسبح في كتبي. عند أي مسافة يتموقع الروائي جديا؟. على هامش الحياة لكتابتها، لأنهم إذا كنتم منغمسين فيها لا تفوزون بغير صورة ملبسة عنها. لكن تلك المسافة الواجبة، لا تلغي سلطة التمييز التي تفرضها علاقته بشخوصه الذين يخصبهم في خياله واقع أشخاص من لحم ودم في الواقع. لقد قال فلوبير مرة: "مدام بوفاري، هي أنا". مثلما أن تولتستوي قد تماهى مع سيدة رآها تنتحر بالإرتماء تحت عجلات قطار في موسكو. بل إن قوة ذلك التماهي قد بلغت بتولستوي حد التوحد مع شكل السماء والمشهد العام الذي يصفه وكان يتشرب كل شئ، حتى ارتعاشة رموش أنا كارنينا. إن الحالة تلك، مضادة للنرجسية، لأنها تفترض نسيان الذات وتركيزا هائلا حتى يمكن التقاط أدق التفاصيل. هذا يستوجب بعضا من العزلة. الأمر ليس انكفاء على الذات، بل الغاية بلوغ درجة من الحلول يمنحه الإنتباه العالي إزاء العالم الخارجي من أجل التوفق في نقله إلى الرواية. لقد اعتقدت دوما، أن الروائي والشاعر، يهبان غرائبية للشخوص الذين يظهرون كما لو أنهم متجاوزين بالحياة اليومية وبأمورها العادية، من كثرة تأملهما لهم بكياسة وبطريقة أشبه بالخدر. فالحياة أمام أعينهما، تتغلف بالغرائبي، وأن لها جانبا خبيئا يومض في الأعماق. ودور الروائي والشاعر وحتى الرسام أن يكشف ذلك الغرائبي وتلك الكيمياء الخبيئة الكامنة في أعماق كل واحد منا. لا أريد أن أثقل عليكم بحالتي الخاصة. لكنني أعتقد أن فترات من طفولتي كانت وراء مادة كتبي. كنت مبعدا في الكثير من الأحيان من أبواي، عند أصدقاء لهم، يتركونني عندهم، والذين لا أعرف عنهم أي شئ، وكذا في منازل وأمكنة تتوالى باستمرار. حينها، لم يكن الطفل يتفاجئ بشئ، بل إنه قد عاش لحظات إثارة، ظل يعتبرها عادية. سنوات بعد ذلك، أدركت أن طفولتي ملغزة فسعيت أن أعرف أكثر على أولئك الشخوص الذين كان أبواي يتركاني عندهم، والذين يتغيرون باستمرار. لكنني فشلت في تحديد ملامح أغلب أولئك الناس ولا في تحديد دقيق للأمكنة التي تركت فيها. فكانت تلك المحاولة العبثية السبب في دفعي إلى الكتابة كما لو أنها كخيال وحدها التي ستساعدني في حل تلك الغرائبية. إن الذين ولدوا وكبروا في أحياء بعينها، فمع توالي السنين يصبح لكل زقاق ذاكرة تعيد ذكرى لقاء أو ألم أو لحظة سعادة. وغالبا ما يكون ذات الزقاق قرينا بالعديد من الذكريات لكم، لدرجة أن حياتكم تعود كاملة إليكم بتواتر صور من خلال طوبوغرافية المدينة، كما لو أنكم تفلحون في فك شفرة كتابة لوح ممحو. هكذا، ففي شبابي، حاولت البحث عن دليل قديم لباريس، لمساعدتي على الكتابة، خاصة أسماء الأزقة وأرقام العمارات. لقد كنت أستشعر أن أمام نظري، صفحة بعد صفحة، تصويرا بالأشعة للمدينة، لكنها مدينة غاصت في العدم مثل أطلنتيس وكنت أشتم رائحة الزمن. وبفعل السنين فإن الأثر الوحيد الذي خلفه آلاف الأشخاص المجهولين، هو عناوينهم وأرقام هواتفهم. ويحدث أن يختفي اسم ما مع توالي السنوات. لقد كان الأمر مدوخا، مع كل بحث مماثل، حين تدرك أن أرقام التلفون تلك لن ترد. نعم، إن بحثي في كتب دليل باريس القديمة تلك، كان السبب في دفعي لكتابة كتبي الأولى. كان يكفي التسطير بقلم رصاص على اسم أحدهم وعلى عنوانه ورقم هاتفه لتخيل ما كانته حياته ضمن آلاف وآلاف من الأسماء الغفل. سهل أن نتوه أو نختفي في مدينة كبيرة. بل بإمكاننا حتى تغيير هويتنا. وبإمكاننا البحث في تفاصيل حياة البعض انطلاقا فقط من عنوان واسم حي بعيد. وتفصيل صغير مدون في أرشيف قديم، كان له دوما صدى فارق عندي، مثل: "آخر سكن له". إن تيمات الإختفاء والهوية والزمن الماضي مرتبطة بطوبوغرافية المدن الكبرى. لهذا السبب، فمنذ القرن 19، ظلت مجالا لاشتغال الروائيين وبعض من كبارهم ارتبطوا بمدينة معينة: بلزاك بباريس/ ديكنز بلندن / دوستويفسكي بسان بترسبورغ / ناغاي كافو بطوكيو / غالمار سودربرغ بستوكهولم. كانت لكم مكرمة، اعتبار أعمالي ذات ارتباط ب "فن الذاكرة الذي من خلاله تعرض مصائر إنسانية فالتة". إن هذا التقريض أكبر من شخصي. أما هذه الذاكرة الخاصة التي تحاول تجميع بعض شذرات الماضي والقليل من الأثر الذي تركته على الأرض لمجهولين غفل هي مرتبطة أيضا بتاريخ ميلادي سنة 1945. أن تولد في سنة 1945، ومدن قد دمرت واختفت جماعات بشرية بكاملها قد جعل مني، مثل أغلب جيلي، صاحب حساسية خاصة تجاه موضوع الذاكرة والنسيان. ويظهر، للأسف، أن البحث عن الزمن المفقود لا يمكن أن يتحقق بذات جرأة وقوة مارسيل بروست. فالمجتمع الذي يصف كان مستقرا، مجتمع القرن 19. فذاكرة بروست تستعيد الماضي في كامل تفاصيله مثل لوحة حية. ويظهر لي اليوم، أن الذاكرة لا تملك ذات الثقة في ذاتها وأنه عليها دوما المقاومة ضد النسيان والفقدان. وبسبب هذه الطبقة من النسيان التي تغلف كل شئ لا نفلح في التقاط غير شذرات من الماضي وآثار غير مكتملة ومصائر أناس هاربة فالتة عصية على القبض. لكن ذلك دور الروائي أمام هذه الصفحة الكبيرة من بياض النسيان، المتثمل في إنهاض بعض الكلمات شبه الممحية الأشبه بجبال ثلج تائهة، عائمة على سطح المحيطات.