صدر في ماي الماضي العدد الأول من مجلة "كتابات فلسفية" عن كلية الآداب و العلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس أكدال- الرباط، و هي مجلة محكمة تصدر مرتين في السنة. ترعى "كتابات فلسفية" مجموعة من الاجتهادات الفلسفية لباحثين مغاربة تحركهم الحاجة إلى استئناف القول في أسئلة و موضوعات، وفق مقاربة تروم الاجتهاد لتعميق و تجديد مفاهيم هذا الصنف من القول، و مقاومة أسباب التراجع و علامات النسيان المتعددة التي تعرض لها. يشرف على مسؤولية تحرير "كتابات فلسفية" الأستاذ محمد نورالدين أفاية، و تضم هيئة إشراف علمي تتكون من محمد سبيلا و عبد السلام بنعبد العالي و كمال عبد اللطيف و محمد الدكالي و محمد الشيخ و ناصيف نصار و أنطوان سيف و فهمي جدعان وفتحي المسكيني، جهد أنوية البحث و أطر التفكير و اجتهادات المنشغلين بالفلسفة و أساتذتها، و الذين استطاعوا انتزاع مكانة للفلسفة في الحقل الفكري المغربي و النسيج المؤسسي بعيدا عن كل الحسابات السياسية و الاعتبارات الإيديولوجية الغالبة على أكثر أجندات التاريخ الثقافي المغربي المعاصر. و تنخرط "كتابات فلسفية" في محاولة التعريف بمجموع النصوص- الآثار المتراكمة على طول تاريخ الحركية الفلسفية بالمغرب، منذ عزيز الحبابي إلى اليوم، محاولة استثمار كل المجهود النظري المغربي و العربي، الذي تحول إلى مرجع لا محيد عنه في تناول قضايا التاريخ و الدولة و التراث و الإيديولوجيا والهوية و الاختلاف، مدركة أن التفلسف انخراط في إحدى المسارات التي بناها التراث الفلسفي و عمل على بناء وسائل فلسفية خاصة بمن يزاول فعل التفلسف. و قد اختارت هيئة تحرير المجلة، التي تضم كل محمد نور الدين أفاية و كمال عبد اللطيف و عبد الصمد تمورو و محمد مزوز، تقديم هذا الجهد في ثلاثة فقرات إضافة إلى الافتاحية، تمثلت في الملف، دراسات و أبحاث، و مراجعات و قراءات كتب. غطت مقالات ملف العدد الأول من "كتابات فلسفية" جملة من مستويات تقاطع الفلسفي والسياسي في مفهوم الجسد. عملت كلها على لملمة تقاطع المنظور الفلسفي للجسد و التصور السياسي له محاولة في كليتها رصد إشكالات المفهوم و تطور مقاربته عبر مراحل القول الفلسفي، متدرجة زمنيا عبر الفلسفة اليونانية و القروسطوية و الفلسفة الحديثة و الفلسفة المعاصرة. اختار أصحاب هذه الدراسات مواجهة النصوص الفلسفية التأسيسية. يُفتتح الملف ببحث يحاول التعريف بمنزلة الجسد عند أفلاطون وديكارت و علاقته بالفلسفة من خلال فحص تأملاتها التي اتخذت من الجسد موضوعا لها سواء بالذات أو بالعرض. ذلك أن العودة إلى هذه العلاقة هو ما يتيح تعرف الكيفية التي تشكلت وفقها الإشكالات و الرؤى الفلسفية حول الجسد من منظور تحليلي تاريخي. ذلك أن تدبير الإشكالات التي يثيرها الجسد عبر التاريخ ما فتئ أن تحول من مجال الطبيعي إلى المجال السياسي، ليخضع توظيفه لمقاربة سياسية أوجدت مفهوم الجسم السياسي. قاربت الدراسة الثانية هذا التحول واضعة اليد على الإشكالات التي عرفها تدبير الجسم السياسي من خلال المقاربة الإمبراطورية و الرعوية، موضحة أن الصراع بين الكنيسة و الإمبراطورية على تدبير الجسم السياسي في العصر الوسيط أنتج ثلاثة مقاربات، تنافست في ما بينها في إطار شروط نظرية و تاريخية جعلت من الإمبراطورية ذات نزعة شمولية، هي المقاربة القيصرية البابوية و المقاربة التيوقراطية البابوية المعتدلة و المقاربة التيوقراطية البابوية المتشددة. تنخرط الورقة الثالثة في سلسلة أوراق الملف السبعة في رسم معالم تقاطع الحقوقي بالسياسي من داخل الفلسفي عند طوماس هوبز. لتوضح دور الحق في البقاء (الحياة) في تأسيس تصور للجسم السياسي (الدولة) عند هذا الفيلسوف. إذ يماهي هوبز في تأسيسه للجسم السياسي بين جسم الحاكم و جسم الدولة من خلال نقل مفهوم السيادة من المجال اللاهوتي إلى المجال السياسي، استنادا إلى ما يقيمه من تحول عميق في مفهومي الحق الطبيعي و القانون الطبيعي بالانتقال من عقد الخضوع إلى عقد توحيد تأسيسا على التفويض. تمثل الورقة الرابعة قنطرة المحور التي تحمل القارئ من إشكالات البدايات لتضعه على تخوم الزمن المعاصر، خصوصا و أنها تقدم قراءة جيل دولوز لتصور اسبينوزا لمفهوم الجسد باعتباره رهانا فلسفيا. يكشف الجزءان الأول و الأخير المقتطفان من كتاب "اسبينوزا، فلسفة عملية" لجيل دولوز عن الوجه الامبريقي العملي لاسبينوزا، باعتباره أهم الرهانات الحيوية لهذه الفلسفة، و الذي يجعلها تنتمي للتيار المحايث، ضدا على التيار المتعالي، الذي اكتمل أنطولوجيا مع اسبينوزا وقيميا مع نيتشه، انطلاقا من أبيقور و لوكريس. تتناول الورقة ما قبل الأخيرة تشريح الجسد الإنساني سياسيا من وجهة نظر ميشل فوكو. فبوصف الجسد آلة يراد ترويضه و سلبه القوة لضمان انصياعه واندراجه في نظام الفاعلية و الرقابة الاقتصادية، وفق ما أملته السلطة التي تحث على الانضباط، يرتبط الجسد بتقنيات الحياة جاعلة منه قاعدة يتمظهر على مستواها التوالد و الحياة و الموت و مستوى الصحة و معدلات العمر، باعتبارها سيرورات بيولوجية. يُبرز التركيز على الجسد، من خلال هذين المستويين، ضرورة الانتقال من تحليل نظرية السيادة نحو تحليل أشكال السلطة الانضباطية و السلطة الحيوية، ككيفيات تعمل من خلالها السلطة. يهتم التشريح السياسي للجسد عند فوكو بالكشف عن الكيفية التي تعمل بها السلطة و الآليات التي تضبط بواسطتها الأجساد و تراقبها وتدبر و تحكم عبرها الأحياء و السكان. الأمر الذي ينقل تناول السلطة في ماهيتها السياسية إلى الاهتمام بها كتشريح و اقتصاد سياسي للجسد. ينهي الملف تناوله لتقاطع الفلسفي و السياسي في الجسد على إيقاعات فلسفة ابن عربي. إذ تبرز الورقة الأخيرة علاقة الجسد بالسلوك و العمل باعتبار أن السفر تجسد عند ابن عربي، فلا قيمة للعلم بدون العمل. لهذا فالاهتمام بالجسد هو اهتمام بأشكال الممارسة التي توفق بين الانسجام و التناغم و غياب إمكانية الصراع المحرك للتضاد، في أفق تسهيل احتواء الصوفي للمتناقضات في وحدة السلوك، وخلق مجال للتضاد يتم داخله توجيه السلوك و تأطيره وفق مقتضيات و ضوابط. على خلاف وحدة الموضوع الذي ميزت الملف، تحملنا "دراسات و أبحاث" "كتابات فلسفية" في نزهة فكرية في واحة الفلسفة نطل من خلالها على الفلسفة النقدية و فلسفة التاريخ و الفلسفة السياسية والفكر العربي المعاصر و المنطق. اعتنت الورقة الأولى المعنونة "في بعض تجليات الفلسفة النقدية" بإبراز تجليات النقد عند كانط و هيغل و ماركس و ألتوسير و فوكو و دريدا و دولوز و هابرماس. و ميزت الورقة بين النقد في بداياته الأنوارية كنقد للدوغمائية والارتيابية، و ما تضمنته من إرهاصات عمل كل من هيغل و ماركس من بعده على تطوير القول فيها، والوظيفة البنيوية للنقد كما أسس لذلك التوسير، وهو يعيد قراءة ماركس و يصنف مؤلفاته، و النقد في علاقته بالتفكيك والاختلاف و بتشريح السلطة و نقد الاختلاف. تعيد المجلة في باب "دراسات و أبحاث" فتح النقاش حول راهنية فلسفة التاريخ من عدمه. إذ تعمل الورقة "مقدمة في فلسفة التاريخ، نماذج أساسية" على التأكيد على أن فلسفة التاريخ، باعتبارها مبحثا من مباحث الفلسفة، لم يمت وفق ما أعلن عن ذلك أودو ماركفارد، الفيلسوف الألماني المعاصر، في ستينيات القرن العشرين. و أنه على العكس من ذلك، عاد هذا المبحث بقوة إلى ساحة القول الفلسفي من خلال أطروحة "نهاية التاريخ" لفرونسيس فوكوياما و ألكسندر كوجيف من خلال كتاب "نهاية التاريخ" و "مدخل إلى قراءة هيجل". تهتم الورقة الثالثة في باب الدراسات و الأبحاث بالفلسفة السياسية من منظور كارل بوبر. و تبسط الورقة القول في تصور هذا الفيلسوف للدولة الديمقراطية. و تتلخص أطروحة الورقة في التأكيد على أصالة تصور بوبر، على عكس كل القراءات التي رأت أن الفيلسوف لم يتجاوز، في حديثه عن الدولة الديمقراطية، مجرد النقد و الدحض استنادا إلى مقاربة نقدية لكل أطروحات سابقيه. وتؤكد على أن بوبر قدم نموذجا للدولة الديمقراطية، رغم أنه لم يخصص له كتابا مستقلا، باعتماد مقاربة عقلانية نقدية. تلملم الورقة الرابعة، و المعنونة "من تحليل التراث إلى نقد العقل" أطراف القول الفلسفي عند محمد أركون، معتبرتا أن أهمية متنه لا تصدر من مجرد السبق التاريخي لأعماله في البحث في التراث و رسم المعالم الكبرى لنقد العقل الإسلامي، بل آتية بالأساس من التجديد المنهجي الذي أرسته أعماله في هذا المجال. ذلك أن تجاوز الإسلاميات التطبيقية للمقاربة الاستشراقية، التي حاولت احتكار الفهم و التأويل الحيز الأكبر من التراث الإسلامي و بلورة نظرة خارجية تدعي العلمية، و القراءات الأورثذكسية للتراث، التي حاولت احتكار القول في التراث لنفسها و التبرم من الصرامة العلمية مما سبب انغلاق العقل الإسلامي و تشرنقه على نفسه بصورة لا تقبل المساءلة و النقد، ساعد مقاربة أركون على استيعاب مظاهر هذه المفارقة و تجاوزها في الآن نفسه. تحملنا الورقة الأخيرة من "دراسات و أبحاث" إلى علم المنطق. إذ تعرض الورقة لمساهمة المنطق غير الصوري في إنتاج المعايير المناسبة لتقويم الدليل الطبيعي، المناسبة و الكفاية و المقبولية، من جهة رائدي المنطق الصوري رالف جونسون و أنتوني بلير، في أفق حمل إجابة على الإشكال التالي: هل يمكن للمنطق غير الصوري أن يكون بديلا للمنطق الصوري في تقويم الدليل؟ يجد الاعتراض على التوجه الصوري في المنطق وجاهته انطلاقا من المشكلة البيداغوجية التعليمية المتعلقة بفائدة و كيفية تدريس المنطق في الجامعات، مع استحضار الحاجة الملحة و العملية لاستعمال الدليل في كل مناحي الحياة و خصوصا مع عدم ملاءمة أو عدم كفاية المعايير الصورية التقليدية للتمييز بين الدليل الجيد عن السيئ. يُعنى الباب الثالث من "كتابات فلسفية" بتتبع مسار عام من أنشطة شعبة الفلسفة- كلية الآداب و العلوم الإنسانية آكدال الرباط، ارتأى منظموها الاحتفاء بمؤلفات في صيغة اعتراف بالجهد الذي حفز أصحابها على استئناف القول الفلسفي المغربي. و يعرض الباب لأربعة أوراق ساهمت في إعادة فتح و رسم مسارات البحث التي اختطها الأساتذة عبد الرزاق الدواي و محمد مصباحي و عبد اللطيف كمال، باعتبار مساهمتهم في تأسيس و تدعيم النسيج الفكري و الحقل الفلسفي المغربي مؤسساتيا من باب أنوية البحث و أطر التفكير، و هي الاجتهادات التي أخذت شكل نصوص كان أبرزها: "حوار الفلسفة والعلم و الأخلاق في مطالع الألفية الثالثة" و "موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر" لعبد الرزاق الدواي، و "جدلية العقل و المدينة، في الفلسفة العربية المعاصرة" لمحمد مصباحي، و "الاستبداد في الفكر الإسلامي" لعبد اللطيف كمال.