ما الذي يجمع الصحافة بالأدب؟ هل يمكن أن تتجاور الحقيقة مع الخيال وتذوب المسافة والحدود الشفيفة بينهما؟ متى يخلع الأديب معطف الصحافي ويرتدي جبة الأديب، وهل تسمح الصحافة المشغولة بهاجس الزمن بهذا الانتقال بسلاسة وتيسره أما أن لكل مجال منهما معادلاته ومناخاته وأولوياته؟ تلكم بعض الأسئلة التي حاولت ندوة «من الأدب الى الصحافة: الخيط الخفي» مقاربتها أول أمس الثلاثاء بالمعرض الدولي للكتاب باستضافة أسماء إبداعية اختارت المجالين معا الشاعر عبد الحميد جماهري، علي أزحاف ، فاطمة بارودي، حميد زيد. اللقاء سيرته الشاعرة والاعلامية عائشة بلحاج كان فرصة للإنصات الى هموم الشاعر داخل الصحافي والى تأثير مهنة المتاعب واستنزافها للمبدع.
لفت الشاعر والصحفي والسياسي عبد الحميد جماهري، في مقاربته للعلاقة الملتبسة بين الصحافة والاعلام والحدود المشتركة بينهما، الى أن جزءا من الثورة الادبية في المغرب لم يكن ممكنا بدون صحافةن مشيرا الى أن التاريخ اللأدبي للصحافة لا يمكن إلا أن يوضع في صلب الذهنيات والسياسة والخيال. وأن الخوف من التهام الصحافة للشاعر يأتي من الجدع المشترك الذي هو اللغة إلا ان المبدع هو من يعرف كيف يصنع شاعريته من اللغة لأن العمق هو الذي يصنع الفارق في اللغة بغض النظر عن شاعريتها في الادب، أو تقريريتها في الصحافة. لا يضع الشاعر والصحافي عبد الحميد جماهري، ترتيبا بين الصحافة والشعر، هو الذي اكتفى في طفولته بحكايات الجدة لتمرين الخيال، قبل أن يطرق الحب باب سكينته حاملا معه ورقة وقلما، فكانت بداية العاشق مع لوثة الكتابة والشعر تحديدا، وهي الكتابة التي لم تميز في البداية بين خياله كعاشق أو ككاتب. أن تجمع بين السياسة والصحافة والكتابة، كأنك تجمع حزمة أعواد ثقاب مشتعلة دفعة واحدة، وتضحك مطمئنا الى عدم الاحتراق ومصدقا وعودا بهبوب الرياح. تلك حالة الشاعر جماهري صاحب «نثريات الغريب» الذي عبر من قارة الشعر الى السياسة قبل أن يحط رحله بإحدى» مهن الوهم» في بلادنا: الصحافة، تلك السياسة التي قادته الى الصحافة بعد أن «قاده الحب الى غرفة الخيال». جماهري الذي يكتب «بنصف معنى فقط» اعتبر أنه طرأ على الصحافة بعد أن اشتد خياله الشعري، وبعد أن كان منتهى حلمه» أن يكون راعيا وله مطعم في الجبل» ، ليعيش لحظتها انشطارا أدبيا ومهنيا، بحكم اشتغاله بداية بجريدة ليبراسيون المغربية، موضحا أن المهني افترض الكتابة بالفرنسية فيما كان الأدبي ممهورا باللغة الأم، وهو ما جعل «المنفى منفيين، واللغة لغتين، والخيال خيالين». ولفت جماهري الى أن الصحافي الأديب محظوظ ومحصن في الكثير من الأحيان من الإصابة بأورام المهنة، لأن هناك لحظات في الصحافة لا يمكن أن تحتمي منها إلا بالشعر والخيال، معتبرا في هذا الصدد أن الصحافي العادي ينتحر ويقتل نفسه بالتكرار، فيما الصحافي الأديب يحيي نفسه ، عند الضرورة، بمجاراة الخيال. كما أن السياسي الذي لا يحتفظ بقسط من الشاعرية لنفسه، فإنه سيكون لا محالة مرتزقا بشكل من الأشكال. الصحفية والشاعرة ومديرة مديرية الأخبار سابقا بالقناة الاولى، فاطمة بارودي عادت الى بداياتها الإبداعية ، خصوصا في مرحلة التعليم بالثانوي قبل أن تغير الوجهة الى دراسة الصحافة رغبة في إسماع صوتها، لكنها اتجهت الى المجال السمعي البصري رغم افتتانها بالصحافة المكتوبة لتجد نفسها تسير الى ضفة التلفزة التي التهمت الكثير من موهبتها الشعرية والأدبية طيلة 30 سنة من العمل الصحفي، بحكم سطوة الزمن في الإعلام البصري التي يستحيل التحكم فيها خاصة في مجال حساس كالأخبار. واعتبرت بارودي أن « الصحافة مقبرة للإبداع» بالنظر الى تجربتها الشخصية التي جعلتها تخسر كثيرا من مساحات الأدبي لصالح الخبري، رغم اعترافها بسحر الشهرة الذي ساهمت الصحافة بجزء منه في التعريف بها كشاعرة. ورغم إقرارها بالنقاط المشتركة بين الأدب والصحافة، إلا أن بارودي ترى أن الصحافة حالة مجتمعية تُكتَب بتقريرية، فيما الأدب حالة ذاتية فردانية له لغته الخاصة. وخلصت فاطمة بارودي في النهاية الى نتيجة لا يمكن الاختلاف حولها وهي أن» الصحافة تعطي وضعا فيما الكتابة تعطي مكانة»، وعلى الكاتب الذي يبتغي هذه المكانة أن يتراجع في الوقت المناسب لأن الصحفي الأديب االذي لايتراجع في اللحظة المعينة عن الصحافة، يتراجع مسافات قد تخرجه من دائرة الإبداع». الشاعر والصحفي وصاحب الأعمدة الساخرة حميد زيد الذي جعل «السلاحف تتكلم الفصحى» نفى أية علاقة تجمع الصحافة بالأدب، لافتا الى أن في المغرب والمشرق العربي فقط يجتمع هذان المتناقضان . واعتبر زيد في هذا الاطار أن الصحافة عدوة الكاتب لأنها مهنة مؤدى عنها تقتل الشاعر والكاتب، مضيفا أن الكتابة الصحافية تفقد الأديب جزءا من إبداعيته مع مرور الوقت انطلاقا من تجربته الشخصية التي جعلته يضحي بالمبدع داخله لصالح الكتابة الصحفية اليومية. وأشار زيد الى محاولاته المتكررة في ربح الكاتب داخله والتي باءت كلها بالفشل لأن المبدع في نظره عاطل يستثمر عطالته في الأدب، فيما الصحافة تفترض زحمة والأدب يفترض عزلة. وبسخريته المعهودة اعترف زيد بانتحال صفة صحفي قائلا « أنا كاتب أخدع هذه المهنة. لا أكتب أي جنس صحفي، بل أكتب ضمن ما يمكن تسميته «هجانة» لأن الصحافة تكتب عن كل شيء، فيما الأدب يطلب منك الكتابة عن اللاشيء». وعلى النقيض مما قاله زايد عن جرائم القتل العمد التي تمارسها الصحافة على الكتاب والشعراء، رأى الشاعر والصحافي بالإذاعة الامازيغية علي أزحاف أن الاشتغال في الصحافة السمعية والجدولة الزمنية للبرامج، منحه فرصة التفرغ للأدب وللكتابة. واستشهد صاحب «ترانيم بوذا الصغير «،و»تحت جلدي مقبرة» ، و»يستبد بالحديقة الفراغ»، و»طرق بسيطة لفهم العالم»، بجورج أورويل الذي اشتغل في الصحافة ورغم ذلك أبدع في كتاباته وتمكن من كتابة أعمال عديدة شكلت نقلة في مسار الادب العالمي، مشيرا الى اختلاف السياق المغربي ومذكرا بحالة القاص ادريس الخوري وعبد الجبار السحيمي واشتغالهما بالصحافة الذي أخذ من وقتهما الكثير. أزحاف أقر في تدخله بأن الصحافة تقتل الأديب وليس الأدب، وأن ذكاء الكاتب يكمن في حسن تدبير العلاقة بينهما حتى لا يبتلع أحدهما الآخر.