بحلول يوم 5 فبراير2019 ، تكون قد مرت ثلاث سنوات كاملة على غياب أحد أهم أعلام المسرح المغربي، فنان متكامل اجتمعت فيه موهبة الممثل وعبقرية المخرج وابداع المؤلف، فهو نموذج للفنان الشامل، بل هو مدرسة فنية مستقلة بذاتها، هذا هو الطيب الصديقي، الذي ظهر مهتما بالمسرح منذ التداريب الأولى التي نظمتها مصالح الشبيبة والرياضة بمركز المعمورة بالرباط، وقد تميز أواسط الخمسينات بموهبته في التشخيص، وتطلعه إلى احتلال مكانته في الميدان المسرحي الذي بدأ يشق طريقه فيه باحثا عن نفسه في غمرة النشوة التي عمت الشعب المغربي بحصوله على الإستقلال. وهكذا انتقل الصديقي بعد التداريب التي حضرها في المغرب إلى فرنسا من أجل تعميق تكوينه المسرحي هناك. ولم يكتف بحضور الدروس النظرية التي كان يلقيها كبار رجال المسرح في فرنسا، بل عمل أيضا إلى جانب بعض الفرق الفرنسية المحترفة، فاستفاد من طرقها في التمثيل والتدريب والتجريب والبحث عن تقنية مسرحية جديدة. قد ” يبدو الصديقي واعيا موهبته ووضعية المخاض التي كان يجتازها المسرح المغربي، ولعل ذلك ما حذا بالمخرج الفرنسي “جان فيلار” أن ينصحه بنسي كل ما شاهده في فرنسا وأن يتذكر التقنية فقط، وأن يتعلم الفن الصحيح من شعبه”. وهذه القصة تذكرنا بقصة أبي نواس مع خلف الاحمر، حين طلب منه أن يحفظ بعض الأشعار والأراجيز، ثم طلب منه أن ينساها حتى يجيز له قول الشعر. ما جعل الصديقي يتوجه إلى التراث، حيث تعامل معه بمفهومه الشامل دون الاقتصار على بلد دون أخر، أو على نوع دون غيره، فاستلهم التاريخ والأدب والحكاية من المغرب والعالم العربي، كما استلهم أشكال الفرجة من كل مكان، وكأنه ينطلق من أن الظواهر المسرحية تشترك في ملامحها العامة في كل أرجاء العالم. اضف على ذلك أن اللجوء إلى التراث والفرجات الشعبية كان السمة البارزة التي طبعت المحاولات التأصيلية للمسرحين المغربي والعربي ، لا سيما بعد ارتفاع أصوات المسرحيين الغربيين أنفسهم أمثال ” جاك كوبو”بالعودة إلى الاحتفالية بمعناها الحقيقي وإلغاء المنصة التقليدية. إن التجارب العديدة التي خاضها وراكمها الصديقي من خلال استلهام التراث جعلت البعض يتحدث عن قالب مسرحي خاص بهذا الفنان، حيث إنه إلى جانب توظيف التراث، يستعمل التقنية الغربية من جهة، ومن جهة أخرى يعتمد على موهبة الكتابة والإخراج والتمثيل، وقدرة تطويع النصوص مهما كانت طبيعتها “فالطيب الصديقي الذي ينطلق من النظرة الشاملة لا يفضل عنصرا من عناصر العرض على أخر، كما أنه لا يعتمد على النظرية بقدر ما يركز على التطبيق، لذلك يبدو أن الاعتماد على العرض يشكل أحسن الطرق من أجل استخلاص ملامح قالبه المسرحي، هذا العرض الذي يصبح النص من مكوناته يكمل غيره ويتكامل به” إذن يستطيع المتتبع لمسيرة الطيب الصديقي المسرحية، أن يدرك بكل سهولة ويسر مكانة التراث العربي عموما والمغربي خصوصا عند هذا المبدع، فيكفي فقط الاطلاع على ريبيرتواره الفني، لملاحظة تلك العناوين التي أطلقها الصديقي على أعماله والتي جاءت في غالبها تمتح من المادة التراثية. فالتراث كما كان يقول الطيب الصديقي نفسه فيه العجب العجاب، لكنه كان يدرك أيضا أن ” الحنين إليه اعترافا به، واثباتا لوجوده، فلا يكفي المؤمن أن يقر بالتكليف، بل عليه أيضا العمل بما كلف به”. لا شك ان أول عقبة حاول الصديقي تجاوزها، هي تلك المتعلقة بكيفية استخدام المادة التراثية في الاعمال المسرحية، وأن يجيب عن الاشكالية التيتجابه كل مؤلف مسرحي: ” كيف نبدأ مسرحية…كيف ننهيها؟ ماذا نتناول فيها…وماذا نترك؟ ماذا نقول؟ وكيف؟ ولمن؟ أسئلة تكاد في مجموعها تساوي مسألة هملت: كائن …أم غير كائن؟” فكيف تعامل الطيب الصديقي مع هذه الإشكالية وهو بصدد إنشاء مسرحياته ؟ هنا تحديدا ظهرت عبقرية الصديقي الابداعية، مادام الابداع هو حل المشكلات، إذ لم يخرج في تعاطيه مع التراث عن تلك التقسيمات التي أوردها عز الدين اسماعيل في استخدام المبدعين للتراث: “1- الاستغراق في التراث. 2- استعادة التراث مع بعض الاضافة. 3- الاستعادة مع التفجير. 4- الاستلهام الموضوعي عن بعد. 5- الاستلهام الجمالي شكلا وموضوعا. 6- المواجهة”. وعليه فقد لجأ الصديقي إلى القالب الغربي وصب فيه مادته التراثية المتنوعة لخلق فرجة مألوفة لدى المتلقي، إن على مستوى الشكل أو المضمون. باعتبار أن “القالب العالمي السائد هو حصيلة جهود متراكمة لكافة الشعوب على الأرض، واستخدامنا له فيمن استخدمه ليس فيه غضاضة، بل فيه النفع والدليل على وجودنا الحي في قطار الحضارة المتحرك”. اعتمد الصديقي وبشكل كبير على المسرح الملحمي في تقديمه لأعماله، لتناسبه أكثر مع المادة التراثية، فيظهر بذلك تمرده على المسرح الإيطالي، وذلك من خلال إلغائه الفصول، كما نلاحظ عدم التزامه بالوحدات الثلاث التزاما تاما. لأن الطيب الصديقي وهو يحاول تطويع القالب الغربي لأعماله المسرحية، ” وجد نفسه، بوعي أو بدون وعي، مضطرا إلى صب مضامينه في شكل مسرحي غربي، وكان عليه أن يطوع نفسه لهذا الشكل، أو أن يطوع هذا الشكل لأعماله، إلا أنه فضل الحل الثاني فلجأ إلى الثورة على هذا الشكل مضحيا بما تلقاه في فرنسا ليقترب من مجتمعه ومتطلباته.” فجاءت النتائج ربما أكبر حتى مما كان يتوقعه هو نفسه.لأنه نجح بذلك في نقل المادة التراثية إلى المختبر المسرحي دون تعسف سواء على مستوى المنقول حين يقوم بالتقديم والتأخير، أو الزيادة والحذف. أو حتى على مستوى المنقول إليه (المتلقي). بل على العكس، فقد استطاع إعادة الحياة لما نقله، وتقريبه من الجمهور. فاستمتعنا معه بفن الملحون من خلال مسرحية “الحراز”، وروائع الأدب العربي الكلاسيكي في مسرحيته “مقامات بديع الزمان الهمذاني” و كذلك استحضاره للشخصيات التاريخية كما فعل في مسرحيتي “أبو حيان التوحيدي” و “سيدي عبد الرحمن المجدوب” مثلا، ناهيك عن العديد من المسرحيات التي كانت تنهل من فرجتي البساط والحلقة على غرار “ولو كانت فولة” و”جنان الشيبة” … وهذا النجاح الذي حققته هذه المسرحيات وغيرها لم يكن وليد الصدفة، إذا علمنا أن الدرامات كما يقول بوشكين: “ولدت في الساحة، وساحات المدن والقرى في العالم العربي قد هيأت للدراما إمكانية الولادة”. يبدو الطيب الصديقي واعيا ومتمكنا من مهمته كدراماتورجي، فهو يمزج معرفته النظرية بفن المسرح بخبرته التطبيقة التي اكتسبها من خلال الممارسة، ليقدم لنا اعمالا درامية مسرحية متميزة، خولت له مكانة خاصة على الصعيد المغربي والعربي وحتى العالمي. ليعلن من خلال مسيرته الفنية الغنية والمتنوعة عن نتائج هامة، قد نسوق نتيجتين هامتين هما، وإن لم تأتيا على لسانه هو شخصيا: أولا: “أن المبدع المسرحي يلجأ إلى التراث لا ليمارس حنينه إلى الماضي بسبب فشله في الحاضر، أو لعجزه عن فهم الحاضر والتعامل معه بشكل صحيح، بل لتوظيفه من خلال الرمز والاحياء بهدف خدمة الحاضر والمستقبل فقط”. ثانيا: “أن العرب القدماء قد عرفوا أشكالا من المسرح، وهي أشكال أصيلة وعميقة يمكن أن تكون انطلاقا لحركة مسرحية كبيرة، لا على الصعيد العربي فقط، بل وعلى الصعيد الأوروبي أيضا حيث يعاني المسرح من أزمة خانقة. أجل، هناك أشكال قديمة من المسرح موجودة في تراثنا. وهي أشكال من “الفرجة”. وماذا يكون المسرح بدون فرجة ؟” نبذة من السيرة الفنية للطيب الصديقي وللوقوف على مكانة وقيمة هذا العلم في المسرحين المغربي والعربي، يمكن الرجوع إلى مساره التكويني والتدريبي حيث: نسجل أولا أن هذا الفنان من مواليد سنة 1937م. – غادر المدرسة ليتابع تداريب في الفن الدرامي في قسم الشبيبة والرياضة، ثم في دار المسرح بالبيضاء. – تدرب على الفن الدرامي بإدارة “أندري فوزان” و”شارل نوك”. – تابع الدراسات المسرحية بمدينة رين بفرنسا تحت إشراف “أوبيرجينيو”، وبباريس تحت إدارة “جان فيلار” بالمسرح الوطني الشعبي. – تلقى تدريبا معمقا بالمدرسة العليا لستراسبورغ بفرنسا. – أسس المسرح العمالي بالبيضاء. – رحل إلى ألمانيا لتلقي تداريب مسرحية. – أشرف على الإدارة الفنية لمسرح محمد الخامس (1964). – أسس المسرح المتنقل ومسرح الناس وكذلك مقهى المسرح(1976). – ترأس إدارة المسرح البلدي الدارالبيضاء (1964-1977). – حصل على عضوية المعهد الدولي للمسرح ( اللجنة التنفيذية لليونيسكو). – كلف بمهمة لدى وزارة الدولة المكلفة بالسياحة (1980-1982). – أسس مهرجان الصويرة الموسيقى أولا (1980). – أسس المسرح الجوال – موكادور (1997). – شارك مع “اندري باكار” في كتابه “الفنون التقليدية في المعماري الاسلامي”. أعماله الفنية:«أما أعماله الفنية، فقد ترجم واقتبس حوالي 60 عملا دراميا. – كتب خمسة وعشرين مسرحية بالعربية والفرنسية. – أخرج ريبرتوارا مؤلفا من حوالي 70 عملا. – مثل في 55 مسرحية، 10 أفلام و30 دراما وبرنامج تلفزي. – أخرج وأنتج للتلفزة 20 عملا وللسينما 12 فيلما قصيرا وفيلما روائيا و10 أفلام وثائقية. – فنان تشكيلي – كاليكراف: 18 معرضا في المغرب، و12 في تونس، الكويت، قطر، سلطنة عمان، فرنسا. حاصل على وسام ضابط للفنون والآداب من جمهورية فرنسا. و يمكن تصنيف أعماله كما يلي: أعمال أصلية مثل:ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب، السفود، جنان الشيبة، معركة الملوك الثلاثة، خرافة المسكين، معركة الزلاقة. أعمال مكتوبة بالتعاون:سلطان الطلبة (عبد الصمد الكنفاوي)، مولاي اسماعيل(السعيد الصديقي)، تمرين الأكباش (الطيب لعلج)، الحراز ( عبد السلام الشرايبي). أعمال مقتبسة:في انتظار مبروك (صامويل بيكيت)، محجوبة (موليير)، مولات الفندق (كولدوني). و تأكيدا لقيمة الرجل ومكانته، فقد أنجزت القناة الثانية الألمانية سنة(1985) فيلما عن حياته بعنوان “un homme،un pays “، من إخراج طرولزر، كما أنجز فيلم أخر يحمل عنوان ” الطيب الصديقي” وهو فيلم جزائري- مغربي من إخراج بدر الدين بوتمن». تاريخ الوفاة: 5 فبراير 2016. هوامش: – محمد الكغاط، بنية التأليف المسرحي بالمغرب من البداية إلى الثمانينات، دار الثقافة، البيضاء، 1986، ط1، ص290. 2 – محمد الكغاط، المسرح وفضاءاته، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع القنيطرة، 1996، ط1، ص147. 3 – محمد كمال الدين، العرب والمسرح، ص8، دار الهلال، مصر 1975. 4 – محمد الكغاط، المرتجلة الجديدة. 5- عن سيد علي اسماعيل، أثر التراث العربي في المسرح المعاصر، ص49، دار قباء، القاهرة، 2000. 6 – عبد العزيز بن عبد الرحمن السماعيل، استلهام التراث الشعبي في المسرح ، ص96.مجلة الراوي العدد28 ديسمبر 2014. 7 – محمد الكغاط، بنية التأليف المسرحي بالمغرب من البداية إلى الثمانينات ،ص291. 8 – محمد الكغاط، المسرح المغربي بين التراث والنص الثالث، ص12، ط1، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، 2005. 9 – عبد العزيز بن عبد الرحمن السماعيل، استلهام التراث الشعبي في المسرح ، ص95. 10 – الطيب الصديقي، مسرحية مقامات بديع الزمان الهمذاني(بساط ترفيهي)، ، ص 106. ، البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، القنيطرة، ط1، 1998. 11 – مسرح الناس” الطيب الصديقي” ثلاثة نصوص مسرحية ( النقشة، المفتش، فوليون)، منشورات وزارة الثقافة، 2003، ط1، ص214.