إذا كان الإرهاب أعلى درجات سلم الإخلال بالأمن الوطني والسلم الاجتماعي، فإن التشدد هو أول درجات هذا السلم، الذي يمتد الآن على طول البلاد العربية وعرضها. ولولا التشدد الديني، ابتداء، لما وصلت المجتمعات العربية والإسلامية إلى حالة التطرف التي تعيشها الآن في أجزاء كبيرة من مكوناتها البشرية، التي تحولت إلى مجموعات من القتلة وسافكي الدماء. المدارس المتشددة أو الأصولية، في كل ملة وعند أي أمة، هي التي تتمحور حول فكرة أو قناعة معينة تصل حد اليقين عند أتباع هذه المدرسة. ولذلك تجد هذه المدارس مسوّرة بأسوار غليظة، لا يدخلها إلا من آمن بتوجهاتها وأهدافها. وهي، كما في منظمات أصولية يمينية عالمية معروفة، تلغي الآخر المختلف معها تماما، حتى لو استخدمت لذلك آلتي الحرب والقتل. وهذا هو المعنى الحقيقي للتشدد الذي يصعد بأصحابه إلى التطرف كمرتبة تالية، ثم إلى العنف والإرهاب المباشريْن. ومن أمثلة هذه المدارس في عالمنا العربي مدرسة جماعة الإخوان المسلمين التي وضعت، على يد مؤسسها حسن البنا، كما تشير مضابط الأصولية الدينية في العصر الحديث، قواعد الأصولية السلفية لأول مرة في صيغة حزب سياسي أو جمعية سياسية على طريقة الأحزاب اليمينية المسيحية. وبينما انحصرت دعوى الجماعة، أو الجمعية، في البداية في المحافظة على القيم الإسلامية وبناء المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية، إلا أن حسن البنا انتقل بالأصولية الدينية إلى الحركية السياسية، حين جعل من السياسة المباشرة واجباً من واجبات المسلم الذي لا يتم إسلامه إلا بأن يكون سياسياً. وقد شهد هذا الانتقال، غير المسبوق، الذي دشنه البنا، بعد ذلك، تطوراً نوعياً في ظل ما طرحه منظر الأصولية الدينية الأكبر سيد قطب، الذي، كما هو معروف، اتهم المجتمع كله بالجهل وكَفّر الدولة، وهو الفكر الذي اعتنقته، بعد ذلك، كل الحركات الإسلامية الأصولية التي تفرعت من جماعة الإخوان المسلمين، أو تأثرت بها إلى وقتنا الحاضر. الآن، كما نشهد في مصر، حين ضاعت على جماعة الإخوان فرصة التمكين التي منوا أنفسهم بها انقلبوا إلى (السيف) الذي كان من بين الخيارات المؤكدة لمؤسس الجماعة للقضاء على من يعادي المدرسة الخاصة والمغلقة على المنتمين إلى الجماعة، باعتبار أن من يضادهم فكريا، حتى من مدارس دينية مجاورة مثل مدرسة الأزهر، هم (أعداء) للدين يجب قتالهم والقضاء عليهم لوجه الله، وتحقيق شرط من شروط دخول الجنة، التي فصّلها الأصوليون على مقاس رؤاهم وأفكارهم. المشكل، التاريخي أيضا، أن مدارس التشدد والأصولية الدينية استخدمت من قبل الأنظمة الحاكمة في المنطقة بشكل عام لأغراض سياسية. وهذا مدها، عبر حقب زمنية متوالية، بإمكانية النمو والتوالد، إلى أن بلغت الحد الهائل والأخطر الذي هي عليه الآن، حين أصبحت، ممثلة بما يسمى «دولة داعش» وخلاياها النائمة في كل دولة، تهدد أمن الأوطان وسلامة المجتمعات. وأصبحت قادرة، تحت ذرائع دولية وسياسية عديدة، على أن تفرض سيطرتها الكاملة على مكونات جغرافية كبرى من العراق وسوريا، وأن تهدد الدول الأخرى التي لا تزال خارج سيطرتها. هذا الواقع المرعب هو ما يفرض السؤال عما إذا كانت أنظمة الحكم في الدول العربية قاطبة وعت درس خطورة دعم الأصولية الدينية واستخدامها في معاركها الخارجية والداخلية؟ هناك من يرى أن هذه الأنظمة، أو بعضها، لا تزال تعتقد بأنه يمكن تحقيق فوائد سياسية بإبقاء الملعب مفتوحا أمام هذه الأصولية التي افتضحت نواياها وأهدافها، على اعتبار أن الأصوليين، بالرغم من المتغيرات الكبرى الأخيرة على الأرض، قابلون، كما كانوا، للاستخدام في ظروف سياسية معينة في ظروف محتملة تتعلق بالصراعات الداخلية بين الأطياف المتباينة. وهناك من يرى أن الدول التي مكنت للأصولية عاجزة أصلا عن التعامل معها، وأن تخلّص الأنظمة من الأصوليين أصبح مستحيلا بعد أن تغلغلوا في المؤسسات القيادية وكمنوا في ظلال (الدولة العميقة) بأسماء وأشكال متماهية مع الواقع. وهذا يعني أن النظام الحاكم في أي دولة مضطر إلى مسايرتهم، وربما التحالف معهم أحيانا، كونه لا يستطيع التخلص منهم لكثرتهم ودرجة تمكنهم من التحكم بأوضاع أجهزته السيادية ومصائرها. وهذا هو أخطر ما يمكن أن يهدد كيانات الدول الوطنية التي وهي تصارع المهددات الخارجية لا تدري من أين أو متى يمكن أن تتعرض لتهديدات داخلية يقودها المتنفذون من الأصوليين عبر توظيف ما يعرف بالخلايا الإرهابية النائمة. وجهة نظر ثالثة (متفائلة) تقول بأن الأنظمة الحاكمة في الدول العربية، بعد ما يسمى ثورات الربيع العربي، باتت أكثر استعدادا وإصرارا على القضاء على التشدد والتخلص من الأصولية الدينية. وأنها ستتمكن من تحقيق هذا الهدف خلال السنوات القليلة القادمة، بعد أن تجفف منابع هذه الأصولية بالحل الأمني أولا، ثم بالحل الفكري الذي تجهز له الآن ويبدأ من مؤسسات التعليم. لذلك، وأيا كانت وجهات النظر حيال علاقة أنظمة الحكم مع الأصوليين الدينيين في العالم العربي، فإن الصراع بين الطرفين سيظل قائما ومحكوما بالمتغيرات والمناورات فيما بينهما إلى أن تحسم النتيجة لصالح أي منهما. وهو صراع أرى أنه سيطول وستكون له أثمان باهظة من مقدرات الدول وأرواح مواطنيها ودمائهم. ولن تسلم من هذا الصراع أي دولة مهما بدا أنها آمنة وقادرة على ضبط حركة مراكبها الوطنية، الأمنية، الفكرية والمجتمعية. وما سيقصر مدة هذا الصراع ويقلل من أثمانه الباهظة هو جدية الأنظمة السياسية في دفن الأصولية الدينية، وإجراء تجفيف حقيقي لمنابع التشدد والتطرف. وهذا لن يحدث إلا بتمكين سياسي لتيارات التنوير وإجراء حوار مجتمعي حقيقي تكون قاعدته الحفاظ على كيان الدولة الوطنية ومقدراتها ومحاربة كل ما يصطدم بهذه القاعدة. وقتها، كنتيجة لتمكين تيارات التنوير والحوار الحقيقي، سيكون المواطن العادي قادرا على التمييز والاصطفاف مع الأنظمة التي ليس لديها خيار الآن سوى كسب مواطنيها الذين اختطفتهم ووظفتهم تيارات الأصولية خلال العقود الماضية.