من المعلوم أنه لا يمكن تصور وجود مجال عمومي، من دون وجود نقاش عمومي يهتم بمسائل و قضايا عمومية، فالنقاش العمومي هكذا شرط أساسي لوجود المجال العمومي، وهو النقاش الذي يشمل مختلف مواقف و آراء وتعبيرات الأفراد تجاه قضايا تهمهم، ليؤدي بالضرورة هذا النقاش إلى تشكل الرأي العام. قبل عقدين أو ثلاثة من الزمن، كان من الصعب جدا الحديث عن رأي عام وطني بالمغرب، وذلك راجع بالأساس إلى هشاشة المجال العمومي المغربي حينها، نظرا لمجموعة من الأسباب، لعل أهمها كان ارتفاع مستويات الأمية داخل الأوساط المجتمعية، ثم العدد القليل للجرائد ولكل وسائل الإعلام. لكن مع ما عرفه العالم عموما والمغرب على الخصوص من تطورات و تحولات، خصوصا ما تعلق بالثورة التكنولوجية، وكذلك ارتفاع معدل القراءة والكتابة عند المغاربة، ودون نسيان لآثار توسع هامش الديمقراطية بالمغرب، وما يعنيه من توسع في حرية التعبير، أصبح اليوم من غير المعقول تجاوز وجود مجال عمومي مغربي، وبالتالي رأي عام وطني، يرتبط بالقضايا التي تستأثر باهتمام المغاربة، وبشكل يتأسس إلى تقاسم المعلومات المرتبطة بهذه القضايا، بل يتجاوز تقاسمها إلى إنتاجها و صناعتها، وهو ما يعني بالضرورة إمكانية انتشار معلومات زائفة، وما يفرض وبشكل ملح على المؤسسات والإدارات العمومية، التفكير في تأهيل وتحديث آليات تواصلها، حتى تضمن إيصال المعلومات الصحيحة إلى أكبر عدد من المغاربة. لقد طفا مؤخرا، وعلى كل المستويات نقاش ضرورة تأهيل التواصل العمومي، وهو النقاش الذي كان بين الفينة و الأخرى، يحتل حيزا مهما من الآراء التي نشرتها بعض الجرائد الوطنية، كما كان لمرات عديدة أساس مداخلات عدد من نواب الأمة، وهو النقاش الذي يجد أهميته أيضا في كون التواصل العمومي، دعامة أساسية في تأهيل الإدارة العمومية، وفي جعلها إدارة قريبة من المرتفق، لا سيما أن قرب الإدارة يضمن تفاعلها الإيجابي مع المرتفقين، وبالتالي قدرتها على تقديم خدمة جيدة لهم. قبل أسابيع قليلة، نظمت وزارة إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، اجتماعا حضره مسؤولي التواصل بالقطاعات الوزارية، وهو الاجتماع الذي ترأسه السيد محمد بنعبد القادر، وأعلن فيه عن إصدار الوزارة لدليل يخص التواصل العمومي، والذي تطمح الوزارة من خلاله تبني استراتيجية موحدة للتواصل العمومي لكل القطاعات الوزارية، وخلال هذا الاجتماع، ميّز وزير إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، بين التواصل العمومي، وهو ما تنكب وزارته على تأهيله وتجويده، وبين التواصل السياسي الذي يمتاز بأهدافه الخاصة، وقنواته الخاصة، ووسائله الخاصة أيضا. إن هذا التمييز، بين التواصل العمومي والتواصل السياسي، يعتبر مدخلا رئيسيا لضمان تفاعل هادف حول آليات وسبل تطوير تواصل الإدارة العمومية، وفي المقابل، فإن الخلط بين هذين المفهومين، سيكون سببا مباشرا في جعل هذا النقاش، أي كيفية تطوير تواصل الإدارة، نقاشا بعيدا عن مساهمة عدد من الفاعلين والمتدخلين، المفروض والمطلوب مساهمتهم فيه، ذلك لأنه نقاش في صلب عملية الإصلاح الإداري، ثم لأن ورش الإصلاح هو ورش وطني بامتياز. وهنا وجب التذكير، بأن الحديث عن التواصل السياسي، كان لا يعني في السابق غير الحديث عن تواصل الفاعلين السياسيين مع كثلة الناخبين خلال العمليات الانتخابية، وغير مجمل الحوارات التي يحتويها المجال السياسي، والتي تترجمها مواقف وتصريحات الفاعلين السياسيين، قبل أن يتوسع هذا المفهوم، ليشمل دراسة دور وسائل الإعلام في التأثير على الرأي العام، ودور استطلاعات الرأي في التأثير على الحياة السياسية بصفة عامة، ما يعني أن الحديث عن تواصل سياسي، يعني بالضرورة حديثا عن مواقف و آراء كل من الفاعل السياسي، أو الفاعل الإعلامي، وتأثيرهما على الرأي العام، وخصوصا خلال العمليات الانتخابية، أي أنه مفهوم بعيد جدا عن مفهوم التواصل العمومي، الذي تكون فيه الإدارة العمومية، طرفا أساسيا، والتي يغيب حضورها بشكل مطلق، عندما يتعلق الأمر بالتواصل السياسي. بينما الحديث عن التواصل العمومي، فهو بالضرورة حديث عن مجمل عمليات التواصل التي تقوم بها كل إدارة عمومية، تختص بتقديم خدمات عمومية للمواطنين، أي أنه تواصل لا هدف منه غير خدمة الصالح العام، وهذا ما يميزه عن التواصل السياسي، وذلك بالرغم من وجود فاعلين سياسيين على رأس إدارات عمومية، إذ أن توليهم مهمة تسيير هذه الإدارات، لا يبرر أبدا الترويج للخدمات العمومية التي تقدمها، وكأنها خدمات تقدم باسمهم، أو باسم اطاراتهم السياسية، لأنها خدمات عمومية تقدم باسم الإدارة. فإذا كان الهدف من التواصل بصفة عامة، هو خلق علاقة جيدة مع الآخرين، من خلال مختلف أشكال وصور التعبير، فالهدف من تواصل الإدارات العمومية، هو خلق علاقة جيدة مع المرتفقين، من خلال كل الأدوات والوسائل و التقنيات والقنوات، التي يمكن أن تساعد في خلق هذه العلاقة وتطويرها. لقد أصبح الجواب عن سؤال كيفية ضمان تواصل فعال وناجع للإدارة المغربية، مطروح بشكل ملح اليوم، وبصورة أكثر إلحاحا من الماضي، وذلك لأسباب عديدة أهمها: أولا : وجود رأي عام وطني كما قلنا أعلاه ثانيا : طبيعة الخلفية التي تحكم الخطة الوطنية للإصلاح الإداري، وهي الخلفية المؤسسة على فكرة تحويل نموذج الإدارة المغربية، من نموذج يجمع الجميع على قصوره في أداء وظائفه وغاياته، إلى نموذج حديث وعصري قادر على تقديم خدمة عمومية جيدة، وهي الخلفية التي يزكيها انخراط ورهان كل الفاعلين على تأهيل أداء الإدارة المغربية، حيث تندرج عملية تقديم المعلومة، على اعتبار أنها أساس عملية التواصل العمومي، في صلب الخدمة العمومية. ثالثا : تزايد وعي المواطنين بحقوقهم، وبالتالي تزايد طلباتهم، وانتظاراتهم من الإدارة المغربية، والتي يجب عليها أن تطور من ذاتها حتى تساير تطور وتزايد متطلبات مرتفقيها. رابعا : الاهتمام المتزايد للمواطنين بوسائل التواصل الاجتماعية، والتي تضمن مرونة وسهولة انتشار المعلومات و الأخبار دون الوقوف على صحة بعضها، ما يفرض على الإدارات العمومية، مواجهة انتشار المعلومات الزائفة، وهي المواجهة التي لا يمكن تحقيق غاياتها إلا بالعمل على نشر وتوزيع المعلومات الصحيحة. إن الجواب على سؤال كيفية ضمان تواصل فعال وناجع للإدارة المغربية ، لا يمكن إدراكه بإعلان الرغبة، أو بوجود الإرادة، أو حتى بإصدار القرار أو الأمر، بل هو جواب يجب أن يتأسس على دعامات حقيقية، أساسها نصوص قانونية ملزمة، تؤسس إلى مسؤولية ذاتية تفرض على الإدارات أن تسن خططا واستراتيجيات للتواصل، تخبر بها عن منجزاتها، وتوفر من خلالها ما بحوزتها من معلومات، وتعلن عبرها عن ما تعتزم القيام به والانخراط فيه من برامج. ولعل أهم قانون، يمكن من تحقيق تواصل فعال وناجع للإدارة المغربية، هو قانون الحق في الحصول على المعلومة، وهو القانون الذي سيدخل حيز التنفيذ شهر مارس من السنة القادمة، بعد أن مررته الحكومة الحالية، عن طريق وزير إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، شهر مارس الماضي، ليكون بهذا الوزير محمد بنعبد القادر، قد وضع أهم حلقة، من حلقات مسلسل الإصلاح الإداري، على مستوى تجويد و تأهيل التواصل العمومي للإدارة المغربية، فضمان وجود المعلومة، وتوفيرها، وتسهيل الوصول إليها، هو صلب عمليات التواصل العمومي. هذه الحلقة سبقتها حلقات مهمة أيضا على مستوى تأهيل تواصل الإدارات العمومي، كانكباب وزارة إصلاح الإدارة على تحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين، من خلال مجموعة من التدابير التي تبسط المساطر الإدارية، وإصدار ميثاق اللاتمركز الإداري، الذي يقضي بإحداث مصالح لا ممركزة، وباختصاصات مهمة، منقولة إليها من المصالح المركزية، ومن المرتقب أن تتلوها حلقات ذات أهمية أيضا، كالميثاق الجديد للمرفق العام. هذا المسلسل الإصلاحي من المطلوب أن يجعل من الإدارة المغربية إدارة عصرية، فلا يمكن الحديث عن تواصل عمومي، مع وجود إدارة كلاسيكية، عنوانها التسلط، الذي يترجم إلى صمت وسرية وانطواء، وتشبث بالمعلومة كصورة من صورة تفوق الإدارة، وعلوها على المواطنين، بذريعة السر المهني وواجب التحفظ المفروض على الموظف، بل لا يمكن تحقيق تواصل عمومي، إلا مع إدارة حديثة، عصرية، لا غاية من وجودها غير تقديم خدمة جيدة للمواطن، وهي الغاية التي تفرض عليها توفير كل ما يطلبه المواطن، وبالتالي تفرض عليها أن تكون في تواصل مستمر معه، ما يعني أن تكون إدارة، منفتحة، أي إدارة تواصلية، بل سباقة إلى خلق قنوات للتواصل مع مرتفقيها، وبكل لغة يتحدث بها و يفهمها المواطن. وفي هذا السياق، كان وزير إصلاح الإدارة والوظيفة العمومية، وكخطوة استباقية، قبل المصادقة على القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، قد عقد لقاء مع السيد أحمد بوكوس عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حيث وقع الطرفان اتفاقية شراكة، تقضي في أحد بنودها، بترجمة كل وثائق الإدارات المغربية، سواء المكتوبة منها أو الرقمية، إلى اللغة الأمازيغية، وهو اللقاء الذي أكد فيه بنعبد القادر، أن التواصل العمومي الواجب التأسيس له يجب أن يكون باللغة العربية و حتى باللغة الأمازيغية، لأن الهدف من كل خطط التواصل، هو إيصال المعلومة حول الخدمة المقدمة إلى كل من يهتم بها ويطلبها، وبالتالي فإن هذا يفرض بالضرورة، أن يكون التواصل العمومي من خلال قنوات متعددة، وبواسطة آليات مختلفة، وعن طريق لغة مفهومة، وبوسائل و آليات موحدة.