يمنح نص «بستان السيدة» للمبدع عبد القادر الشاوي معنى حيويا لمفهوم أن الرواية جنس حر حد الاعتباطية، أي جنس مفتوح على كل الإمكانات الجمالية، تستدعي الحلم والتأمل والوهم وأشباهه، عبر كتابة تسلط الأضواء وتضع نقط الاستفهام، ليس فقط حول القيم والعواطف والعلاقات والأنساق والبنيات والتمثلات… ولكن أيضا حول معنى وقيمة مكانتها التاريخية والاجتماعية كما يؤكد ميشيل زيرافا. إن النص السردي الأخير للشاوي، غير قابل للاحتجاز النصي، برغم تنصيص المؤلف على جنس الرواية على صدر الغلاف، لكنه ذاته سرعان ما يخرق هذا العقد القرائي في مفتتح النص بالحديث عن الحلم، وهي العبارة التي أضحت مثل عنوان فرعي في الصفحة الموالية للغلاف، بل إن سارده يمنح القارئ حرية التجنيس، «في هذا العمل(سمه رواية إن أحببت)». (ص5) يرسم النص مساره الحر في ذاكرة المتلقي المفترض ليرسو على شكله الأجناسي، إذ المؤلف لا يفرض صيغة «رواية» إلا بما تفرضه مواضعات المؤسسة الأدبية، لكنه في فجوات النص ومضمراته، يقوم نص «بستان السيدة» على الالتباس، الاشتغال على النص أثناء كتابته ومساءلة أدوات الكتابة، موضوعا وأسلوبا وبرنامجا سرديا، يقول السارد في ص24: «الرواية التي كانت تُكتب بمداد الذكريات وعواطف التوله والبعد النفسي كما القرب الموهوم والاشتباه والانفعال بكل ذلك وغيره، انتهت. كالإحساس النازع قصدا إلى الفراغ من مخاض متدافع التوترات توقف الألم الممض. لا ولادة، لا صراخ، لا تركيب، أريد القول إنني لم أعد أجد في ذاتي ما يكفي من المبررات السردية للاستمرار في الكتابة، لقد أصبحت الرواية بين يدي على النحو الذي يفيد أنني انتهيت منها وكأنني لم أبدأ في كتابتها بعد». القلق بدل اليقين، الشك بدل الجزم والقطع بالرأي، النفي بعد الإثبات، الحلم بدل الواقع.. هو ذا ما يؤسس اللعب السردي في رواية «بستان السيدة»: «هنا تغير المسار، مسار الرواية أعني.. لاعبتها بالفعل في أوائل عام 2007 عندما كنت موظفا في شركة» ص17.. اللعب هنا بالمعنى الذي حدده «هزينكا Hezinga» باعتباره حركة حرة يُشعر بالحيوية، يستقر خارج الحياة اليومية قادر على الاحتواء التام للاعب». يقول سعد: «فكان هدفي، صراحة، أن أتملك عالما اختلقته في وحدتي». ص19 الموت نهاية أم بداية.. انقطاع أم اتصال؟ إذا كان «الموت تشويشا على نظام الأشياء» على حد تعبير جورج باطاي، فإن الكتابة عنه تفرض تشويشا على اللغة وأدوات الكتابة وبنية الحكاية ذاتها.. تولد رواية «بستان السيدة» من تأملات فلسفية حول الانتحار، أسبابه وأهدافه، ألغازه وأبعاده، والذي يقضي بأن يضع المنتحر حدا لحياته بالشكل الذي يختاره أو يُدفع نحوه أو يُقيض له.. انتحار حنان الداودي المعشوقة الافتراضية لمؤلف الرواية الافتراضي، نهاية بعد بداية حب مفترض، حالم، واهم.. موت حنان جاء في سياق تجربة ترجمة كتاب من العربية إلى الفرنسية، أي منح النص المراد ترجمته حياة جديدة في حضن لغة أخرى، مشروع الترجمة لا نعرف عنه سوى أنه بداية علاقة إلكترونية، أو تواصل افتراضي بين جسدين لم يلتقيا إلا في الحلم.. رجل وامرأة.. يؤشر الكاتب على ملاحظة في نهاية الرواية قائلا: « لم تُعن هذه الرواية بالكتاب الذي ترجمته حنان الداودي، فوجب التنبيه.» نهاية حياة حنان المنتحرة هي بداية ميلاد الرواية، نهاية حزينة بعد انبثاق علاقة حب موله ملتبس، يشرع الباب واسعا أمام الأسئلة الوجودية الكبرى، يستعيد الذكريات العذبة في أماسي حزينة، يختبر العواطف والانفعالات اللاواعية والهشاشات المصاحبة للوجود الإنساني القلق.. انتحرت حنان وتركت أشعارها ورسائلها وما قالته وما لم تقله، لسعد الحي الذي يحتاج إلى الإحسان أكثر من الميت كما يقول انتيفان.. ف»من يموتون يضعون حيلة خبيثة نحو الأحياء، يتوارون تاركين لهؤلاء مهمة تفسير فكرهم أي أن يتجادلوا حول ما قالوه وما كان ممكنا أن يقولوه، وما كان عليهم أن يقولوه، بل وحول ما لم يقولوه أبدا» («لسان آدم» عبد الفتاح كيليطو). أو كما يقول كارل ماركس: « ليس علينا أن نعاني فقط الآلام بسبب الأحياء، وإنما بسبب الموتى أيضا «فالميت يمسك بالحي» (رأس المال المجلد 1 ص 7). رحلت حنان الداودي وتركت لسعد ما ينقده من الموت: «إلى جانب رغبة متأججة، كلية ومطلقة، كنت أداريها طول الوقت، أقصد أن أكتب رواية وانتهى الأمر.. بعد أن جافيت عالم الكتابة والنشر سنوات كدت أموت فيها من الانحباس». (ص21) تبدأ أحداث الرواية- إن قدّر لنا حقا أن نمسك بخيوطها على النحو التقليدي، أقصد رأس الحكاية- من مشروع ترجمة كتاب من العربية إلى الفرنسية، بعد أن طلب صاحب دار نشر من سعد مساعدته على إيجاد مترجم، ستتدخل صديقته وحبيبته السابقة مريم البدري لتقترح عليه اسم صديقتها الحميمة، الشاعرة حنان الداودي التي اشتغلت على العديد من الترجمات واستطاعت أن تمنح نصوصا عديدة حيوات جديدو في لغة أخرى، وعجزت عن أن تبقي على حياتها. سعد وسيط الترجمة، سيصبح ترجمانا للأشواق الدفينة، مُشعلها وموقد حرائقها التي سيصطلي بها أيضا، وستمنحه حنان المنتحرة، مذكرات ويوميات ورسائل… ما ينقذه من الموت.. أقصد ذلك الجفاف والانحباس في الكتابة الأدبية الذي أنهكه، إذ نشأت علاقة عشق سرية حالمة أو واهمة أو مفترضة، بين سعد الموظف في شركة إسبانية للاتصالات وحنان المتزوجة من كريم السعداني الذي يوجد على حافة الموت بسبب مرض عضال، وإذا صح أن وراء كل رواية عملية قتل ما، فإن الكاتب يمنح موتاه جنازة تليق بهم، أو يعيد بعثهم في نص حكائي باذخ مبنى ومعنى.. هو «بستان السيدة». تنمو الحكاية انطلاقا من الذاكرة، وعبر الأثر الذي تركته حنان الداودي مكتوبا أو موشوما في رسائل إلكترونية حارقة وقلقة بين سعد وحنان، وحين تكتمل الحكاية في ثنايا الألم وتواشجاته، يمنح سعد مشروعه الإبداعي بدمه على خذه إلى قارئه الأول لنصوصه الإبداعية صديقه أحمد الناصري، الذي يوسع متاهة الحكاية عبر فتح كوة نحو نص روائي إسباني «الوداع الأخير» للكاتبة الإسبانية سليبيا جويس، الذي يتحدث عن علاقة مستحيلة بين ساندرا وعشيقتها/ معشوقتها مونيكا.. المكر هو ما يؤسس لعبة الحكاية في «بستان السيدة» في تتبعه لهذه الهشاشة التي تتلبس بشرط الوجود الإنساني، وفي محاولة سبره لأغوار العواطف وتموجات المشاعر والإحباطات الغامضة المحيطة بانتحار حنان الداودي وهي على وشك إخراج حب مزلزل من حالة الكمون إلى حالة الوجود.. يلجأ الكاتب إلى نصب الفخاخ لنسج خيوط الحكاية، ليس هناك غير المكر- خارج أي بعد أخلاقي- في رواية «بستان السيدة»، فالناشر وبدافع ترجمة كتاب لا نعرف عنه شيئا، من العربية إلى الفرنسية، يورّط سعد في كتابة رواية شخصيته التي ليست هو، في علاقة دراماتيكية مفترضة مع حنان الداودي، ومريم البدري بمكر تورط صديقها القديم بأن تقوده نحو بستان السيدة، الشخصية المأساوية المتزوجة من كريم السعداني، تمده ببريدها الإلكتروني مرفوقا بصورتها التي ستقوده نحو مهاوي سحيقة. وأحمد الناصري/ القارئ الماكر يوجه، برسالة ملغزة، الكاتب سعد نحو النص الإسباني «الوداع الأخير»، الذي سيكون هو الرواية المفتتح بعد فصل «كيف أن الانتحار نهاية»، كنص حواري يهاجر من لغة أخرى، وسعد نفسه أو شخصيته الأخرى المفترضة، سينشئ حكايته في تداخل نصي مع رائعة سليبيا جويس، حيث «سينتهي التراسل في رواية سليبيا جويس بالانقطاع الذي هو الانتحار أيضا، وينتهي في روايتي بالانتحار الذي هو الانقطاع أيضا، أعني بذلك الفعل الذي أصبح بقوة الفجع انتحارا أقدمت عليه حنان الداودي» (ص41). ذات المكر يقيمه المؤلف سعد مع شخوصه وفي مقدمتهم حنان الداودي التي لم تكن رسائله الإلكترونية نحوها بلغة الوسيط بين الناشر والمترجم، وإنما كانت رسائل ملغزة مليئة بالشجون والتدفق العاطفي والتوقعات والاستمالات والفخاخ والإشارات والألغاز… يقول: «غير أن رسالتي ، فيما أذكر وحتى حين لا أذكر شيئا، كانت تخفي، كعادتي كلما خاطبي النساء أساسا، شيئا من الطمع، الطمع الدفين الذي لا أعرف كيف استولى على عواطفي واستقر في نفسي، الطمع الذي يمكن أن ينتهي بالمفاجأة» (ص14)، رسائل سعد الإلكترونية كانت أشبه بنصب الفخاخ نحو «فريسته» صنو عزلته الباردة، مبرئة من سقم علاقة سابقة بصديقتها «أريد في البداية أن أقدم لك نفسي لكي تسهل مهمتي» (اللعين أنا، لماذا أريد فعل ذلك، وكان من الممكن أن أشرح لها مباشرة ما كنت أريده منها؟ ما المهمة أيها اللعين؟) (ص15) لقد كتب رسالته الأولى المفترض أنها جد عادية للتعريف بنفسه وكيف حصل على بريدها الإلكتروني عبر صديقتها، وأن الهدف من التواصل هو أن يعرض عليها مقترح ترجمة كتاب، بدل أن تصبح هي ذاتها ترجمان للأشواق.. إنها رسائل مناورة غامضة وماكرة وغير محايدة ألبته.. ذات المكر سيتعامل به السارد اتجاه قرائه المفترضين حين يوهمهم بعلاقة افتراضية مع حنان الداودي بعد أن يبدأ بالشكوى من أنه لا يملك موضوعا للكتابة، إذ «اللغة تسعفني ولا يسعفني الموضوع»، ثم يؤكد « ها الموضوع فأين اللغة؟» وستكون الوحدة القاتلة والعزلة الباردة دافعا له لكي يختلق علاقة افتراضية لم تتحقق مطلقا بين كائنين ‘الشخصية والمرأة). «بستان السيدة» رواية زئبقية بامتياز، مكتوبة بلغة إشارية ذات نفس تأملي، فالعنوان نفسه ذو منشأ صوفي من بستان السيدة فاطمة الزهراء إلى «بستان الواعظين ورياض السامعين» لابن الجوزي وكتاب «بستان العارفين» ليحيى بن شرف النووي، وحلقات المديح والسماع الصوفي الذي يسمى لدى الصوفية «بستان السماع»، ولغة الحلم لأن الرواية كلها هي خيال ورؤيا، «غير أنني أرى لقاء ما يدعوني إليه»(ص63)، و»حلمت بأن اللقاء الباريزي» و»أنت في حلمك يا هذا ذاهب إلى باريس»(ص65)، و»كانت تلك الأيام في الحلم باردة»، «هل كان من المفروض أن أتوقع كل شيء في الحلم» (ص66).