لا يتألم سوى الحي، وبجرعات متفاوتة؛ وبمعنى من المعاني، فالكتب تتألم، لأنها تنتج المعرفة، كما يقول إميل سيوران؛ ويمكنها أن تتألم إذا تعرضت للإهمال. ألم يحدثنا كارلوس زافون عن الكتب سيئة الحظ، المظلومة، المنسية في الجوارير والأدراج، المحروقة، المطاردة، التي تغير المصائر إذا تم الاقتراب منها أو محاولة الإضرار بها، أو حتى قتلها. فالمكتبة المنسية في “ظل الريح” لزافون، غرفة سرية للأرواح المسحورة الهاجعة. الأرواح التي تستيقظ من سباتها العميق عندما يأتي قارئ ما ليفتح دفتي كتاب مخبأ بعناية في رف بين ركام من الكتب الأخرى، فينفخ فيه من روحه، على نحو قد يقوده إلى حتفه (الدون كيخوتي/ اسم الوردة). وهذا معناه أن الكتاب، في العمق، كائن حي له أرواح متعددة ولانهائية (الطروس)؛ الكتاب- أي كتاب- يشعر ويتألم. يصارع ويقاوم. يشيخ ويضمحل. يظهر ويختفي. يقوى ويضعف. يخرج من دورة ليدخل إلى أخرى. يتدحرج بين الأزمنة والأمكنة واللغات. يتكلم حينا ويصمت أحيانا كثيرة. يتقدم حين يعثر على قارئ يحترمه، ويتوارى عن الأنظار حين تخترقه نظرة احتقار. يرتفع ويعلو حين تمسك به الأيادي المحبة، ويسقط ويخبو حين تتراكم عليه الأقدام الحانقة. ومع ذلك، فإن الهامش الوحيد الذي يطمئن إليه هو ما قاله مالارمي: “تحدث الأشياء في العالم كي تنتهي في كتاب”. حدثنا زافون عن الكتب المختبئة في الممرات والسراديب والأقباء. الكتب التي تنام في متاهة مينوتورية لا يملك جميع القراء خيوط أريانة للفكاك منها. والسؤال هو: هل ينام الذي يتألم؟ هل ينام الذي يتعذب مادام “لا وجود لألم من غير عذاب”؟ إن الكتب التي تتألم هي التي لا ينام المعنى الذي تنجبه بتكرار مبالغ فيه. وإذا كان المعنى يولد من نقطة التماس الساخنة بين الإلهي والبشري، فإن الكتب هي البيت الذي تلتقي فيه الآلهة بهؤلاء الذين تصطفيهم لتضفي معنى على هذا الصراع الناتج عن “عبث الوجود” ولامعناه وعماه. وبهذا المعنى، فإن الآلهة تشيد البيوت/ الكتب لتقيم فيها، حقيقة ومجازا، التباسا واحتمالا، لا لتنام، بل لتتأبد في إنتاج المعنى/ الألم. إن زافون على سبيل المثال لا يحدثنا عن الكتب الرديئة. فالكتب الرديئة ليست كتبا عن جدارة، لأنها لا تتألم على الإطلاق، ولا تحتاج إلى مخابئ تنقذها من خطر التدمير والحرق. الكتب الرديئة تولد محاصرة بحد الاستهلاك العمومي. ترقص وتتعرى وتمارس “الحب الخليع” على قارعة الطريق، وقد تترهبن وتلبس الحجاب وتطلق اللحى. الكتب الرديئة تتصرف كالعامة، تعتنق أخلاقهم، وتحمل ذلك الهوس الجماعي لقول ما يعجب الناس ويملأ أفق انتظارهم. الكتب الرديئة ترتكز على خطاطة مرتبة بعناية لينجر وراءها طالبو المتع العابرة والآمنة. إنها تؤمن بالقارئ العريض عوض الإيمان بالألم، وبالتهديد القاتل الذي يصممه السياق بشكل أو بآخر. يقول ألبرتو مانغويل: “ثمة قراء معنيون، الكتب بالنسبة إليهم موجودة لحظة قراءتها، ولاحقا كذكريات عن الصفحات المقروءة، ولكنهم يشعرون بأن التجسد الملموس للكتب أمر هم في غنى عنه”. بالمقابل، ثمة قراء آخرون يحتاجون لهذا التجسد الذي ينهض على نوع من الندية الملموسة، فالكتب تحتاج إلى قراء، كما يحتاج القراء إلى كتب. لكن أي كتب؟ هل الكتب التي تحرض القارئ من تلقاء نفسها على استهلاكها وتجاوزها إلى كتب “ستريبتيزية” أخرى، أم الكتب التي تدعوك إلى اقتسام الآلام التي تحتشد في عمقها، وإلى سبر أغوارها ليضيء ذلك المعنى الغامض الذي يجعلك تطارده؟ بصرف النظر عن المعنى الجوهري لمفهوم “الكتاب”، فإن الكتاب لا يتحقق بالاستظهار أو بالتذكر أو بالمراهنة على العوالق، كما لا يتحقق بالمحو والنسيان. الكتاب يحتاج إلى التجسد الفعلي. أفكر هنا في بورخيس والجاحظ وبيسوا وساراماغو وابن عربي وكالفينو وكونديرا، ككتب. وأفكر في “المكتبة الحية” التي يتيحها مهرجان “سيجت” ببودابيست، ذلك أن استعارة كتاب من تلك المكتبة تعني الجلوس إلى شخص حقيقي وتبادل الحديث معه لمدة ساعة، لمعرفة ما ينطوي عليه من معارف. ولا يتحقق المعنى/الألم إلا بالمواجهة العنيفة بين الأضداد، بين القارئ والكتاب المتجسد، المرئي، الملموس، المقروء (لست مهتما بالكتاب المسموع، وأشك في حقيقته).. بين القارئ المغرور بوهم حيازته للحقائق اليقينية والكتاب المحفوف بالآلام والمسكون بأصوات تضرب في عمق التدفق الأبدي للمتاهة، لتقاوم الزوال والانعزال والعدم. يخبرنا كيليطو، مثلا، بأن مكتبته تتكون من عدة رفوف. في أعلاها نجد الكتب التي لا يستعملها إلا نادرا، وفي الأسفل الكتب التي يكرهها ولا يحب رؤيتها، وفي الوسط تلك الكتب التي يحتاج إليها في كل وقت وحين. أما مهمته كقارئ فهي ضخ الدماء في الأجساد النائمة للكتب. مهمته أن يكلم الكتب حين تكلمه.