صدر مؤخرا منجز أدبي للكاتب كمال الإدريسي موسوما ب» أما يانا… فرقصتي أنا « من تقديم الشاعر المغربي نور الدين ضرار. يضم بين دفتيه اثنا عشر نصا، جاءت على شكل سُرود قصيرة مستهلة بأبيات شعرية من الهايكو، اختارها بدقة لتكون ومضات خاطفة تضيء المشهد السردي وتختزل مضامينه، وتشير إلى السبل التي تتفرع عنها المعاني، والأشياء التي يرجى تمريرها بشكل أو آخر. نفحات هيكوية صدرت ضمن ديوان « ومضات من آخر سماء، بانوراما من معجم الكينونة»، للشاعر المغربي «نور الدين ضرار». يهدف بذلك الكاتب كمال الإدريسي إلى خلق نوع من التحول، أو نزعة جديدة في كتاباته، التي تنوعت بين الشعر، والزجل والقصة القصيرة، والمسرح، على مستوى الشكل والبناء، بإدماج نصوص سردية من تأليفه بأخرى شعرية مختارة تقر بالتناص أو التعالق النصي، لكن بشكل مقصود ينفي المحاكاة والتقليد العشوائي اللذين يسيئان للكتابة وللكاتب، ويشير للعلاقة المتبادلة بين النصوص التي لا تعني بالضرورة تأثير الكاتب في تخيله بمصادر الشاعر أو حياته الخاصة التي طبعت مضامين الحكي، بقدر ما يتخذها منارات ترشد وتلمح إلى فحوى المواضيع بتركيز الضوء عليها، لتبدو النصوص أو كما سماها « سُرود «، في حلة جديدة وباستهلال يضفي طعما مبتكرا مشوقا. « أما يانا … فرقصتي أنا»، عنوان يضم اسم « يانا « الذي تتردد بشكل مستمر، عبر مختلف تطور السرود. سيطر على الحكي، وكان المحرك الرئيسي لجل القصص التي تشابهت واختلفت. تشابهت في الأحاسيس، وفي حضور الراوي، وفي تكرار الفكرة الرئيسة بأشكال مختلفة، وتباينت في الأحداث والروايات والفضاء والزمان. توالت النصوص بأماكن وأزمنة متباينة وأحيانا متباعدة، لكن « يانا « ظلت تحضر كاسم يتكرر باستمرار بتجليات متعددة. بدت في القصة الأولى يافعة تمتلك قلب صبي يقاسم أخاها الصغير نفس القسم الدراسي الذي لا يزال تلفه أمه في منشفة. فكانت حبا وتعلقا صبيانيا. يقول في ص: ( 19 ) «اعْطيوني يانا «. يطلبها وكأنها دمية أو لعبة للتسلية. وفي القصة الثانية صبية تلعب مع الراوي لعبة «الأخير عيشة» وفي قصة أخرى لها عشيق يصحبها على دراجته النارية، وفي مرات كثيرة يتحدث عنها وكأنها نصفه الآخر الذي يقبع في داخله. يتضح ذلك في الصفحة ( 68 ) :» يانا..يا غجريتي، غني لي، تجسدي في لا مكان.. سنكون حرين يبتلعنا الزمن.. نحن بمنأى عن الزمن.. نحن كل شيء .. نحن الشيء في الشيء… نحن أنا وأنت.. أنت وفقط «. إذن، يانا أو هذا الحب الذي يفاجئ ويستقر ثم يصاحب دون ملل أو كلل، انطلق كلعبة طفولية وتعلق صبياني ليستمر عبر مراحل السرد المختلفة، ليتجذر ويصبح تيارا جارفا، استمر رغم الإقصاء والمعاناة واختيار الآخر كرفيق بديل. يانا، أو يا أنا، إن جاز هدا التعبير، لأن هذا الاسم ارتبط ارتباطا وثيقا بالسارد واعتبر في مختلف تطور السرود مرادفا للأنا أو امتدادا لها، أو على الأقل تجلياتها التي تعددت و اختلفت من نص لآخر. فكان اسم يانا في الصغر مرادفا للعب والمغامرة، ثم في المراهقة للحلم، للمتعة، للهوس وللألم، لتتحول في الأخير إلى الحسرة والعذاب واللعنة التي تصاحب وتخنق. بتعبير آخر يمكن اعتبار هذا التعدد في بناء سمات متباينة بمستوياتٍ مختلفة لشخصية يانا، بناء تطوري. لأنه تم تناولها في جميع مراحل نموّها المختلفة، وبكل ما تعرّضت له من صراعاتٍ وضغوط؛ بشكل تصاعدي حيث أنها بدأت في التشكّل منذ اللحظة الأولى في حياته، على اعتبار أنه كان مهوسا بها وهو طفل إلى أن اكتملت لديه الأنا الذاتيّة في مرحلة النضج. مما يؤكد أن سلوك الفرد هو نتاج للعديد من العوامل المتشابكة والمتضاربة، و في حالة صراعٍ وحركةٍ دائمة، كما هو وارد في النظريّات الديناميكيّة و مدارس التحليل النفسي، خاصة مع فرويد. تتوحد الأحداث من أجل تصوير خواطر وتصورات تبرز حياة شخص متيم، تكاد تكون مشتركة بين الجميع، كونها تنطلق من البراءة و السذاجة في التعاملات والعيش. نحاول تعلم استخدام المشاعر والأحاسيس، واستخدام العقل، فتتعقد الحياة وتختلف السبل والاتجاهات كلما كان الإبحار في الحياة قدما. تزخر السُرود بالصور و الأخيلة، من حيث كونها كتبت بلغة بسيطة فصيحة مع الاعتماد على اللغة العامية في الحوارات بهدف خلق تناغم بين البسيط و الجميل، مع التخلي على المحسنات البلاغية والإطناب، و الاعتماد على الجمل القصيرة المكثفة. ينطلق السرد بسلاسة و وضوح و يتقدم في إطار متماسك، يرسم الأماكن والأحداث ببراعة ودقة. بنثر يمتلك طاقات إبداعية تصويرية كبيرة، يكسره حوار مكتوب باللغة العامية المغربية، فاتحا بذلك المجال لتدفقه بأمواج متتالية الدفع، يزداد جمالا حين نُجبر عن التساؤل عن زمن انطلاق الحكاية، لأننا نفقد خيوط المتابعة بتداخل الأحداث، وتتشابك بتشابه واختلاف، داخل النص الواحد، لكنها تتوحد في طريقة الكتابة التي تحمل بصمة خاصة تميزها عن غيرها، بوضوحها وعفويتها و تدحرُجها الانسيابي، فاسحة بذلك المجال للاستمتاع بقراءة المتخيل القصصي، من خلال اكتشاف عوالم مُشوقة مُحملة بنسمات تعبيرية تارة سُريالية، وأخرى محملة قلق وجودي، و في بعض الأحيان بواقعية سحرية في بعدها الغرائبي. يتضح ذلك في القصة التي استهلها ب» فتى الأحراش/ خطوك أعمى / ودربك هاوية « ص:39 ) ( حيث وظف الموروث الثقافي والمتخيل الجمعي المتجلي في الخوف من المرأة، أو بالتحديد من الجن الذي يسكنها وإمكانية المس فقط بإطالة النظر إليها . يقول : « ثم وكأنني أبعث من الموت… حملقتُ في كل الوجوه من حولي…كان الجميع مُرتاعا لرؤيتي بهذا الشكل… ! أذكر أن أمي احتضنتني باكية وقالت بأسى: خاصْني نشُفْ ليك شي فقيه.. ! أدرت وجهي ناحية المرآة … تقابلت أعيننا .. غمزتني.. اطلق يدي…!». رسم الشخصيات كان بذكاء، ، بالتركيز على التفاصيل الصغيرة و الجزئيات التي تحدت الفرق، جعلها تتحرك في كل الاتجاهات، وألبسها دلالات ورموزا تتحرك بين الوهم والحقيقة.ركز على الاقتصاد في عددها داخل النص الواحد حتى يتسنى له التحكم فيها بكل أريحية. من غير مقدمات، ينطلق بعفوية مقصودة تجعل القارئ المفترض يجد نفسه غارقا في سرد من الأحداث والوقائع، تأخذه في جولات عبر مختلف دروب النص، وفجأة يترك ليتابع السير وحيدا، أو يؤخذ إلى مكان ما على مشارف حدود السرد، و يترك ليختار طريق وصوله للنهاية على اعتبارها أفقا لانفتاح النص على عدد من التأويلات. بلغة قوية، بسيطة، واقعية، تصويرية، كتبت بأسلوب متعدد الحقول المعرفية والدلالية، اعتُمد في بنائها على عناصر التشويق لطبيعة القصة القصيرة، التي تفرض شد الانتباه من البداية. حاول الكاتب كمال الإدريسي خلق نزع تجديدية في طريقة الكتابة، على مستوى الشكل والبناء من أجل تصوير خواطر وتصورات تبرز المتخيل القصصي في حلة جديدة تميزه. فجاء تمثله للخصائص الطفولية ودقائقها الجمالية تمثيلا تاما، فأودع قصصه ذخائر الإرث الثقافي والعقائدي التي تحفل بمواضيع مختلفة ومتعددة، مع مهارة في وصف الأحداث بطريقة جديدة بأبعاد ثلاثية: استهلال بنصوص من الهيكو مميزة ومختارة تلائم المضامين، وسرود مكتوبة باللغة العربية الفصحى مع الاعتماد على اللغة العامية في الحوارات، التي يستهدف بها الوصول إلى قلب المتلقي لتعلقه بلغته الأم و ما تشكل علية من سلطة وتأثير. لهذه الأسباب اختار لغة محددة، على اعتبار أن اللغة تتغير تولد وتموت، وقد تتغير بتغير الأجيال، والعقليات، والناس أنفسهم، لظروف ضاغطة متباينة أهمها تلاقح الحضارات، وعقلية الشباب الذين يدركون الاختلاف عن العقليات السابقة عليهم، فيغيروا طريقة لباسهم وكلامهم ليبدوا أكثر تحررا ومواكبة للتطور، معتبرين المتشبثين بالقديم رجعيين، أو على الأقل موضة قديمة . لذلك اعتمد على لغة معيارية مختارة بدقة من معجم لغوي يمتاز بالبساطة والقرب من الكلام الذي يستعمل في اليومي، ويميز الجيل المعاصر له.