أنا، أبسط في الجوّ صراطا ثمّ أطوي الرّيح تحتي، بينما يجثم في السّرب حشود: جارة تسرق شمسا، رجل تنزع كفّاه خيالا خائفا، بائعة الأبراج بالباص، رجال يغطسون الورق الأصفر في المعنى، وأنثى حامل تبحث في السّرب عن الغائب. كانت غيمة تمطر، كان الدّم خيطا، كانت الغابة في الأسفل تنأى، غير أنّي خارج السّرب، صراط تحت رجلي، والمسافات طواها الله، ولا شيء يعيق النّسر كي يحيا وحيدا خارج السّرب ! الممرّ الغامض واضح أنّ ممرّا غامضا ما وطأته قدم قطّ، سأمشي فيه يوما. أعبر الحاسّة والحدس وسور العقل والأحراش في منخفضات العقل. إنّي مدرك أنّ نسورا تملأ الآفاق، مفروض على عينيّ ألاّ تطآ أعشاشها. أعرف أيضا أنّ خلفي ألف كلب، عظمة واحدة تكفي لإخماد الصّدى النّابح. أمشي في المدى دون التفات، وإذا ما وطأت رجلي رصيف الغد، أبصرت ورائي مدنا تسقط، أبصرت كلابا وعظاما وفراغا. قلت: (لن أرجع يوما، لن أرجع. إنّي باحث عن ممرّات جديدة..) أمطار ملوّنة صعب تخيّل ما يكون غدا: يعود إلى مدينته الغريب فلا يرى أحدا. وفي طرق الفراغ تنام أعقاب السّجائر حاضنا كفن الدّخان وجودها. لم تبق سارية ولا ركن ولا سقف. كأنّ أصابع الأيّام قد عجنت تضاريس المدينة في يد العدم المبلّل. كلّ شيء صار معجونا. تكوّمت المشاعر في ممرّات الدّماغ، وبات ينتزع الغريب من الرّكام قماش أطلال، وحين تدفّق اللّيل الخجول كجدول أعمى، غفت عين الغريب لعلّ أمطارا ملوّنة تنظّف حزنه.