نقابي: البطالة سترتفع بتطوان بعد عزم شركة إسبانية طرد أكثر من 220 عامل وعاملة    شي جين بينغ: الصين تملك "ثلاثة مفاتيح" لنهضة الذكاء الاصطناعي    المغرب ودول الساحل .. انفتاح استراتيجي واستثمار للحدود المشتركة    هكذا انهارت الشبكة الكهربائية لإسبانيا في خمس ثوان.. أسباب محتملة    وزارة الأوقاف تحذر من إعلانات متداولة بشأن تأشيرة الحج    أمريكا تهنئ حزب رئيس وزراء كندا    93 في المائة من مياه الاستحمام بالشواطئ المغربية مطابقة لمعايير الجودة    سجن المحمدية يهتم بحقوق النزلاء    الحرس الإسباني يغلق "نفق سبتة"    19 قتيلاً و3018 جريحاً في حوادث سير خلال أسبوع واحد بالمناطق الحضرية    أمني متقاعد ينتحر في القصر الكبير    رئيس الحكومة يترأس اجتماعا لتتبع تنزيل خارطة طريق قطاع التشغيل    انقطاع ضخم للكهرباء يشل أوروبا الجنوبية... هل تقف الجزائر وراء الحادث؟    باريس سان جيرمان يراهن على حكيمي أمام أرسنال في قمة نارية بنصف نهائي أبطال أوروبا    المغرب يساعد إسبانيا على تجاوز أزمة انقطاع الكهرباء عبر تزويدها بطاقة كهربائية هامة    البيضاء…..ختام فعاليات الدورة السادسة من مهرجان إبداعات سينما التلميذ للأفلام القصيرة    ملتقى في الصويرة يناقش "المواسم التقليدية رافعة للاقتصاد في الوسط القروي... زوايا ركراكة نموذجًا"    القيدوم مصطفى العلوي يُكرَّم في منتدى الصحراء للصحافة بكلمة مؤثرة تلامس القلوب    البنك الدولي يتوقع انخفاض أسعار السلع الأولية إلى مستويات ما قبل كورونا    الأحمر يوشح تداولات بورصة الدار البيضاء    إسبانيا.. ظهور السفينة الحربية المغربية "أفانتي 1800" في مراحل متقدمة من البناء    ربط المغرب بآسيا.. اتفاقية استراتيجية بين المكتب الوطني للسياحة وطيران الإمارات    شراكة تجمع التعليم العالي و"هواوي"‬    المغرب يدين أكاذيب الجزائر بمجلس الأمن: هوس مرضي وتزييف الحقائق    "النهج": الحوار الاجتماعي يقدم "الفتات" للأجراء مقابل مكاسب استراتيجية ل"الباطرونا"    "البيجيدي" يطالب بتوسيع "الانفراج الحقوقي" ويؤكد أن البناء الديمقراطي بالمغرب شهد تراجعات    خبر مفرح للمسافرين.. عودة الأمور إلى طبيعتها في مطارات المغرب بعد اضطرابات الأمس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    كاميرات ذكية ومسرح في المدارس المغربية لمواجهة العنف    كيف يمكن لشبكة كهرباء أن تنهار في خمس ثوان؟    أورنج تهدي مشتركيها يوما مجانيا من الإنترنت تعويضا عن الانقطاع    حريق مطعم يودي بحياة 22 في الصين    حقن العين بجزيئات الذهب النانوية قد ينقذ الملايين من فقدان البصر    اختبار بسيط للعين يكشف احتمالات الإصابة بانفصام الشخصية    دراسة: المضادات الحيوية تزيد مخاطر الحساسية والربو لدى الأطفال    أخبار الساحة    موكوينا يخلط أوراق الوداد الرياضي    تنظيم ماراتون الدار البيضاء 2025 يسند إلى جمعية مدنية ذات خبرة    هذا المساء في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية: المؤرخ ابن خلدون … شاعرا    الديبلوماسية الموازية مهمة جوهرية للحزب    يضرب اليوم موعدا مع تنزانيا في النهائي القاري .. المنتخب النسوي للفوتسال يحقق تأهل مزدوجا إلى نهائي كأس إفريقيا وبطولة العالم    مشروع مستشفى بالقصر الصغير في طي النسيان منذ أكثر من عقد يثير تساؤلات في البرلمان    البطولة.. أربعة فرق تحاول تجنب خوض مباراتي السد وفريقان يصارعان من أجل البقاء    خبير اقتصادي ل"رسالة 24″: القطار فائق السرعة القنيطرة مشروع استراتيجي يعزز رؤية 2035    مؤسسة المقريزي تسدل الستار على الأسبوع الثقافي الرابع تحت شعار: "مواطنة تراث إبداع وتميّز"    شباب خنيفرة يسقط "الكوكب" ويحيي الصراع على الصعود    لقاء علمي بجامعة القاضي عياض بمراكش حول تاريخ النقود الموريتانية القديمة    عودة حمزة مون بيبي : فضيحة نصب تطيح بمؤثر شهير في بث مباشر وهمي    السايح مدرب المنتخب النسوي للفوتسال: "التأهل للنهائي إنجاز تاريخي ونعدكم بالتتويج بلقب الكان.. والفضل يعود لهشام الدكيك"    سانشيز يشيد بتعاون المغرب لإعادة الكهرباء    أزيد من 403 آلاف زائر… معرض الكتاب بالرباط يختتم دورته الثلاثين بنجاح لافت    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خُدعة الأحلام في رواية «تل الخزامي» لعبد الوهاب الرامي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 10 - 2018

منذ بداية الألفية الثالثة، حصل تراكم في السرد الروائي المغربي يحيل على نضج وثراء التجربة السردية مثلما يفيد تنوع الأشكال التعبيرية بين عمل وآخر، وكل هذا مرتبط بالمساحة التخيلية للكتاب المغاربة. واللافت في هذا التنوع هو انخراط الكتاب في المسير الروائي المغربي من خارج شعبة الأدب العربي، حيث قدموا إلى هذا الفعل الكتابي من مجالات علمية ومهنية مختلفة كالطب، والفلسفة، والتاريخ، وعلوم الإعلام، وما إلى ذلك. ويعبر هذا بجلاء عن الإغراء التخييلي الذي يستقطب المنشغلين به خارج الأدب. وقد يكون هذا الخرق نفسه موضوعة سوسيولوجية تفترض الانشغال البحثي فيها.

إن التراكم الحاصل في المنشورات الروائية، وما يحمله من اختلاف وتنوع الأبعاد التخييلية وطرائق الكتابة، من الواقعية السحرية إلى الرواية التاريخية، مرورا بالغرائبية والعجائبية، وغيرها كثير، هو ما يدفع القارئ إلى النظر في هذه الأعمال نظرة إبداعية نقدية تراهن على الفسيفساء الجميلة التي ترسم معالم الرواية المغربية. وقد حصدت الرواية المغربية جوائز مهمة في العالم العربي، ووصلت إلى لوائحها القصيرة، مثلما فتحت المغرب على نوافذه السردية. وقد نقول، بقليل من المكر، إن متابعتنا للإصدارات الروائية في العقدين الأخيرين، وتقديم بعضها للقراء تشكل منصة استراتيجية بالنسبة لنا، لاعتبارات متعددة، أولها أن قدَر الكتاب المغاربة أن يكتبوا عن بعضهم البعض بدل انتظار الشرق كي يقوم بذلك، وثانيها لتحفيز القراء أكثر على متابعة الأعمال الروائية المغربية.
ولأن الأمر كذلك، فنحن ننخرط في هذه المغامرة النقدية، من جانب، لبسط حدود القراءة والتأويل، ومن جانب آخر، لوصل المتعة بمؤانسة القراء.
من هنا أعرض عملا روائيا صدر مؤخرا هو “تل الخزامى” للكاتب “عبد الوهاب الرامي”، هذا الأخير القادم من علوم الإعلام والاتصال إلى الأدب، والذي راكم حسب ما تبينه سيرته الحياتية ما يربو على عشرين مؤلفا، منها، ما عدا ما يتصل بحقل تخصصه الأصلي، روايتان باللغة العربية وثالثة بالفرنسية وديوانا شعر.
دائما تكون البداية مقلقة ومفتوحة على طرق متعددة، وكأن كل طريق يحيل على مقاربة مفترضة. كما أن الرواية المطروحة في الطرقات لا تعتمد البدء من الحرف الأول لتجد نهايتها في الصفحة الأخيرة، بقدر ما تكون الصفحات البيضاء، قبل البدء وبعد الختم، أفقا للقراءة والتخييل، مثلما قد يركز القارئ على حدث حكائي بسيط يجعل منه بؤرة رئيسة في الحكي ، وهكذا دواليك.
لنتوقف عند عنوان الرواية، والذي ينم في بساطته الظاهرية عن الطبيعة في بعدي العنوان “تل/الخزامى”، بينما العنوان الفرعي “عودة آل مرقوب” يشير إلى دلالة عودة شخصية من شخوص الرواية. بين العنوان الأول والثاني مساحة العام والخاص، اللامحدود والمحدود. وبينهما بياض يوقظ فضول القارئ، ويدغدغ مساماته لمعرفة هذا الذي يكون “بين- بين”، وكأن “بين- بين” هو السؤال الرئيس في الرواية. صحيح أن القارئ سيجد تطابقا ماهويا بين العنوان والرواية، يعني هذا أن الكاتب لا يضلل متلقيه، ولا يكذب عليه حتى وإن كان الكذب أجمل ما في الأدب. فالمؤلف لم يقدم عمله بتسمية مطابقة للعالم الغرائبي والعجائبي الذي رسمه في الرواية، واختار، من جهة، تسمية “الخزامى” وما تتضمنه من روائح أسطورية وخرافية حد التوحش، ومن جهة ثانية، ما يدل عليه “آل مرقوب” من غرابة فارقة.
لنتواطأ مع الرواية ومؤلفها، ولنقل إن الروائي حر في اختيار العنوان الذي يريد. ولنبدأ برسم حدود ممكنة لقراءة هذا النص، من قبيل: بنية التحول/المسخ (1)؛ غرابة الأسماء والأمكنة (2)؛ بنية الحلم (3)؛ خدعة الأسماء والأمكنة/التاريخ والجغرافيا (4).
1 – غرابة الأسماء والأمكنة :
تكمن أهمية رواية عبد الوهاب الرامي في أنها تروم خدعة القارئ. فحين قراءتها يحصل لديك اعتقاد أن تفاصيلها موجودة في الأرشيف الاستعماري، أو في ما قبل التاريخ، أو في حكاية خرافية قديمة محفورة في الذاكرة الجماعية لشعب أو منطقة ما. لكن حين الغوص فيها، تجد جميع افتراضاتك محروقة على الطاولة، وكأن الكاتب ينحت عالمه السردي من داخل وخارج التاريخ والخرافة والأسطورة، وما إلى ذلك من النصوص المحكية المخبوءة في مكان قصي. ولعل هذه الخدعة هي الداعي الأول لكتابتها حيث الأسماء محجوبة بالغرابة، وموشومة بالعجيب المدهش إلى حد يتصور للقارئ أنه أمام أسماء العفاريت التي نسيها النبي سليمان في مدونته الكبيرة، هذا بينما زمن الرواية لامحدود أو، بالأحرى، لا يشير إلى أية علامة دالة على واقعة ما.
لنتأمل، تدليلا على ذلك، أسماء شخوص الرواية: حنيشة، ريعانة، سنوم، شهلب، هلام، فوالة، رقيوش، هشيل، صندر، سعالة، جقالة، مرقوب، دغيشة، شهالة، طحرور، خرباب، برغوط، قرموط، إلخ.
ولو ابتعدنا عن هذه الوسومات الغرائبية قليلا، سنجد، من موقع آخر، أن غرابة بعض الأسماء تقوم على مفارقتها للجغرافيا والتاريخ معا، خصوصا أنها تستند إلى الشرف كبنية دالة على علية القوم ومرتبتهم في الوجود. فالشخوص يتخاطبون بإضافة “سيدي، وللّا” للأسماء الشخصية، وهما صفتان معروفتان عند الأشراف المغاربة. وفي ذلك دلالة عميقة على ربط الغرابة بالواقع المغربي.
إلا أن الغريب يتجاوز هذه المسميات لينكشف في العلائق التي تربط أفراد القبيلة، أي في طقوس قبيلة “آل برغوط” التي تمتح من رمزية “سيدي برغوط” حيث خرافة الاسم وتضاعيفه المتعددة ترتقيان به إلى سلطة فوقية مطلقة “وكان ضريح سيدي برغوط يبدو منتصبا فوق “تل الخزامى” وكأنه يرعى القبيلة من فوق…” (ص. 11).
فهذا الولي، ذو الرمزية المستبدة، هو الثاني في تراتبية مرجعيات القبيلة بعد “سيدي هلام”، إلا أن قوته نابعة من الخوارق المتداولة بين أهل القبيلة. إنه السلطة القاهرة في لاشعورها لدرجة لا يحق معها اللجوء لبركاته إلا في الأمور الجسام حين يستعصي الأمر ويستشكل على الجموع.
هكذا يكون ضريح سيدي برغوط أحد المفاتيح الرئيسة لقراءة غرابة الأسماء وحدودها التراتبية، مثلما تشكل الطقوس الناظمة للقبيلة شرطا ضروريا في بنية القرابة والزواج، وما إلى ذلك، فتتحدد القبيلة في نظامها المادي والرمزي الخاضع – بالضرورة- لتل الخزامى أو مقام سيدي برغوط. إنه نظام صارم يخضع له الجميع خضوعا تاما، وهو مراقب دون هوادة من مجلس الشيوخ السبعة عشر الذين “ينقسمون هم أنفسهم إلى متزوجين وغير متزوجين” (ص. 13)، ولا يمكن، في نفس المنحى، لأحدهم أن يترأس هذا المجلس إلا إذا كان مرتبطا بالضريح. أما نظام القرابة داخل القبيلة فهو أكثر غرابة من الأسماء ذاتها، ذلك أنه لا يحق الزواج داخل الأسرة الواحدة إلا لمن ولدوا وفق حساب الأعداد الفردية، ذكورا كانوا أو إناثا. وهي طريقة نظامية تهدف من ورائها القبيلة إلى “تأمين الإعمار والبقاء” (ص. 13). بهذا المعنى ينكشف نظام القبيلة بطقوسها الرمزية في الولادة، والموت والزواج وغيرها من العلامات الفارقة المؤسسة للحْمة القبيلة والناظمة لها (ص. 14). ولا يستقيم النظام القبلي المسطر إلا بالخضوع التام لمجلس الشيوخ، ولميثاقها الموقع بالدم على لوحة طينية. “(…) وكانت اثنتا عشرة قطرة كافية لتبني قرار المجلس كما تقضي بذلك طقوس العهد الأكبر” (ص. 186). فإذا كان الدم ناظما رئيسا في بنية القبيلة قديما وحديثا، فإنه يتخذ داخل هذه القبيلة ميثاق شرف فوقي يُلزم الجميع على الامتثال والخضوع التامين لما يتم التعاقد حوله.
لا غرو إذن أن تكون الغرابة أساس البناء الروائي في “تل الخزامى”، إن على مستوى الأسماء أو الطقوس. فمثلا على صعيد الأخلاقيات التي تسنها القبيلة حين القران بين “سيدي” و”للّا، قضت المجالس المتعاقبة “ألا تعبّر المرأة المتزوجة أبدا عن حبها لزوجها قوْلا خلال فترة معاشرتهما ولو طالت دهرا” (ص. 15).
وتتجلى الغرابة كذلك في الأمكنة الموظفة في الرواية. فالمتمرد من القبيلة يُرمى به إلى ما وراء “هضبة الشوك” خارج تخوم القبيلة، وهو مكان سحيق عامر بحيوانات أسطورية، إنه الجحيم بجميع الأوصاف الممكنة، بينما الخاضع للقبيلة يعيش في الأمن والطمأنينة.
إجمالا، إن الرواية ملغومة بالمفارقات العجيبة والغريبة، وهو ما يدفع بالتحول/المسخ إلى حدوده القصوى داخل هذا المتن التخييلي.
2 – بنية التحول :
حاولنا في قراءتنا لبعض الروايات المغربية الوقوف على موضوعة التحول باعتبارها بنية ثابتة في السرد المغربي المعاصر (منتوج الألفية الثالثة)، وها هي تتضح في هذا النص الروائي. فالتحول يحيل على معنيين يفيد الأول التبدل والتغير، فيما يدل الثاني على المسْخ métamorphose.
يهمنا في هذا المقام، أساسا، هو ضبط الدلالة الأخيرة للتحول. إن فرضية التحول/المسخ مبررة في غرائبية الرواية حيث يكون المسخ مكوِّنا مهيكِلا من مكوناتها، وشكلا رئيسيا في بنائها العام. فحين مقاربة تمظهرات السلطة عامة داخل نظام ضبط القبيلة، على اعتبار أن سلطة الشيخ برانية، وسلطة “سعالة” اللامحدودة منبنية على المعرفة ببواطن الأمور، إذ هي الوحيدة القادرة – بعد الولي الصالح- على وهب الحياة للرجال، ومنح الشيوخ سعادة جنسية كبيرة (ص. 34)، يمكننا أن نزعم، بالنظر إلى رموز السلطة، بتحول القضيب إلى لسان امرأة. فسعالة تجسد حقا هذا الرمز، بوصفها المتحكمة في دواليب القبيلة والعارفة بأسراها الدفينة والقادرة على حبك الأحلام والحكايا رغبة في مصلحتها البعيدة. إن السلطة الذكورية المرتبطة بالقضيب تنهار في الرواية لصالح اللسان الذي يتحول هو ذاته إلى قضيب رمزي.
وللتحول لبوس أخرى في متن محكيات الرواية، وهو ما يجسده النموذج/المشهد التالي (ص. 46):
“استدرك صوت سعالة وقد أصبح خشنا لحد الإفزاع:
– لا أنا لست سعالة يا للا ريعانة، أنا برغوط بعظمه، ولحمه، ودمه.
التفتت سعالة، فانطرحت ريعانة أرضا وهي ترى أمامها وجها سحابيا ذا لحية بيضاء طافحة.”
إذ يحدث هنا مسخ هلامي لشخصية بدل أخرى. وبلغة أدق، تتلبس “سعالة” شيخها سيدي برغوط، وكأن هذا الفعل يحيل على تغيير في موازين القوى داخل القبيلة أو بالأحرى تبادل رمزي بين القضيب واللسان، حتى وإن كان هذا الأخير برانيا في حين يعود إلى الاحتجاب في العلاقات الخاصة جدا، وهي العلاقات المحرمة في نظام آل برغوط : “- لا تنسيْ يا للا سعالة أنك أصبحت عضوا في مجلس الشيوخ. وإذا لم يعتبر الشيوخ هذا الأمر بدعة، فلأنني أعددتُ النفوس لتقبل هذا الخرق السافر للأعراف كضرورة ملحّة، وكذلك تلبية لنداء سيدي برغوط كما فسّرتُ لهم (ص. 119).
إن القيمة المائزة في هذا النص الروائي هو تحولات العجيب والغريب فيه، حتى وإن كان متخيّلا في بعديه الأول والأخير. فالتحول لا يمس شخوص الرواية فحسب، وإنما أمكنتها وحيواناتها، حتى يخال لقارئ الرواية أن الشخصية المتحكمة في تحويل الرموز والعلامات والشخوص والأحلام هي المالكة للسلطة، وإن كانت غير مؤهلة نظاميا لها. إن مركزية التحول تبدو – في نظرنا- في تغيير عتبة البركة من سيدي برغوط إلى للا حنيشة. “وبدونك (للا حنيشة) ليس هناك لا سيدي برغوط ولا بركته ! أفهمت الآن ؟” (ص. 129).
وكأننا أمام خدع مثالية يجسد فيها “الشيخ الأكبر” صحبة للاسعالة سلطة قاهرة، إلا أن الخدعة تنكشف في آخر المطاف، وتنكشف معها الأقنعة الدالة على المسخ لتعود الأمور إلى مقامها الأول. مثل الطفلة حنيشة (ابنة سيدي مرقوب وللا ريعانة) التي شكلتها ونحتتها سعالة عبر إيهام الجميع بولادة حنيشة بشعر أخضر، أو باستغلال عيد ميلاد الطفلة لتلفيق حقائق تلزم الجميع بالطاعة والإذعان. إلا أن هذا الأمر سيتم فضحه وتظهير التباساته المتعددة من خلال التحول الذي وقع لبعض شخوص الرواية كفوالة، وصندر، وشهلب.
3 – بنية الحلم/ رواية الأحلام
يمكننا وصف عمل الرامي هذا برواية الأحلام. ماذا يعني ذلك ؟ فهذا التخييل الروائي ذو حمولة عجائبية وغرائبية ليس فقط في أسماء الشخوص والأمكنة بل في البنية الحكائية ذاتها، ذلك أن الحلم هو الرافعة الرئيسة لهذه البنية، أو بالأحرى هي بنية الرواية ككل، والرائع فيها هو التساوق المتناغم بين المكان والحلم، بين تأويل الأحلام والرغبة في السلطة إلى حد أن أضحى سارد الأحلام سلطة بعينها في مجلس الشيوخ. وأكثر من ذلك فالتبئيرات المتعددة في الرواية عبارة عن أحلام، حيث يكون الصراع على سلطة امتلاك ناصية تفسير الحلم. وقد يكون الحلم كذلك بداية لحكاية جديدة. إن الرواية تعجن تسلسل الأحلام إلى حدود يبيت معها الحلم في الأخير وهما من أوهام السلطة.
فهذا التسلسل العجيب لحكي الأحلام لا يستقيم إلا حين وقوع الأزمة، أزمة ما في السلطة ومحيطها، إضافة إلى كونه بوصلة السارد يرتق به الفصول والشخوص والأمكنة.
والحلم في تقليد التحليل النفسي هو مصدر الحقيقة. فهو لا يقدم نفسه بوضوح بقدر ما يختفي وراء الكلمات والأشياء، كما وراء الشخوص وواقعهم المادي. إنه – كما تظهره الرواية – خدعة يرغب الحالم من وراء سردها مصلحة معينة. ويتمثل ذلك في الصفحات 24، 29، 39، 57، 71، 82، 91، 86، 62). “إن الحلم خطاب من سيدي برغوط، يجب أن ندركه ونعمل به، وإلا سقطت علينا الصخرة العظيمة !” (ص. 91). إذا تابعنا سيرورة الأحلام في هذه الرواية، سنتحصل على المصدر الذي تتأسس عليه والمتجسد في سيدي برغوط، الضامن القوي لتدبير سياسته القبلية من خلال أحلام شيوخها. واللافت للنظر، من جانب آخر، هو مركزة الأحلام عند للاسعالة، هذه المرأة المالكة لقوى خارقة، إن على مستوى تفسير وتأويل الأحلام أو توجيهها نحو ما تريد الوصول إليه، وكذلك لمعرفتها اليقينية بمجاهل القبيلة، هي القريبة من ركيزتها الأساس المتمثلة في ضريحها المقدس، والتي بإمكانها وهب سعادة خاصة لشيوخ القبيلة…
إنها المرأة المالكة للنجوم، والليل، وتفاصيل المخبوء. ولأنها كذلك، فالرغبة في خرق محرم القبيلة لا يستقيم إلا بإبداع الأحلام وروايتها، أو بالتواطؤ مع آخرين لخلق أحلام أخرى يكون فيها سيدي برغوط شاهدا عليها.
إن تفكيك البؤر الحكائية المستندة إلى الحلم يحيل على مسألة رئيسة، وهي البحث عن الاكتمال، والقطع مع النقصان الذي تعيشه بعض الشخوص الروائية كسعالة وفوالة، وصندر، وشهلب… وهؤلاء غير متزوجين ومحرومون من ملامسة النساء حتى وإن كانوا يمارسون الجنس خفية، أو على الأقل يمارسونه برعب شديد: الخوف من نظام القبيلة الصارم الذي لا يبيح لهم الزواج، من جهة، والتوجس مما قد يصيبهم من سيدي برغوط/سيد القبيلة، من جهة ثانية. بين التحريم والمآل إمكانيات للخرق، وهي الإمكانيات التي عرفتها البشرية منذ بداية الخلق إلى يومنا هذا. وتكون البداية في المخيال الجمعي امرأة/حواء. أما في الرواية الغريبة (تل الخزامى)، فمصدر الخرق والخطأ هي سعالة، وكأن سر المرأة نابع من امتلاكها للخدعة، وامتلاك هذه الأخيرة يفيد تملكها للسلطة.
ذلك أن السلطة الحقيقية في المجتمع هي للمرأة بينما الرجل لا يمتلك سوى الظاهر والقانون والنهار. إن الرواية تقيم هذا الخلط العجائبي مثلما تموسقه بنوتات الغريب والمدهش. وبذلك تفتح “تل الخزامى” نافذة أخرى في الرواية المغربية.
4 – بنية الخدعة :
لقد حاولنا النظر إلى الخدعة، في ما سلف، في تجلياتها المتعددة وبنياتها الرئيسة. وإذا كانت الخدعة عنصرا مركزيا في الرواية الكلاسيكية أو في النصوص الكبرى في السرد العربي، فإن الكاتب اشتغل عليها هنا من خلال طريقين مفتوحين على التظهير والتوضيح. فالخدعة تنبني على الغريب ما دام هذا الأخير يتضمن الأولى، إلا أنه، في سياق آخر، يبدو أن السارد أعيته الحكاية، وأراد إنهاءها بكل الطرق إمكانا حتى وإن كانت له اختيارات سردية متعددة. إلا أنه رأى في تبسيطها وتوضيحها أنموذجا ممكنا يستقر إليه القارئ في نهاية الرواية حيث ينفضح الجميع، وتتجلى حقيقة شَعر حنيشة، وموت خليلة شهلب، وخرق عقل صندر، ونهاية فوالة، وانتحار سعالة مدبرة الخدع. هكذا ينكشف الجميع، الراوي وشخوصه، مثلما ينكشف الروائي عبد الوهاب الرامي بين بساطة العنوان وغرابة الرواية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.