إن عنوان الرواية عتبة أولية تضيء النص مثلما تضع القارئ على حافة الرواية. بمعنى أنه المصيدة التي يضعها الكاتب أمام قرائه إذ اعتبرنا أن ثمة مصائد كثيرة يضعها الكاتب لنفسه تارة ولقرائه تارة أخرى تدعونا الرواية الأولى لحسن بحراوي، والموسومة «بالنمر الفيتنامي» إلى الوقوف مليّا أمام موضوعة التحول، وهي موضوعة ما انفك الكتاب المغاربة يهتمون بها بشكل أو آخر، وهم تارة يفعلون ذلك بوعي فيستثمرونها، ويتمثلون تضاعيفها وإوالياتها، ويمسكون بمكامن تفعيلها في الكتابة الروائية، وتارة أخرى يلامسونها بأقل قدر من الوعي. لكن الموضوعة تلك تفتح لنا إمكانية قراءة هذا العمل الروائي تاركين للنقد المغربي عناية التمحيص، والتدقيق فيها نظريا وإجرائيا. ذلك أن أغلبية الروايات المغربية في الألفية الثالثة تشتغل عليها. كل رواية تحصرها في فضاء معين. وبقليل من الدقة نقول إن التحول هنا يفيد معنيين: أولا دلالته على التبدل والتغيير في الزمن و المكان، في الشخصية بتلويناتها الاجتماعية و النفسية...وثانيا معنى المسخ الذي تعلنه ضمنا أو صراحة. مسخ يقذف بقرائه إلى العجيب و الغريب، مثلما يعطي للتخييل الروائي أفقا أرحب للقراءة والتأويل. وإذا كنا سنحاول التركيز على هذه الموضوعة في ثنايا هذا النص الروائي بشكل بيّن فإن القراءة تقتضي منا الوقوف على عتباته الرئيسة التي هي منطلق ما فتئ النقد يوليه الاهتمام كما لو كان مفتاحا من مفاتيح القراءة، أو على الأقل طريقة لتفكيك ملغزات النص، وما يقوله، وما لا يقوله كذلك. صحيح أن أي نص روائي يعرض على أنظارنا طائفة من التفاصيل الأولية والتي تدخل ضمن عادات إنتاج الكتاب. نخص بالذكر العنوان، واسم الكاتب، ولون الحروف و الخلفية البصرية، إضافة إلى صورة الغلاف وما تحمله من دلالة تشحذ فضول القارئ، أو على العكس تنفّره وتكون مصدر تذمّره...إلخ. إن عنوان الرواية عتبة أولية تضيء النص مثلما تضع القارئ على حافة الرواية. بمعنى أنه المصيدة التي يضعها الكاتب أمام قرائه إذ اعتبرنا أن ثمة مصائد كثيرة يضعها الكاتب لنفسه تارة ولقرائه تارة أخرى. وكل مصيدة تُخفي وراءها حرفية صانعها ومبدعها. لماذا نقول عنوان هذه الرواية مصيدة؟هل هو متضمّن لاعتباطية ما، أم لأنه يقف شاهدا بين الكاتب وقرائه؟ نقول ذلك لكوننا نعي جيدا أن العنوان يستقطب فضول القراء، وهو بذلك يشكل لحظة للتفكير والتأمل. ف(النمر الفيتنامي) يقدم لنا هذه الإمكانية ليس لوضوح الاسم والصفة بل لغرابتهما معا. فالنمر معروف في قاموس الحيوان، والفيتنام دالة جغرافية وتاريخية. لكن يمكن أن يأتي كاتب آخر ويكتب عن النمر الياباني أو المغربي.... مثلما هو الأمر مع الشريط السينيمائي «الكلب الأندلسي» وقصيدة كفافيس التي تحمل نفس العنوان... إن العنوان بهذا المعنى يعدّ المسؤول عن شعرية خبيئة ويساعدنا على اقتحام الإمكانيات المتعددة للتأويل. هنا يكون العنوان بمثابة مصيدة أو شرَك يفرض علينا فتح الرواية ومتابعة روّاتها من الصفحة الأولى إلى الأخيرة. هكذا يبتعد الكاتب قليلا عن تلك الاعتباطية المفترضة، ويجعل من عنوانه موضوعة للحكاية السردية، حيث يحضر ذلك (الحيوان) في الرواية بلحمه ودمه، ويتبدل من قط إلى نمر، ومن ياباني إلى فيتنامي..بحيث يصير العنوان بؤرة رئيسة في هذا العمل. وكأن الكاتب يريد أن يصالح قراءه، سواء بإبعاد المصيدة الأولى إلى جزئيات سرده. أو لكي يقول لهم بلسان حاله: أني أعتذر لكم لتوقف طال (أكثر من ثلاثة عقود) عن كتابة القصة والحكاية. إذا اعتبرنا الفرضية الأولى متضمنة في النص الروائي.. فإن الثانية غير معلنة-صراحة أو ضمنا- بمعنى أنها تمثل لاشعور الكاتب. ذلك أنه من الصعب علينا إعادة رسم بورتريه جديد لكاتب لم نعد نقرأ له القصة منذ مدة طويلة. وكأننا نسيناه كقاص ولم يعد في وعي القراء أكثر من باحث أكاديمي بتفاصيله المعروفة. هكذا تكون المصالحة المزدوجة لكاتب نسيته الذاكرة الأدبية ولم يعد سوى أيقونة مودَعة في أرشيف جيله. إن حسن بحرواي، إذن، يعيدنا إلى نسيانه، عبر ممكنات المصالحة تلك، ولأجل ذلك قرأت الرواية قراءة خطية مباشرة، ليس من أجل ربط الماضي بالحاضر ولا الأرشيف بالذاكرة ولا الحضور بالغياب، وإنما بهدف البحث عمّا يفصل الكاتب عن عنوانه أي عن المسافة الروائية بالذات. وعبر هذا المسعى سيكون بإمكاني أن أقيس الكاتب داخل تلك الثنائيات المذكورة أي عمليا سأباشر مقايسة الكتابة ذاتها ما دام سؤال الكتابة هو الجمر الذي يلهب صاحبها وقراءه معا. فهو اشتغل على تقنيات متعددة، قد نطلق عليها اختصارا تقنية الورق، وهي لعبة انشغل بها كتاب الواقعية بشكل دقيق، إلا أن بحراوي سيعمد إلى تفجير تلك الواقعية الموروثة عن الأولين من داخلها، إنه يختار الكتابة في العراء، فأوراقه تمّ حرقها بلغة هذه اللعبة. ولتوضيح الأمر فالكاتب الواقعي يحدد شخوصه وأمكنته و أزمنته في أوراق متعددة بشكل مفكر فيه كما نجد ذلك في روايات نجيب محفوظ مثلا. هذه الطريقة تكون خفية، والكاتب لا يعلنها للعموم، وكأنها بصمته الإبداعية. بينما صاحب «النمر الفيتنامي» يعلن ذلك ويقدم شخوصه أمام الجميع كما لو كان في مسرح الشارع أو الهواء الطلق حيث لا وجود للكواليس ولا الإضاءة... وحيث يختلط الجمهور بالممثلين. كما تنزع هذه التقنية نحو التحقيق البوليسي حتى و إن كان هذا الأخير محجوبا على العموم في مكتب المحقق، إلا أن كاتبنا فضل خرق حجاب الكتابة وفضح مطبخها أولا بأول مقدما لنا روايته بنكهة يختلط فيها العجيب والغريب. ومنذ أول وهلة تبدو لنا الرواية موغلة في واقعيتها عبر حدث القط المتشرد في المرسى، وواقعة نقله إلى بيت الرجل الصحراوي كي يكون مؤنسا لأطفاله، أي ذا نفع ما في البيت. غير أن هذا الوضع سيطاله التغيير الانقلابي بشكل مفاجئ حين يتحول الحيوان في النص من قط إلى نمر، وسوف يكون هذا التحول مصحوبا بانتقال في المكان، وبالضبط من الفوق إلى التحت، أي من البيت إلى القبو. وهذا الأخير سيعتبر حجابا أوليا للتحول، و هو لم يكن كذلك إلا حين ظهور علامات تكشف تغيّر هذا الحيوان (أكله لديك الجارة مثلا). واللافت للنظر هنا هو عجائبية الحدث، وإذا كنا نعتقد بأن هذا المسخ نوع من الإحالة على عالم الجن الذي ينتعش بالخرافة وما إلى ذلك فكيف نفسر واقعيا هذا التغيير الذي سيقلب الحكاية رأسا على عقب؟ وبتأملنا في العلاقة الغريبة بين النمر، والفيتنامي، سنحصل على غرابة مزدوجة. أولها نسيان النمر حين رست الباخرة الفيتنامية في ميناء المدينة، وثانيها كون هذه الجغرافيا البعيدة حاضنة لمجهول مغربي قديم لم يتم حكيه بعد. بُعدان يلتقيان في ما تبقى من الرواية خاصة مع استذكار أبا عمر عامل الحديقة لماضيه العسكري في صفوف جنود الهند الصينية. إلا أن بعض القراء سيعتبرون نقل النمر من البيت إلى حديقة الحيوانات بمثابة البداية الحقيقية للرواية، وكأن البؤرة الحكائية تنطلق من هناك بالذات. ليس فقط بسبب وضع حدّ للعلاقة الحميمية بين أولاد الصحراوي و النمر، و إنما فيما تقدمه شخصية» باعمر» من أفق مفتوح على كل الممكنات. إن هذا النقل وما ترتب عنه فيما بعد هو خميرة هذا العمل الروائي. نذكر هنا مثلا مقتل « عز الدين» على يد طائفة سيدي مومن والمضاعفات التي خلّفها في الزمان و المكان، كما نحيل على تحوله من كائن بسيط إلى منشغل بالسياسة و النقابة في هولندا، ثم أخيرا إلى مستثمر في المغرب. وهذا الانتقال سيفتح شهية الكاتب إلى التحقيق البوليسي لارتباطه جدلا بمقتل النمر. ثمة علاقة مطمورة بين الحديثين، فعز الدين الذي يُشهر إلحاده على العموم، هو في النهاية المسؤول عن قتل النمر عندما غادر حديقة الحيوانات إلى الخارج ووجد نفسه في تماس مع الآخر. لكن التحري في أسباب اغتيال عز الدين سينحو منحى آخر لكون هذه الشخصية محصّنة بالجنسية الهولندية، ولأن الأمر كذلك فالتحقيق سيكون شاملا لكل الذين يرتبطون به وبخصمه النمر بأقل علاقة ممكنة، خاصة أبّا عمر ورجل الحلقة وهما شخصيتان تتقدمان في هذا النص السردي بعراء واضح. ذلك أن الأول يقذف بنا مباشرة إلى تاريخ المغرب وهو تحت الاستعمار ثم وهو (ينعم) بالاستقلال، فعلاقته بالمستعمر الفرنسي يؤثثها خوضه للحرب الفيتنامية، بينما الزمن الآخر يحيل على ما يسمى بسنوات الجمر و الرصاص المغربية. أما رجل الحلقة فأعتبره شخصية مائزة في هذه الرواية، بفضل ما يكشف عنه من تفاصيل حكائية لا تدل فقط على القمع الذي أصابه، والسجن الذي أودع فيه، بل بإحالته على ذلك العالم الرمزي الذي يتحرك فيه والمسكون بشخصيات أيقونية من قبيل ابن خلدون وطرزان و حي بن يقظان وصولا إلى أولياء الله الصالحين. إن هذه الشخوص هي المرايا التي يقتات منها في الحلقة، بل أكثر من ذلك بالنسبة إليه: إنها وجوده برمّته. وكأن الحكاية هي التي تمد الإنسان بالحياة. فاتهام الحلايقي بالقتل، واعتقاله على ذمة التحقيق إشارات لموته. هل يعني أن زمننا المعاصر لم يعد فيه معنى للحكاية؟ قد يكون هذا صحيحا في زمن معولم لا يقبل بوجود ذاكرة أخرى هي ذاكرة الحلايقي التي لا تروق صراحتها وهجنتها المحققين. تدفعنا هذه الحكاية لتأمل النهاية في تشكيلاتها المتعددة والتي ستتولد منها دلالة الإرهاب. أو على الأقل أن الإرهاب هو مفعول من مفاعيل نهاية الحكاية. قد يكون ذلك إشكالية فكرية تليق موضعتها كسؤال في الراهن المغربي. لنترك ذلك جانبا، ولنبحث على تحولات الشخوص من و إلى، وقد ذكرنا بعضها بينما ظلت شخصية الصحراوي ومنير مفتوحتين على كل الاحتمالات. فالأول يقدمه السارد بالألوان، ويتابع تحولاته من مسقط رأسه إلى نزوحه إلى المدينة، ومن موقع مهني إلى آخر، و من عازب إلى متزوج، ومن عامل بسيط إلى مسير... إلا أن اللافت في هذه الشخصية هو عشقها للمتلاشيات المرمية على قارعة الطريق وفي المرسى، والذي سيكون القط/ النمر إحداها. بينما شخصية منير تروم الغرابة في الراهن المغربي، فهو ابن تادلة الذي لم يكن هناك شيء يؤهله لكي يصير صيدليا. وهو التحول المحفور في الذاكرة. إلا أن الجميل في هذه الشخصية هو عمله على تحويل جثة النمر الميت إلى نمر مقنع بالحياة أي محنط. هذا التحفيظ سيحدث قلبا في الرواية. ليس للاحتفال الذي أقيم له في بيت الصحراوي، وليس في حكاية الحلايقي و إنما في انزعاج السلطة من هذا الذي يسمى تحولا ( ص23). لا مراء إذن من ضبط هذا التحول في كل صفحة من صفحات هذه الرواية. ولكي أكون أكثر دقة نؤشر على الصفحات التالية على سبيل التمثيل لا الحصر: تحول عز الدين من عامل بسيط إلى مناضل نقابي و سياسي ( 78). تحول باعمر من جندي نكرة إلى مقاوم بالاسم في الفيتنام ( ص 94). تحول جورج لاباصاد من عالم اجتماع لاديني إلى مريد لزاوية ركراكة ( ص 108). تحول المرأة المراكشية من دمية إلى امرأة حقيقية ترفّه عن رجل الحلقة (ص112)..وأخيرا تنازل أب منير عن أسرته في أعقاب هجرته إلى إيطاليا ( 114)..إلخ. إذا كانت هذه الصفحات تمثل أمثلة ومظاهر للتبدل العادي الذي يطرأ على الشخصية والمكان فان التحول كمسخ يتجلى لنا في الزمن المغربي الذي راكم مسوخا متعددة نذكر من بينها ما طرأ على المناضل النقابي في زمن الاستعمار و الاستقلال وكذلك على التحول الغرائبي والعجائبي في شخصية الحلايقي وعالمه الرمزي، والمتمثل في الحلم و المرأة المراكشية. إنها العلامات البارزة بقوة في هذا العمل الروائي. لنقل بقليل من المكر أن جدة هذا العمل الروائي تمكن في كتابته. نعني بذلك التقنيات المستعملة فيه، والتي ذكرنا بعضها إلا أنه مع ذلك يبقى سؤال خرق حجاب الكتابة هو البؤرة الرئيسية في هذا العمل، والذي نتركه لقراء آخرين للنبش و الحفر فيه رغبة في تعرية لا شعور الكاتب. * حسن بحراوي النمر الفتنامي، منشورات سليكي أخوين، طنجة،2016.