تحدق في البحر. لاشيء سواه بأمواجه المتلألئة، المنسربة على الشاطئ كعذراء تمشي على استحياء. لا أعرفك ! أكيد لا أعرفك. لا أرى منك سوى قفاك وظهرك. قد تلتفت وقد لا تلتفت ما يهمني منك هو حلولك في الماء. مثلي إذن ! عاشق .. عاشق للبحر. ثاو على الرمل، مول ظهرك لي وللجديدة برمتها. ليس فيها جديد .. كل شيء تناثر وظل هذا الجزء من المحيط. بحرها ماء وجهها. تبعد عني بأمتار، أنا الواقف جنب الحائط القصير ورائي خراب مقهى « نجمة المحيط «. لم تعلم أيها الجالس كم وليت ظهري البحر وأطلقت سمعي للنغمات الخالدة تقطر كالعسل من فونوغراف هذا المقهى في مستهل السبعينات. كنت فتى غض الإيهاب طري العود. على ذكر العود هنا شنفت سمعي تقسيمات فريد الأطرش امتزجت بالبحر والهواء والرمال وفسحة السماء. اللحن يتراقص كخصلة شعر، كغفوة طفل يضحك مع ملائكته. وراء المقهى حديقة محمد الخامس، من أقدم حدائق المدينة بأشجارها الباسقة، شجر الأروكاريا الشامخ. كانت تسمى حديقة « اليوطي». بين أشجار لاروكاريا عرفت أول خفقة قلب، أول دفقة شعور، أول ضربة نار. ماشيا ، ما بي وما علي، كعادتي أسرح رجلي وناظري في الزهور والربيع والأشجار. وبعدما أتعب من رؤية البحر وسماع الأغاني من فونوغراف مقهى النجمة، أتخذ لي مقعدا هنا. أشرع في التأمل أو القراءة. لم أتخذ صاحبا. فرحتي اختلاء بالنفس. أدخل السينما وحدي أجوب الشوارع وحدي وإذا ما التقيت بأحد أختلق الأعذار وانسرب منه مرتميا في أحضان وحدتي. أنشودتي: العزلة والعزف على أوتار الوحدة. لمحتها. تتهادى في مشيتها. تبادلنا النظرات والعبارات. أحسست بشيء في صدري يشبه البرد، الارتعاش، العرق، الخفقان، تماس حراري، نطفة لهيب أدفأت صقيعي وأغلت مائي الراكد. هذا ما أحسسته. تبادلنا الكلمات وانفك عقال اللسان. اكتشفت أنها تكتب الخواطر ومتيمة بالمنفلوطي وجبران. تبادلنا الكتب، قرأنا الخواطر على بعضنا البعض.. تبادلنا أجمل صيف. أوشك الفصل على الانتهاء. جاءتني ذات مساء بوجه كالح منكسر النظرات استغربت وكأن رنين صوتها ما يزال يطن: – حميد لن أراك بعد اليوم . – ولم ؟ – سننتقل إلى تازة ! – أبي نقل إلى هناك مهنته تحتم عليه الانتقال.. – وتتركين الجديدة؟ – مسقط رأسي وأنشودتي ثم استسلمت للبكاء. واجما في قفص الحيرة، نازحا نحو النسيان بين المطرقة والسندان. هنا وراء ظهرك أصبت بأول طلقة نار من فوهة البركان. ترى هل أنت ثاو على الرمل شاك للبحر اضطراب خواطرك مثلي؟ رحلت ولم تبعث لا سطرا ولا كلمة. تلاشت في المكان والزمان. كأنها لم تكن. حينما تداهمني عجلات الوقت أفر منها إلى هنا مثلك أفرغ قمامة الأحزان بين ردهات الأمواج. في الحديقة. أتحسس صورا من الماضي كل الصحاب مروا من هنا. أراهم الآن يمرقون في السيارات والدراجات وكثير منهم حفاة عراة يتسكعون في الدروب يحتسون الكحول. ومنهم من وضع حدا لعقله. ومن باع نفسه لكل شيء. غزا الشيب فوديهم وسقطت بعض أسنانهم وذبلت جفونهم ومنهم من كبرت بطونهم وانتفخت جيوبهم وصعدوا الحياة من السلم الخلفي. منهم من قضى نحبه ومنهم من لم ينقض نباحه. يكفي أيها الجالس الذي يرقب البحر أن تخطو خطواتك في هذه المدينة خصوصا إذا زحفت عقارب عمرك نحو الأربعين كي ترى الفرق الهائل ما بين الجديدة والجديدة. تجر وراءك ذكريات ضخمة. يكفي أن تجلس أمام البحر. تاركا حديقة محمد الخامس وراء ظهرك تتأمل، لتعرف الحقيقة. لتعرف الفتى الذي ودعته حبيبته، الواقف وراء السور القصير للشاطئ يتتبعك بناظريه وأنت ترقب البحر. لا أرى منك سوى الظهر. تذكرني بحنظلة ناجي العلي. تمنيت لو أكتشف دواخلك. وما يجول في ذهنك . في مقتبل العمر. لا يعرف شيئا عن الحديقة ولا مقهى نجمة المحيط ولا قصة حبي ولا رحيل أول طلقة ولا المدينة. لهذا أنت قريب من البحر. ليس بينك وبينه سوى أمتار معدودة. أخمن.. أنت غاضب من أبيك لأنه لم ينفحك نقود الجيب. أو تنتظر صاحبتك. أو السفر إلى ما وراء البحار. أو في حذاء رياضي. أو بذلة جديدة. تتأمل البحر. إذا تحول إلى « بيصارة « كم يلزمه من خبزة؟ فيم تفكر إذن؟ سأقترب منك وأطلب عود ثقاب وأحاول أن أعرف شيئا عنك. قد تجاذبني أطراف الحديث. قد تمتنع. قد، تفر مني .. قد .. هممت بالتوجه نحوك. جمدت مكاني. التفت يمينيا وشمالا. لم أجدك. متى نهضت ولم أرك. أغفلت عنك حينما كنت أفكر في. تضببت الرؤية. حان الغروب. هل بالفعل كنت هنا؟ – متى نهضت؟ – هل ابتلعك البحر؟ أم شبه لي؟ عجيب أمرك ! أما كان لك أن تنتظر لأحدثك عن أشياء أخرى. عن المنحوتات التي تزين الحديقة عن تمثال ابن المدينة « محمد العادي « وتمثال الروسي « فادمير « و « شارلي « و « ريمون « و « باتريك « و «ألفريد سيبوس» و « أنطوان سيبوس» و «ليجسلاف» و «إكرام القباج»… من هنا مروا. تركوا بصماتهم وراحوا. لم يبق سوى النحات « محمد العادي « هل تعرفه؟ ! قد تجده الآن منزويا في محترفه، متبتلا، زاهدا، ينحت المدينة ويغرس عروقه في كل مكان. أجلس إليه من وقت لآخر نتحدث عن مأساة الفنون نجرع الكلام مع كؤوس القهوة السوداء ونضحك على العالم. إنها مرارة الكأس ! الحديقة ما زالت تنبض بالحياة رغم شيخوختها. ليتك انتظرت فما زال في جعبتي الشيء الكثير. لقد تسرعت وتركت مكانك خاليا. ما كان عليك أن تتركه. ما كان عليك …