طاف الشوارع والأزقة لعله يجد مكانا يركن فيه سيارته، بدأها من «ساحة تاسع أبريل» الكبرى مرورا ب»باب الفحص» و»باب طياطرو». مسح المكان مسحا ولا وجود لشبر واحد بجانب الأرصفة الممتدة لكيلومترات. كان عليه أن يعثر على هذا المكان ليقضي بعض الأغراض في سوق الدكاكين المتواجد بسوق الداخل المعروف عند أهل طنجةبالمدينة القديمة؛ سوق دائم الحركة والاكتظاظ بالمارين والمتسوقين والمتاجرين بالأوراق النقدية «الصرافة»، تتفرع منه أزقة ضيقة وممرات ملتوية تؤثثها طوابير من المتاجر والبازارات والمقاهي من أشهرها مقهى «الرقاصة»، و مقهى «سنطرال» ملاذ صاحب رواية الخبز الحافي «محمد شكري» في مراهقته المضطربة. الشارع الرئيسي لهذا السوق يؤدي مباشرة إلى المسجد الكبير ومنه إلى الشرفة الإسمنتية «برج الحجوي» بدار الدبغ المطلة على الميناء. كان الحي كله قبلة للسياح الأجانب، يرتادونه بكثافة للتلذذ بشرب الشاي المشحر على الطريقة المغربية داخل مقاهي تقليدية بسيطة خالية من المساحيق والأبهة، والاستمتاع بأنغام عربية تطلقها أوتار آلة العود وقصبة الشبابة. تغيرت الأحوال فأضرب هؤلاء السياح والكتاب عن هذه البقعة الأرضية الدولية التاريخية التي كانت تميز مدينة طنجة عن غيرها في فترات معينة من أمجادها. وتحولت صفوف المتاجر المتراصة التي كان الخطاب يقصدونها بحثا عن خواتم القران والهدايا الذهبية الخالصة، إلى المتاجرة في العملة الصعبة بشكل سري، وتبييض الأموال، قبل أن تستفيق الدولة من سباتها العميق وتعمل على تقنين مهنة هؤلاء الصرافة وتحد من هذا الريع الذي عمر طويلا. كان يستجمع أفكاره ويضرب أخماسا في أسداس محاولا حصر المبلغ الذي سيحوله إلى الأورو، وهو لا يزال يبحث عن مترين بجانب الطوار يحوي سيارته لمدة وجيزة. أعياه البحث وبدأ الملل يتسرب إلى نفسه. كاد أن يعود أدراجه عندما لاح له حيز شاغر عند نهاية شارع الحسن الأول المؤدي إلى باب طياطرو؛ وهي أقرب نقطة تفصله عن هدفه. تنفس الصعداء. أسرع لاقتناصه قبل أن يملأ. الساعة تشير إلى العاشرة والنصف من صباح يوم السبت من شهر مارس، وهو الوقت الذي أنهاه لتركين سيارته في هذا المكان الذي اعتبره آمنا، أو هكذا خيل إليه. ترجل مسرعا بعد أن اطمأن على وضعيتها السليمة قانونيا؛ لا وجود لأي إشارة للمنع، ولا أي شيء يثير الشبهة، كما أنها متواجدة بين مجموعة من السيارات والعربات. ثم قصد صرافا صديقا له كان يدرس معه في بداية سبعينيات القرن الماضي؛ امتهن هذه المهنة بعد أن ترك مهنة التعليم بإرادته، وخير ما فعل لنفسه ولأسرته، كلما قارن نفسه بالوضعية المالية المريحة التي أصبح يتمتع بها. في البداية فوجئ لتحوله المفاجئ من مهنة محترمة كموظف رسمي مع الدولة، إلى بائع للذهب داخل علبة لا تتعدى مترا مربعا واحدا. ولم يستوعب الوضع إلا بعد مضي بضعة أشهر فقط على تسلمه لهذه المهنة بمساعدة أخيه الذي كان يمتهن بيع الذهب في العلن وصرف العملات في الخفاء، وراكم من هذه الحرفة ثروة هائلة كان لها الأثر البين على النعمة التي ظهرت على أخيه «صديقه»، الذي تمكن في وقت وجيز من بصم اسمه كبائع محترف للذهب. وفي نفس الوقت يقوم بصرف العملات التي أصبحت مهنته الأساسية، بعد أن أضحت مهنة معترفا بها من قبل الدولة. انضم هو بدوره إلى قائمة زبنائه وقصده في ذلك اليوم المشؤوم لصرف ما يحتاج من العملة المغربية إلى الأورو، وذلك استعدادا للقيام بجولة سياحية مع زوجته إلى مدينة «مدريد» بإسبانيا. لم تستغرق مدة الصرف الوقت الكثير، وعاد أدراجه مسرعا إلى حيث ركن سيارته. ولكم أن تتصوروا كم المفاجأة الصادمة التي دبت في كيان إنسان لم يجد سيارته في المكان الذي وضعها فيه وهو مقبل بعد يوم واحد فقط إلى السفر خارج أرض الوطن؟! أصيب بحيرة شديدة وهو يجول بنظره محدقا على طول الطوار لعله يرمقها من بين السيارات الموجودة هناك، فربما أخطأ التقدير في تحديد مكان الرسو. لاحت له عربة بنفس لون وشكل سيارته؛ فرح..هرول في اتجاهها.. لكنها ليست هي.. يا للهول ماذا حدث لهذا العالم؟ أين اختفت السيارة؟ هل سرقت في عز النهار؟ لم؟ وكيف؟ كاد أن يصاب بالدوار. تبعثرت الأفكار في رأسه وخارت قواه. مال متكئا على العمود الكهربائي الوحيد الذي كان شاهدا على مجريات الأحداث. على الرصيف المقابل تقف سيارات الأجرة متراصة. عبر أحد السائقين الشارع، دنا منه وصرح بدون مقدمات: – هل فقدت شيئا أيها الأخ؟ – سيارتي.. هل رأيتها؟.. رررأيت من سرقها؟ – لقد اصطادها «بوعميرة» قبل أن تصل أنت بقليل.. – ومن هو «بوعميرة» هذا، هل هو لص؟ أتعرفه؟ أجاب بانفعال. ابتسم السائق وأجاب: – «بوعميرة» طائر مشاكس، قوي، يفاجئ الطيور وينقض عليهم بدون رحمة، شجاعته تجعله يخطفها من الأقفاص حتى وإن وجدت داخل المنازل. الناس هنا يشبهونه «بالديبناج» التي تتصيد عبر طاقمها السيارات والعربات في وضعية مشبوهة. ينقض عليها على حين غرة، ويجرجرها إلى»الفوريان»؛ وبأدبيات المجالس المنتخبة يسمونها «المحجز البلدي»؛ مكان أشبه بسجن احتياطي تتعايش فيه الحيوانات الأليفة والضالة مع السيارات والدراجات التي تدخله معافاة وتغادره مصابة بأضرار. – وكيف حدث ذلك في وقت وجيز؟ – يبدو أن أحدهم اتصل بالطاقم الذي أحكم قبضته المميتة على سيارتك وفر بها إلى مملكة المحجوزات. لهذا المكان خصوصيات يا سيدي؛ عيون خفية، متربصة، من بعض أبناء مهنتي. ومن ملاكي هذه المحلات التجارية والمقاهي المصطفة وراءك.. إنهم لا يحبون السيارات الغريبة التي تقف أمامهم. وإذا حدث ذلك يتصلون على الفور ببوعميرة.. فالبعض منهم مزود بأرقام هذا الطاقم وهم من يدلونه على مراعي الصيد. – بياعون.. شكامة..!؟. – لست أدري، ربما.. تمتم وهو يهم بالعودة من حيث أتى.. – هل يمكن لك أن تساعدني وتدلني على مكان هذه الخردة التي ذكرت؟ تفوه متوسلا. توقف الرجل. استدار وهو يقول: – أنصحك بأخذ طاكسي أجرة على الفور، الوقت ليس في صالحك، عليك أن تسرع وإلا بقيت سيارتك محجوزة ليومين متتاليين.. صاح !!! – هل يمكنك أن تدلني على المكان؟ سأدفع لك ما تريد.. ركب بجواره. يرثي حاله وحال أبناء بلده. لم يستوعب مطلقا بأن هناك خلية متيقظة تبدأ بالحارس وتنتهي بآليات بشرية أخرى في غياب أي نص قانوني ينظم هذه الفوضى، كيف تخطف العربات والسيارات بدون إشعار أصحابها؟ انكمش فوق الكرسي والتزم الصمت.. وهما في طريقهما للبحث عن الفقيدة، خاطبه السائق قائلا بلباقة: – هل بحوزتك أوراق سيارتك؟ – إنها موجودة في موضع آمن بداخلها.. – لايوجد أمن ولا أمان داخل الفوريان ولا في أي مكان آخر. عليك دوما أن تصطحب الأوراق معك. إننا في عالم موحش، مسود، مظلم، لا رأفة فيه ولا أمان «للي جات فيه مشى» خاصة من الضعاف أمثالنا.. صمت واستطرد: – كان بإمكانك الذهاب مباشرة إلى قسم الحوادث بالكوميسارية، إنهم يعملون استثنائيا يوم السبت إلى حدود منتصف النهار. لم يبق الكثير من الوقت علينا أن نسرع.. توقف أمام ما يسمى بالمحجز البلدي وقبل أن يطلب مستحقاته ترجاه بأن ينتظره. ثم قصد على التو بابا حديدية مهترئة، يغلب عليها الصدأ. كانت موصدة وطرقها ثم أعاد الطرق لمرات متكررة قبل أن يبرز وجه مكفهر من فتحة صغيرة بأعلى الباب وهو يصرخ: – من الطارق، ماذا تريد؟ – أبحث عن سيارتي أتى بها أحدهم إلى هذا المحجز. أريد أن أسحب حاجياتي منها. سمع قزقزة الباب وهي تنفتح ليبرز من فتحتها الشخص الذي تفحصه من النافذة الحديدية الصغيرة، وقد خفض شيئا ما من توتره: (يتبع) – السيارات التي تم حجزها في هذا الصباح كثيرة. ما نوع سيارتك؟ – «بوجو …» شهباء اللون. دخل إلى بيت صغير ملتصق بالباب. نادى عليه وأوضح: – السيارة التي ذكرت كانت آخر من تم استقبالها في هذا المحجز . يمكنك البحث عنها في أعلى هذا الممر. تاه بين ثنايا مسلك غير مزفت، غارق في العتمة والضياع ، مملوء بالأتربة والأحجار، ينخفض من جانب ويرتفع من آخر. بالكاد يتسع لعربة واحدة تمر بين أكوام من السيارات والدراجات الهوائية والنارية المنتشرة على طوله. عندما وصل إلى الأعلى اصطدمت نظراته بمشهد مقزز؛ سيارات من مختلف الأنواع والأصناف ملأت عن آخرها رحاب هذا المكان النتن، مركونة بشكل عشوائي بدون نظام ولا انتظام، اكسسوارات بعضها مبتورة. كل ما خف وزنه وغلا ثمنه يتم السطو عليه. منها من قضت نحبها بعد أن تخلى عنها أصاحبها مكرهين، ومنها من تحولت إلى متلاشيات وحطام لم يتبق منها إلا شكلها الخارجي وإطار العجلات الغائرة في التربة من كثرة الاهمال. جال ببصره هنا وهناك وهو يتقدم ببطء بين هذه الكائنات الجامدة التي ترثي حالها في صمت رهيب. وإن استطاعت التكلم فإنها ستلعن «بوعميرة» الذي تسبب لها في هذا الحجز الملعون. وأخيرا لاحت له مركونة قسرا في حيز ضيق من حافة منعرجة، لم يعرف كيف استطاع بوعميرة أن يستتبها هناك. استجمع أنفاسه. دنا منها. فتح الباب بصعوبة وأخذ ما يريد ثم عاد أدراجه ليتم العملية حسب الوقت المتبقي، وإلا تأجل كل هذا العذاب إلى الاثنين (يوم سفره الموعود). حطه الطاكسي أمام الكوميسارية. صعد الدرجات المؤدية للمدخل. سأل أحد أفراد القوات المساعدة الذي دله على المكتب المتخصص في مثل هذه النازلات. ولج بابه الوحيدة التي كانت مفتوحة آنذاك. توقف عند عتبتها ينتظر الإذن بالدخول. ولم يؤذن له حتى أنهى الشرطي المسؤول حديثه مع شرطي آخر بزيه الرسمي. – «طلبك»، صرح الشرطي وهو ينظر إلى ساعته. تقدم عبر السلاليم الإسمنتية الضيقة وأجاب: – حجزت سيارتي وأريد استعادتها، أرجوك ساعدني (حكى له ظروفه..) – أين ؟ ومتى؟ – المكان: شارع الحسن الأول. الساعة: العاشرة والنصف صباحا. تفحص كناشا وأجاب: – لا توجد بيانات لسيارة حجزت حسب المعلومات التي ذكرت. يجب انتظار الشرطي المسؤول عن أخذ سيارتك. ربما كانت في وضعية غير نظامية. لم يتمالك نفسه وكتم ضحكة كادت أن تبعثر كل أوراقه. بدا الأمر هزليا فردد كاتما صوته: «الشارع ذاته غير نظامي، بلا تشوير، وبلا رصيف بالجودة المطلوبة، وبلا حماية، وبلا حراس…» – هات الورقة الرمادية ومبلغ المخالفة المحدد في ثلاثمائة درهم. سأتفاعل إيجابيا مع حالتك، وأحرر بيانات التسليم بعد أن أتصل عن طريق هاتفي الخاص بالشرطي المداوم في تلك الجهة. عن طريق هاتفي الخاص.. «كررها مرة أخرى». عد بعد مضي خمسة عشر دقيقة المتبقية لوقت العمل. صرح مزمجرا.. نفذ المطلوب.. شكره وانصرف. لم يشأ أن يبتعد كثيرا ووقف ينتظر في زاوية من الطابق السفلي لبناية تثير الخوف والهلع لمن يلجها من الدراويش أمثاله.. مرت الربع ساعة بشكل سريع أدهشه فيها ما رآه في هذا المخفر؛ شكاوي وبلاوي تبرز بشكل متكرر من مختلف الشرائح الاجتماعية. جناح المداومة لا يهدأ أبدا، سيارة الأمن في سباق مع الزمن ترافق المعتدين والمعتدى عليهم لتسجيل الشكاوي، أو للحجز الاحتياطي. مواطنون اكفهرت ملامحهم من كثرة الانتظار، آلام وآهات، وجوه صفراء يطفو من مسامها الخوف والحيرة. رجال بزي انضباطي موحد لا يكترثون، ولا يتألمون، ولا يثقون.. وظفوا ليدونوا ما تنطق بها الشفاه المرتعشة.. تقطر دما على صفحاتهم الباهتة.. استفاق من هذه الكوابيس الحية لما استدار عن طريق الصدفة ورأى يدا تشير إليه وتناديه. استجمع قواه وتوجه صوب المنادي الذي لم يكن غير الشرطي الذي طلب منه الانتظار. صرح بدون مقدمات: – أظن بأن صاحبنا لن يحضر. على أية حال، لقد اتصلت به بواسطة هاتفي الشخصي، نعم هاتفي الشخصي.. يبدو أن معلوماتك متطابقة لتصريحه. لا بأس إذن، سأهتم بالأمر. تفضل، هذه أوراقك ورخصة تسليم سيارتك من المحجز. كرر شكره وامتنانه، وانطلق لتوه إلى الفوريان. طرق بابه الموصدة على الدوام. نفس الشخص ظهر أمامه. أخذ رخصة السحب وطلب منه أداء مبلغ، قال بأنه واجب الإقامة في ضيافة «الفوريان» ثم أمره بسحب السيارة في انتظار ملء رخصة المغادرة؛ إنها ضريبة ثلاثية الأبعاد، تؤدى بدءا من السلطات الأمنية التي تحرر المخالفة، مرورا بواجب «الديبناج»، وانتهاء برسم الإقامة الجبرية التي تحددها عدد ليالي المبيت. تساءل مع نفسه وهو يتابع بعينيه شرطيا كان يجر سيارة في وضع مأساوي فوق الأنقاض. السيارة المسكينة تنتفض، تعلو وتنخفض، تتدحرج عجلاتها فوق أكوام التربة والحجارة، وكأنها أصيبت بالصرع. لعله الشخص الذي قسى على سيارته وجرجرها بنفس القسوة واللامبالاة إلى هذا المكان الموحش. رمقه بمقت. سحب سيارته بعصبية وبصعوبة بالغة من الحفرة الضيقة التي وضعت فيها بدون موجه ولا مراقب: «إذا كان الفوريان هذا معتقلا للسيارات والدراجات فلماذا يؤدي المواطن واجب نقل سيارته أو دراجته قسرا إلى هذا المكان، وإلا سيصبح من ارتكب مخالفة وجيء به إلى السجن يكون مجبرا هو الآخر على أداء ثمن نقله في دورية للأمن الوطني..» أتم سيره مثقلا بهمومه وأشجانه مخترقا الباب الحديدية، وكأنه تحرر من حكم بالأعمال الشاقة.. حمد الله وشكره لكونه تمكن من إخراج سيارته في هذا الوقت المناسب، يمنحه فرصة الاستعداد بأريحية للسفر. وضع آهاته ومعاناته وهمومه جانبا، ووهب نفسه لقدره أملا في تغيير الأجواء، والنمطية، وعلاج الجراح التي ترسبت لدهر من الزمن عندما يحل ضيفا في ضفة لا يفصلها عن موطنه إلا مضيق يعتبر من أهم المضائق في العالم. مضيق جبل طارق؛ الممر البحري الوحيد الذي يربط البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي. بدأت تتراءى له هذه الضفة الشمالية بكل أبهتها وزخرفتها وبريقها ورقيها. كان كل شيء مرتبا للسفر هو وزوجته عبر طائرة «راينير RYANAIR» الاسبانية. حلقت من مطار ابن بطوطة في الوقت المحدد. وشقت بهيكلها الأسطواني الأملس سماء طنجة لتحط بعد مضي خمسة وأربعين دقيقة فقط في مطار العاصمة الاسبانية «باراخاص». بدا السرور على الابن «أنس» الذي كان في انتظارهما مرفوقا بمولوده ذي الأحد عشر ربيعا. تلاشت حينها الهموم والمتاعب. صفت الذاكرة. لم يستطع أن ينتظر أكثر فارتمى على حفيده.. ضمه.. قبله.. قبل أن تنتزعه منه زوجته التي انغمست هي الأخرى في تقبيله واحتضانه بشكل هستيري. كان الصبي مندهشا في بداية الأمر، لم يألف مثل هذه الزيارات في بلاد الغربة. عيناه تنتقلان بين وجهين ليسا بغريبين عنه، تدققان النظر فيهما قبل أن تنفرج أسارير وجهه حينما ساعفته ذاكرته الصغيرة أخيرا، واستطاع اكتشاف ملامحهما. فكرر ابتسامته المتميزة التي ألفها الزائران عندما قضى ما يناهز شهرا في ضيافتهما بالمغرب رفقة أبويه. وبهذه اللقطة الرومانسية البديعة، شقت بهما سيارة الابن أنس طرقات وشوارع مدينة بحجم مدريد. مدينة ضخمة، مترامية الأطراف، واسعة، نابضة بالحياة، تعج بالحركة. شوارعها الفسيحة وطرقاتها المعبدة مؤثثة بلوحات إلكترونية وأخرى ثابتة تسهل عملية السير والمرور بعلاماتها التشويرية الواضحة وبمصطلحات تنبيهية قصيرة تذكر السائقين بالسرعة المطلوبة، وباحتمال وجود اكتظاظ يمتد لمسافة معينة وينتهي خلال مدة معينة.. كما ينذر بسوء أحوال الطقس. طرقات وشوارع هذه المدينة مملوءة على الدوام بالسيارات والشاحنات والحافلات. ورغم كثرتها فإن السياقة تبدو سلسة، طبيعية؛ لا عتاب بين السائقين، ولا استماتة في تجاوز بعضهم البعض، ولا اللجوء إلى المكر والخداع للوصول قبل الآخرين.. لا سب، ولا صياح، ولا تسابق، ولا إفراط في السرعة، ولا ذلك الضغط المستمر على المنبه.. القانون فوق الجميع، يطبق على الجميع؛ لا فرق في ذلك بين الغني والفقير، ولا بين الحاكم ومن هم أدنى منه. الكل سواسية، والويل لمن يسمو عليه ويتجاهله!!! كان منجذبا يعد مزايا ما يتراءى له من خلال نافذة السيارة، يضع من حين لآخر مقارنة تبدو غير متكافئة مع ما هو موجود في وطنه. المسافة بعيدة ولا مجال للمقارنة. ردد مع نفسه: – لماذا نقلد هذه الدول في أخذ كلما هو تافه وبعيد كل البعد عن ثقافتنا وتقاليدنا وأخلاقنا وشيمنا ومرجعيتنا، ونختلف معهم إذا تعلق الأمر بالانضباط والسلوك واحترام القانون؟. تنبه للوقوف المتكرر للسيارة التي تنقلهما ولصوت ابنه «أنس» وهو يعلمهما بدخول الحي الذي يقطن»فوينلابرادا Fuenlabrada». قال له: «لماذا توقفت؟ ولمن؟ استمر في السير فلا أحد يوجد على الرصيف..؟» ابتسم الابن وأجاب: – إنك لست في البلد يا أبي.. هناك راجلون على وشك عبور الطريق. ألا ترى الخطوط البيضاء الرابطة بين الرصيفين؟ ليس في هذا البلد من يقطع الطريق أو الشارع بشكل عشوائي، إنهم ملتزمون باحترام القوانين بشكل تام. – لكن لا توجد إشارات ضوئية ولا علامة قف في هذا الممر الضيق.. – هنا يختبر الإنسان في مواطنته ومدى احترامه للقانون، وإن زاغ فلا مفر له من العقاب الذي ينفذ على الجميع وبدون استثناء، حيث لا تنفع الوسائط، ولا النفوذ، ولا المال.. أفهمت؟؟؟ التزم الصمت. داعب الصبي الذي يبدو عليه الانشراح بتواجد الجد والجدة. أخذه من بين ذراعي زوجته عندما توقفت بهما السيارة في مراب خاص لقاطني شارع بيتهوفن الأنيق ودلفا من باب عمارة نظيفة إلى شقة أسرة الابن في الطابق الثاني. أشياء كثيرة تشد الزائر لهذا الحي وهو من ضمنهم؛ شوارع نظيفة مؤثثة بنافورات متعددة الأشكال تتدفق ماء زلالا، فضاءات خضراء وحدائق نضرة، مؤسسات تعليمية من التعليم الأولي إلى العالي، مركبات ثقافية، مستشفى وصيدليات، قمامات مفيأة حسب طبيعة ونوع الأزبال تجمع وتعالج وتتحول إلى منتجات نافعة، أماكن خاصة للعب الأطفال، أسواق دورية يخصص لها شارع كامل، وفق شروط وأوقات معينة ومنظمة بنظام داخلي، يستفيد منه الباعة المتجولون، عكس ما نراه في أغلب شوارعنا وطرقنا من فوضى عارمة في هذا الصنف من التجارة العشوائية بدون حسيب ولا رقيب.. ممرات وطرقات آمنة، بنايات متراصة ذات تصميم وارتفاع موحد، متاجر تفتح أبوبها وتغلق في وقت واحد، سيارات الأجرة تأتيك عند الطلب ولا يزاحمك فيها شخص آخر أو شخصان بإيعاز من السائق كما يحدث عندنا، قطارات سريعة وكأنها خلية نحل لا تكف عن الحركة تسافر بك طولا وعرضا عبر أنفاق تحت الأرض، حب العمل كيفما كانت درجته والتفاني فيه، احترام خصوصيات الغير كيفما كان شكله ولونه وانتماؤه، فقط خذ بنصيحة «احترم تحترم». خرج ذات يوم مع أنس لقضاء بعض الحاجيات. ركن الابن السيارة على جانب أحد الطرقات الفرعية. قضيا مأربهما وعادا بعد مضي ما يناهز ثلاثين دقيقة. تبخرت السيارة ولم يعد لها وجود في المكان الذي وضعت فيه!.. أهو بوعميرة من اختطفها؟ صرح بشكل عفوي!.. – ومن هو بوعميرة هذا؟ – إنه طائر مغربي كاسر ينقض على فريسته بدون رحمة، وقد شبه بطاقم الديبناج هناك في بلدك الأصلي. انبعثت من أعماقه ضحكات هستيرية مسترسلة وهو يردد: – كم هو لطيف هذا الاسم؟ لأول مرة أسمع به. طيب، لديكم «بوعميرة».. وفي هذا البلد لديهم ما يمكن وصفه «بالحمام الزاجل».. إنه طائر وديع، عكس طائركم، يحمل ما يؤمر به بلطف وكياسة وينقل حمولته بكل عناية ورفق حتى يصل بها إلى المكان المنشود.. انتظر من الابن أن يزبد ويرغد ويستنكر ويطلب النجدة كما حدث معه عندما فقد سيارته في موطنه. لكنه كان هادئا، متماسكا، واثقا من نفسه وهو يلتقط ورقة ثبتت بشكل جلي في جزء بارز من الرصيف حيث كانت السيارة مركونة. تفحصه.. ابتسم وهو يردد: «لقد ارتكبت مخالفة.. لم أنتبه ليافطة تنذر بعدم السماح لتوقف السيارات على امتداد هذا الرصيف في أوقات محددة تعطى فيها الأولوية للتسوق. علينا إجراء بعض الترتيبات الروتينية لاسترجاعها». سبقه فضوله وقال: – ماذا يوجد في تلك الورقة؟ – بيانات تتعلق بالسيارة التي كانت في وضعية غير نظامية بعد أن التقطتها أعين لدورية الشرطة، وحملها طائرهم الزاجل إلى الفوريان؛ وهو شيء معمول به هنا كنوع من التوجيه لصاحبها حتى يكون على بينة من مصير سيارته؛ تعرف هذه البطاقة بمالكها، ونوع المخالفة، والوقت التي سحبت فيه، واسم الفوريان الذي أخذت إليه.. كتم حسرته ولم يشأ البوح بما حدث له في بلده مع بوعميرة وطاقمه.. مع الفوريان وحارسه.. مع، ومع.. كرر مع نفسه نفس السؤال الذي يقلقه كما يقلق غيره من أبناء وطنه: «لماذا لا نأخذ من هؤلاء القوم مثل هذه الأشياء الجميلة، فرغم بساطتها إلا أنها تعد نموذجا لتكريس المبادئ الأساسية في التربية على المواطنة وحقوق الإنسان؛ من عز، وكرامة، وعدل، ومساواة.. فهل قدر لنا أن نكون معزولين عن هذه الحقوق الكونية ولو في أدنى مستوياتها؟» استفاق من هذه الأفكار المربكة على صوت محرك سيارة توقفت بالقرب منهما. كانت لصديق أنس قدم للمساعدة. امتطياها وبدأت رحلة البحث عن المفقودة حسب تصوره، لكن فرضيته لم تصب، والعملية برمتها انتهت بسلاسة ولم تتطلب الكثير من الجهد والعناء.. الأمور هنا تختلف كثيرا مما هو عليه في الوطن؛ شباك واحد وأداء واحد وكل شيء واضح وشفاف، مبني على احترام الحقوق والواجبات.. إن أكثر ما أدهشه في هذه العملية هو المحجز عندما ولجه رفقة الابن وصديقه. فضاء رحب يستقبل السيارات الوافدة؛ شاسع، متكامل، معد بشكل مضبوط ومتوفر لشروط الاستقبال. ذو بنية صلبة، غير مكتظ بالمحجوزات، يراعي خصوصيات من يفد إليه سواء تعلق الأمر بالسيارات التي يتكلف بإيصالها الطاقم الوديع «حمام الزاجل». أو بأصحابها الذين يأتون وهم مطمئنين على ممتلكاهم. أيقظه أنس من هذه التأملات وهو يخاطبنه ساخرا: «هنا تستقبل السيارات بعناية وتوضع في مكان آمن بدون «تجرجير» ولا تعسف ولا تخضع لذلك الإكراه البدني، حيث تترك تحت أشعة الشمس الحارقة وتطاير الغبار والأتربة، معرضة للخدش والضرب كما هو عليه الحال عندكم..» نعم، بالتأكيد! المرآب يبدو متكاملا، نظيفا، محميا من سوء أحوال الطقس، ومن اللصوص والمعتدين.. مسقفا ومحروسا، منتظما ومنظما. يستقبل السيارات المخالفة لقانون السير، فترتب وتصنف حسب نوعها وحجمها، في انتظار مالكها..» أجابه بتلقائية. كان أحيانا يتيه بين المعالم الثقافية والعمرانية والطبيعية لهذا الحي الجميل، ويضع مقارنة بين ما يزخر به من منشآت على اختلاف أنواعها، تلبي الرغبات والحاجيات الضرورية والتكميلية والترفيهية للساكنة، وتوفر لها سبل العيش الهني.. بالمقابل تتضاءل بشكل رهيب مثل هذه المنشآت في معظم الأحياء المحاطة بالمدينة التي يقطن؛ لا شيء ذا قيمة يذكر؛ لا شيء أعد للأطفال لكي يمارسوا حقهم الطبيعي في اللعب خارج أسوار البيت.. لا شيء أعد للشباب واليافعين لمساعدهم على الارتقاء بالحياة نحو الأفضل والابتعاد عن العنف والمحرمات.. لا شيء أعد للمسنين والمتقاعدين والمرضى، يموت معظمهم في صمت وعزلة.. لا شيء أعد لإخراج الساكنة من الجمود والخمول واليأس.. أحياء تنبت كالفطر بدروب ضيقة. وأزقة مهملة مكتظة عن آخرها بمساكن هشة، صامدة بقدرة قادر، متلاصقة تستنجد بعضها البعض مخافة أن تنهار وتهوى بثقلها على الأرض. لا وجود للأشجار، ولا للأزهار، ولا للعشب الأخضر تقلل من تلوث الهواء. ولذلك فلا يمكن لهذه البيئة أن تنتج إلا وجوها متجهمة، عبوسة، ناقمة على كل شيء، ولا يهمها أي شيء. تطلق شرارة التذمر، والحقد، والاعتداء، والسطو، وأحيانا تصل المعاناة إلى حد الانتحار بإحراق الذات، أو القتل المجاني، أو الاشتباكات لأتفه الأسباب.. قضى في هذا الحي وفي غيره من بعض الأحياء المتعددة التي تزخر بها مدينة مدريد الإسبانية مدة تكفي لإثارة أسئلة حارقة عن واقع أحيائنا ومددنا، وردد مع نفسه سؤالا لم يستطع عقله فك رموزه: «من المسؤول عن تردي أوضاعنا؟ هل يعود الأمر لمن توالوا على تسيير شؤون البلد..؟ للمنتخبين..؟ للسياسيين..؟ للمواطنين..؟ لمن..؟؟» أسئلة معلقة وستبقى دوما معلقة ما دام الصراع يزداد احتداما على السلطة. على ضرب التعليم والثقافة في العمق. على تغييب التربية الإنسانية الخلاقة. على تردي السلوك والأخلاق. على سوء التسيير والتدبير. على تحقيق الرغبات بالعنف؛ هذا العنف الذي يفرض ويتحول إلى قانون لا بد أن يطاع وكل من يخل به يعاقب بعنف أكبر. لماذا يشعر المرء بالأمان في بلد يرتب في ذيل الدول الأوروبية، وبالقلق في بلده. بتلمس الصدق هناك، والكذب هنا في بلده. بنبذ ومحاربة الغش والفساد هناك، وإباحته هنا في بلده. باحترام إرادة الناخبين هناك، وإفسادها هنا في بلده. بالمساواة هناك، والظلم والشطط في استعمال السلطة هنا في بلده. بتشجيع المبادرات والتحفيز هناك، وعرقلتها هنا في بلده. بتطبيق شعارات المنتخبين والسياسيين على أرض الواقع هناك، وإقبارها هنا في بلده.. بكرامة الفرد هناك، والإساءة إليه هنا في بلده. بتعويد التلاميذ على المنافسة الشريفة وتدريس برامج تعليمية متقدمة وناجعة هناك، وتعويدهم على الغش في الامتحانات والغش في البرامج التعليمية والغش في بنية المؤسسة والأقسام هنا في بلده.. بتوفير شروط الحياة الكريمة هناك، وسلبها هنا في بلده.. بالتضامن والإيثار والتسامح هناك، والعدوانية والتفرقة والكراهية هنا في بلده.. فماذا ننتظر بعد كل هذا..؟ اختلط عليه الأمر ولم يعد يفهم أي شيء. ومع ذلك فقد أدرك مستنتجا بأن الشيء المفقود في هذه المعادلة ربما يعود للفكر؛ هناك يسمح لهذا الفكر أن يتحرر، ويتطور، وينمو، ليبلغ أقصى مراتب الخلق والإنتاج والإبداع. بينما يبقى الفكر هنا فكرا مكبلا سجينا.. سجين التقاليد.. سجين الطابوهات.. سجين الأعراف.. لا يسمح له بالتطور ولا بحرية الاختيار.. ولا بحرية الرأي.. ولا بحرية الموقف.. فكيف يمكن لهذا الفكر السجين أن يتطور ويخطو خطوة واحدة إلى الأمام؟؟ استحوذت على مخيلته كل هذه المتناقضات بين عالمين لا يفرقهما إلا مضيق صغير وهو يعبره على متن عبارة تتنقل بين ضفتين، عائدا إلى الوطن وذاكرته قد تكيفت نوعا ما مع جزء من نمط الحياة هناك. لا زال يحلم بحياة فاضلة في وطن فاضل فيه احترام لقانون السير، احترام للإنسان صغر شأنه أم كبر، احترام للحريات، احترام للديمقراطية كما هي متعارف عليها عالميا.. تلاشىت كل هذه الأمنيات والأحلام لما وطئت قدماه تربة هذه الأرض الطيبة؛ لاشيء تغير. تغيير توقف عند إصلاح وترميم الشوارع لكنه لم يشمل الفكر الذي يعتبر المحرك الأساسي للأفعال والتصرفات والتطور والتقدم.. وجد صعوبة في التأقلم من جديد مع صنف ابتعد كثيرا عن ما ورد في الآية الكريمة: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر». فهل يوجد منكر أكبر من سلب حرية الفرد، وشل فكره، وعقله، وتنويمه مغناطسيا بالشعارات الطنانة والخطابات الرنانة بدون فائدة؟؟؟ وهو يهم بإيقاف طاكسي أجرة رفقة زوجته، اقتنصت عيناه صدفة طاقم بوعميرة وهو ينقض بدون رحمة على إحدى الفرائس، يكبلها بأغلاله، يرفعها بعنف ويجرجرها إلى…. * رجل تربية وتعليم كاتب وفاعل جمعوي