غادرنا إلى دار الخلود الأدبي الروائي السوري حنا مينة ، عمر يناهز 94 عاما، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض ليودع البحر ميدانا للصراعات ، كما يقول واكيم أستور في تقديمه لرواية «الدقل»، وليودع الحارة الشعبية في مدينة اللاذقية ، وتنزوي أبطال أعماله من المغامرين والصيادين وبائعات الهوى وغيهم ممن يعيشون على الهامش بمناسبة هذا الرحيل الذي لا يريده الراحل مبكيا وحزينا ، كم مرة أحببت هذا الرجل الشجاع؟ ما الذي بقي في ذاكرتك منه ومن رواياته ؟ الناقد المغربي د. عبدالمالك اشهبون: تواضع حنا مينة واستئناسه بالرأي الآخر من يقرأ روايات حنا مينه، سيجد أنه كان دائما شديد الانشغال بصنعة الكتابة الروائية، حتى ولو كان التوجه الإيديولوجي حاضرا بقوة في رواياته، ومن بين أهم العوامل التي ارتقت بأعماله الروائية لكي تغدو مادة أدبية لها قراؤها ومحبوها والمتابعون لها على طول الوطن العربي من المحيط إلى الخليج نذكر العوامل التالية: * إيمانه القوي بزمن الرواية ضدا على من كان يحتقرها:في هذا الخضم، يمكن استحضار المقولة الجوهرية الشهيرة لنجيب محفوظ: «الرواية هي شعر الدنيا الحديثة»، وكأننا بمحفوظ يرد في هذا الخضم السجالي لكن احتفاء حنا مينه بحال الرواية العربية والتفاؤل بمستقبلها وصل إلى حد اعتبارها «ديوان للعرب» بدل من الشعر. *حرص الروائي على إطلاع مجموعة من رفاقه على مسودة الرواية: درج حنا مينه على عرض مسودات رواياته على أصدقائه ليبدوا وجهات نظرهم في أمرها. فمنهم من كان رحيماً عليه في نقده، والبعض الآخر كان قاسياً معه. حسن إنصات حنا مينه لكل الآراء، وانفتاح صدره لكل المقترحات، واستعداده، بالتالي، للاستئناس برأي الآخرين قبل استصدار العمل الأدبي في حلته النهائية. * تواضع الروائي واستئناسه بالرأي الآخر: يمكن أن نلاحظ ذلك بقوة في المقدمات التي كتبت لرواياته، ومن أهم تلك المقدمات نذكر: مقدمة رواية «المصابيح الزرق» التي دبجها شوقي بغدادي، ومقدمة نجاح العطار، لرواية: «الشمس في يوم غائم» لحنا مينه، ومقدمة واكيم أستور، لرواية:»الدّقل». فهذه المقدمات، لا تخلو من نقد صريح تارة، وضمني تارة أخرى لرواياته، الناقدة والروائية المصرية هويدا صالح: صراع المتن والهامش قرأت لحنا مينه أكثر من عمل، مثل : المصابيح الزرق، والثلج يأتي من النافذة، والياطر، ومن خلال حصيلة قراءاتي لتلك الأعمال توقفت أمام الشخصية المهمشة التي دأب مينه على التقاطها من الحياة، ومحاولة إدخالها لفضاءاته الروائية المختلفة، وما لفت نظري رؤيته للشخصية المهمشة أو الشخصية المستلبة؛ لأن هذا مجال اشتغالي النقدي في كتابي»الهامش الاجتماعي في الرواية». تمكن مينه من تصوير الشخصيات المهمشة بدقة فارقة، ليس فقط تصويرها من الخارج، من حيث الشكل والملبس، بل تعمق في دواخل الشخصيات، واستبطنها، ورصد صراعها ضد الآخر، والآخر هنا لا يمثل المستعمر ولا السلطة السياسية، بل كل ما هو خارج الذات. أفلح في تصوير صراعها النفسي ضد ما هو خارجها، كما أفلح في رصد صراعها الاقتصادي المنبني على صراع اجتماعي حاد وواضح. إن فضاءات مينه الروائية هي تجلٍ حقيقي للصراع الاجتماعي والنضال السياسي ومساءلة منظومة القيم التي تحكم مجتمعاتنا العربية، بل هي كتابة تراهن على توثيق التاريخ الاجتماعي لسورية بتعدد الزمكانية التي يسعى مينه إلى أن يكتبها، منوعا ما بين القرية والمدينة والغابة أو البحر، ورغم تعدد الكرونوتوب إلا أنه يكتب سيرة الإنسان في المكان والزمان والتاريخ الاجتماعي لسورية، بتعدد مكوناتها الثقافية وأبطالها الذين يمثلون صراع المتن مع الهامش. تتعدّد شخصيات الهامش التي يرصدها مينه بتعدد فضاءاته الروائية، من قرية ومدينة، بر وبحر، شرق وغرب، وتتغير مواصفات أبطاله التي يجمعها وصف الهامش، لكن المكان يسهم في تشكيل وعيها ورؤيتها للعالم، فالقرية بعالمها الضيق الذي تحكمه قوانين اجتماعية مغايرة لمجتمع المدينة، ومع ذلك يجمعهما معا فكرة التهميش، فمدن مينه التي يصورها هي مدن تتسم بالهامشية، فدوما يختار الأحياء الشعبية التي هي أقرب لعالم القرية منها لعالم المدينة بمعناها الحداثي، ففي الأحياء الشعبية في المدن ثمة فقراء ومهمشون أيضا يسيطر عليهم رأسماليون وإقطاعيون يستغلونهم ويتحكمون في مصائرهم. القاص والناقد أمين دراوشة: رحيل روائي الناس البسطاء والتمرد لا ريب إن الروائي العملاق حنا مينا قد فرض اسمه كأحد أقوى وأعمق الروائيين العرب على الساحة الثقافية العربية، فكتاباته أثرت بالكثير من الكتّاب والقراء، واستطاع من خلال كتاباته المبدعه أن يزرع بذور الرواية العربية المكتملة فنيا والتي تنافس بفنياتها وثيماتها الروايات العالمية. وقف الروائي في صف الناس البسطاء، ووصف حياتهم بدقة متناهية، وصراعاتهم مع القدر والظلم والقهر. وامتازت شخصياته بالقوة والتمرد على واقع الحياة المزري وعلى استبداد السلطة وظلمها. إن ما جعل كتاباته تنفد إلى قلوب القراء إنه ضمّنها سيرته الذاتية المليئة بالصعوبات والتحديات، وكان للبحر الذي يمثل ديناميكية الحياة والموت بهدوئه وصخبه دورا في حياته والذي انعكس في كتاباته حتى لقبه بعض النقاد بروائي البحر، البحر الذي بلل كل كتباته بموجه الصاخب كما يقول. ومن الشهادات بحقه، ما قاله الناقد صلاح فضل بأن حنا مينا حطم بعنفوانه «قوانين الزيف والنفاق في المجتمع ليقدم أفدح سيرة ذاتية عرفتها الرواية العربية، وأحفلها بالصدق الجارح والثراء الفكري في التعبير عن الفقر المادي». هو كاتب واقعي إذن، ولكنه رسم الواقع برومانسية، وكما يقول: أنا «واقعي على سن الرمح». تمكّن الروائي من الأدوات الفنية، وامتلك رؤية إنسانية عظيمة مما جعل منه روائيا جديرا بالمحبة والتقدير. عاش حنا مينا في قلب العاصفة حاملا مصباحه الأزرق حتى سقط كبطله فارس…وهكذا تكون نهاية الكاتب الشجاع، القاص السعودي طاهر الزارعي: حنا مينا .. إرث خالد في قلوب قرائه حنا مينا .. ظاهرة ثقافية ليست خاصة بسوريا فقط وإنما بالوطن العربي , لما يمتلكه من إرث ثقافي عبر به حدود الوطن وأصبحت رواياته وكتبه تعج بها مكتباتنا ولا تكاد تخلو أي مكتبة من مؤلفاته . إنه كاتب بحجم مكتبات العالم .. كاتب يقرؤه الآخرون ليقتفوا أثره ويسيروا على نهجه وفكره . من مؤسسي فن الرواية وأعماله لامست الشاشة واستمتعنا بها . نعم إن موته هو نهاية رجل شجاع , شجاع بقلمه وفكره , وبما يختزنه من ثقافة وحب لما يكتبه . يعتز بهويته العربية وما يكتبه حقيقة يعد نوعيا ,يستمد مواضيع رواياته من الرجولة والشجاعة والنخوة والإقدام والحب والبحر ولا ينسى وطنه العربي سوريا الذي أحبه بشكل كبير . قرأت له بعض الروايات التي يجعل فيها البحر كائنا يمده بالسحر والجمال . مَن ينسى روايات ك» حكاية بحار , نهاية رجل شجاع , الثلج يأتي من النافذة , بقايا صور . روايات تؤثث لعالَم روائي مؤطر باللغة , والتنوع الحكائي , مليء بالشخوص المختلفة . كان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب بسوريا , ورائدا فيه , في وصيته التي وجهها لقرائه كان يوسم نفسه بالشقاء منذ ولادته حرص في وصيته بألا يذاع خبر وفاته في أية وسيلة إعلامية . أو أن يكون هناك ثمة عزاء . فحتما عزاؤه للذين خانوا وطنه « سوريا « وجعلوها نهبا للآخرين .لقد فقدنا كاتبا محترفا متواضعا يعشق قراءه ويحرص على إرضائهم , لكن إرثه المتنوع سيبقى خالدا وسيبقى في قلوبنا . الباحث والروائي التونسي فتحي بن معمّر: ماذا بقي في الذاكرة كم حنا مينة ..؟ سؤال ينزل كالطّارق على هاماتنا: «ماذا بقي في ذاكرتك من حنا مينة؟» لأنّه بالطبع لم يَحْظَ أغلبُنا بمقابلته ولا بالجلوس إليه. ولكنّنا تعرّفنا إلى الرّجل من خلال أعماله ومن خلال أبطاله وبطلاته أيضا. لم أعرف حنّا مينة قبل «الياطر» كنت في المرحلة الثانوية وبالكاد أغادر أحراش المراهقة المتقلّبة في قرية رائعة في جزيرة ساحرة لا سبيل للتّرفيه فيها أثناء العطل المدرسيّة إلا بالبحر أوالمطالعة أوممارسة كرة القدم التي ما كانت تستهويني. وكانت رواية «الياطر» من بواكير ما نشرت دار الجنوب للنشر في سلسلتها الذائعة الصيت «عيون المعاصرة» التي يشرف عليها الأستاذ الكبير وأب السّرديات التونسيّة توفيق بكّار. تلقّفنا الرواية والتهمناها أنا وبعض زملاء الدّراسة ومنها ولجت مدينة حنّا مينة الروائية فسرحت مع شخصيّاته الشّعبيّة البسيطة والمغامرة، تلك التي يجد كلّ منّا بعض منه في زاوية من زواياها أو في هاجس من هواجسها أو في مشغل من مشاغلها أو في طبقة من طبقات الشهوة والرّغبات المتراكمة فيها. نقرأ أعماله فنتعاطف مع شخصياته التي يقول عنها ليست إيجابية بالمطلق كما ليست سلبية بالمطلق، فهي من «الطروسي» في رواية «الشّراع والعاصفة» مرورا ب»زكريا المرسنلي» في «الياطر» وصولا إلى «مفيد الوحش» في رواية «نهاية رجل شجاع» دون أن ننسى «شكيبة» في «الياطر» و»رندة» في «حمامة زرقاء في السّحب» تتأرجح بين الانتصار والانكسار، تصارع لتحيا كما نصارع لنعيش ولذلك نحبّها ونشعر بحنا مينة واحدا منّا، يحيا معنا ونحيا معه، يحيا بنا ونحيا به ونسمو بأدبه البسيط الرّاقي.