«أيها السادة المحترمون، نكتب اليكم شعورا منا بمسؤوليات مُواطِنَة ومِهنية وأخلاقية وقانونية تجاه ما يحيق اليوم بالقضاء من مخاطر، ونتوجه إليكم للتعبير لكم عن تَخَوفنا وتخَوف آلاف المحامين بكل أجيالهم على مصِير أحْكامِه وقراراته التي أضْحت مُنذ سنوات تُحْرج الدولة، وتُخيف سُلطاتها وإداراتها ومؤسسَاتها لأنها تمسَح الشطط بالإلغاء وتقرر المُحاسبة مقابل المسؤولية وتتصدى للاعتداءات بإقرار الحق في التعويضات للضحايا وللمتضررين. ولما كانت السلطة القضائية عامة، والقضاء الاداري بصفة خَاصة ومُتخَصصَة، هو الآلية الدستورية التي تحمي الشرعية وتُحَصن المَواقع الفردية للموظفين وتَرفع المَظالم الادارية عن المرتفقين وتضمن لهم مُمارسة حقوقهم وحُرياتهم، وبمعنى آخر، لما شَعَرت بعض أطراف السلطة أن سُلوكها وعنفها وتجاوزاتها واستفحال اعتداءاتها على سِيادة القانون، وسَلامة تطبيقه وعلى الحُريات والمُمتلكات قد بَدأ يَضعف نسبيا أمامه، قررت التصدي بأساليب أخرى ومختلفة لأحكامه ولقراراته التي يصدرها في مواجهتها. تعرفون بالعِلم واليَقين، وبِشدة الاطلاع على الحَال والأحْوال، أن خَزينة الدولة وصَناديق وِزاراتِها وشركاتها العِملاقة ومُؤسساتها المُفوضَة منها لتدبير مَرافقها، جُلها مَدِينة من جهة أولى للأحكام القضائية بالاحترام والوقار وواجب الالتزام بتنفيذ مقتضياتها، ومَدِينة من جهة ثانية للدائنين اشخَاصا ذاتية ومقاولات المُعَززة حُقُوقُهم بالأحكام، وتَعلمون مع ذلك أن حَصيلة التنفيذ جِد ضَئيلة وأن مَحاضر الامتناع عن التنفيذ تُحَرر في حقها بصُورة مستمرة، وأن بعض المستفيدين منها مُعرضون في مُمتلكاتهم وفي حُرياَتهم لكل العقوبات المقررة ماليا وبدنيا مدنيا وجنائيا وبالإفلاس مقابل ديون الدولة عليهم . إن الدستور، وانتم العَالمون بوضُوح بنُصوصه ولا حاجة لأن نستعرض بعضها عليكم، يفرض على الجميع وبدون أي استثناء احترام القضاء وأحكامه، ويَمنع أي شكل من أشكال الضغط عليه، وأن القانون يُحرم إهانة القضاء ويُجَرم عِصيان قراراته، وهذا ما كان يفرض على الدولة عِوَض إعِدَام التنفيذ وترسيم وَفاته بقانون المَالية، أن تقوم بعكس ذلك أي أن تَعمل على صِيانة مِصداقيته وتُعاقب من يمتنع عن تنفيذه سواء كان وزيرا أو متصرفا أو آمِرا بالصرف، وأن تعلن حالة الطوارئ في الادارات لتصفية الديون بأداء ما عليها دون أية شروط تعجيزية لتعطي بذلك الدرس للمواطن في معاني المواطنة. إننا اليوم نلاحظ كممارسين في مجال الدفاع والعدالة وكمواطنين قبل كل شيء، أن عدم تنفيذ الاحكام هو في الشكل مَظهر عَجز وإفلاس مالي واقتصادي، لكنه في العُمق اختيار سِياسي قائم على استراتيجية من قبل السلطة التنفيذية تستهدف من ورائه إضْعَاف السلطة الدستورية للقضاء، وقائم على مَنهجيتها للبقاء وحدَها المستفردة بالقرار والمتحكمة في ميزان القوى على باقي السلطات، وهذا السلوك السياسي من السلطة التنفيذية اختيار جِد خَطير، إذ من شأنه ومن شأن الاستسلام إليه تقويض أسس دولة القانون، وتشويه مفهوم الديمقراطية، والتشجيع على الفساد والرشوة والفتن وعلى التمرد على المؤسسات وعِصيان مُقرراتها، ويشكل في النهاية ضربة قاضية لجهاز الحِكْمة والحَكامة والتحْكيم وصَمام الأمن الحقيقي والأمان المجتمعي وهو القضاء.اليوم تفتعل السلطة التنفيذية من جديد من خلال مشروع قانون المالية المعروض على البرلمان، عذرا للالتفاف على المشروعية وعلى ما يقرره قانون المسطرة المدنية من مبادئ في مجال التنفيذ الجبري للأحكام القضائية، من خلال شرعنة التهرب والامتناع من تنفيذها، وشرعنة تحصين ممتلكات الادارة من الحجز ولو أنها لا تكتسي صبغة الأملاك العمومية، مثلما فعلت في العديد من المناسبات لفائدة مصالح الضرائب بتعديلات وتأويلات فاسدة ضاربة لمبادئ المسطرة العامة المتعلقة بالآجال وبالتبليغ وغيرها، وتَدْخُل السلطة التنفيذية من باب البرلمان لاستجلاب أصْوات ممثلي الأمة إلى جانب موقفها غير القانوني هذا، للتخلص من واجب غير قابل لأي جدل وهو واجب تنفيذ الأحكام، وتدخل كذلك للبرلمان لانتزاع الاعتراف بمشروعية قانون يخالف مبادئ المسطرة المدنية بل ويَضرب في الصميم مبادئ الدستور مثل مَبادئ المسَاواة ومنعِ التمييز وحِماية حُقوق المواطن السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحماية الأمن القانوني والاقتصادي وحمَاية الأمن القضائي لهم. عَلمَنا فِقهُ وفلسَفة القانون أن الحكم القضائي معناه « الحقيقة « التي لا يبقى مَعها وبَعدها للأطراف حق المنازعة في ما قرره وانتهى إليه، وعَطفا على ذلك لابد من التعامل بجِدية وبلبَاقة وتأدب مع كل حكم قضائي ولا يَجْمل لمن كان طَرفا فيه خصوصا الدولة والإدارة التنَكر له بعد ان يصْبح نهائيا قطعيا مُكتسبا لقوة الشيء المقضي به ، حيث يُمنع على أي مُشرع أو سلطة تنفيذية أو حكومية أو رئيس أو وزير أن يتجاوز تلك الحقيقة أو أن يتلاعب معها بِدَس إجراءات تَعْسِفُ بها وتَعصِف بمُحتواها لِتُزِيل نِهائيا آثارها. ومن هنا ترون أيها السادة ، أنه ليس لمشروع قانون المالية أية علاقة بقواعد وبمساطر التنفيذ الجبري للأحكام، فقانون المالية هو قانون خاص مالي واقتصادي لا حق له في التعرض لقواعد مسطرية مدنية مرتبطة بالنظام العام، وليس له أن يخلق إجراءات تخالف قواعد نافذة لم يتم إلغاؤها. وبلغة المسطرة فإن قانون المالية غير مختص للبت في قواعد تنفيذ أحكام القضاء، فمثل هذا الخلط والفوضى لا يمكن ان يَتصَور أَحد وقوعَه إلا في بلد متخلف لا علاقة له بدولة القانون، فهل أنتم أيها السادة تعْتقدون أن المغرب بلد متخلف لكي يقع فيه ما لا يَقبل به عَقل قانوني سليم ولا قانون منصف عادل ؟ ومَا العمل مثلا إذا ما افترضنا أن المغرب أصبح كما يحاول ذلك عضوا بالاتحاد الأوروبي فهل ستسمحون للدولة وسلطتها الحكومية بالامتناع مثلا عن تنفيذ قرار المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان ؟؟ لم نتوقع أيها السادة يوما من أيام حياتنا، أن نرى فشَل السلطة التنفيذية في تحصِين القضاء وقراراته في لحَظات من التاريخ قوية يَنتظر فيها الرأي العام استرجاع المُواطن ثقته في العدالة ومُصالحته مع القضاء، ولم تُنبِئنَا علامات التاريخ بمجيء مَرحلة يَتجَرأ فيها مشروع قانون على احتقار معاني وقيم الاحكام القضائية، وإننا لا نَعلمُ من خَطط لهذا المشروع ومن أفتَى به ومن يقف وراءه ، ومن يريد بواسطة هذا المشروع نشر الفزع وخلق البلبلة التي لا تُقَدرُ ضَراوة مَخاطرها. تكفينا أيها السادة من مُختلف مَواقع مسؤولياتكم، عرض هذه الاعتبارات لتَروا معنا إن شِئتم أن تتمَعنُوا في عَيوب مشروع قانون المالية ومادته الثامنة، وتتأملوا آثارها السيئة ومَخاطِرها البليغة اليوم وفي المستقبل، ولتتأكدوا كذلك ان العدالة أمام مَصير مَجهول، وان فلسفة الاحكام وحَمُولاتها الأخلاقية والتربوية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية تفقد يوما بعد يوم مَكانتها وصَدارتها وقوتها بسبب توجهات السلطة والإدارة وبِحسابات ضَيقة تنقصها الجدية والشفافية. إننا وغَيرنا تَحملنا ومنذ عشرات السنين عبء ما تفرضه علينا مَسؤولياتنا ومِهنتنا ودورنا كمساعدين للعدالة، وما زلنا مُعبأين من أجل ذلك بقناعة و بعزيمة وإرادة قوية مع محاميات ومحامين من كل الاعمار المهنية، كما تَحملتها من قِبَلنا أجيال من رجال ونساء الدفاع بكفاءة وصبر. ونحن اليوم نُحَملكم أنتم مسؤولية حِماية الشرعية وحقوق المواطَنة والمُواطن بما يقتضيه دَورُكم وتفرضه عليكم مَراكزكم المختلفة، كما نُحملكم نتائج التأخير أو الانتظار أو السكوت عن الجهر بضرورة وقف التعديلات المرتقبة قبل عبورها نحو مرحلة الحَسم والتصدي لها وهي التي ترمي التضييق على تنفيذ الاحكام القضائية واغتيالها كما يريدها مشروع قانون المالية بكل العداء للقضاء ولأحكامه. إننا ننادي فيكم الضمِير وقيم العدالة والنزاهة الفكرية من أجل الوقوف مع الشرعية الدستورية التي يجب ان تَبقَى للقضاء ولقراراته حِصْنا آمِنا ومَنيعا، حتى تَطمئن قلوبكم وحتى لا يُحسَب عليكم إثم معنوي للتعديل المقترح وتداعياته. نَترك للتاريخ الكلمَة الأخيرةَ والشهَادة على مواقفنا كلنا. ونتمنى لكم صَادقين كامل التوفيق في مهامكم. ولكم مِنا كل التحية والاعتبار.» المُوقعون: من رؤساء سابقين لجمعية هيئات المحامين بالمغرب: النقيب عبد الرحمان بنعمرو - النقيب محمد بن عبد الهادي القباب - النقيب عبد الرحيم الجامعي - النقيب محمد مصطفى الريسوني - النقيب ادريس شاطر - النقيب مبارك الطيب الساسي -