لعل أخطر استطلاع رأي ودراسة قام بها أحمد الحليمي إلى حدود الساعة، هي التي يعلن فيها موت القراءة في المغرب، أو بالتدقيق، أن عمرها في بلاد المغرب الأقصى، لا يتجاوز دقيقتين اثنتين في اليوم، على أكبر تقدير. ويمكن أن نستنتج بسرعة المتشائم، أن الجزء الأخير والحديث من حضارتنا بدأ ب«اقرأ»، وسينتهي ب«ما أنا بقاريء..». وهو تعويض جناسي عن «اهضر أو تفرج». فقد بينت الأرقام، التي سارعنا إلى قراءتها، كما نقرأ التكبير على المحتضر، أن المغاربة يقضون أمام التلفزيون أكثر مما يقضون مع القراءة، في حضرة الكتاب أو في حضرة الجرائد. ولا نعرف بأن المشاهدات التي يدمنها «نحن» الجماعي، ذات صلة بالمعنى العام للتلفزيون كوسيلة ترفيه وتثقيف وتوعية سياسية، بل نميل إلى القول بأن الترفيه والوعود بالربح والرياضة تنال القسط الأوفر. وقد أضافت الوكالة الوطنية للاتصالات إلى ماقام به أحمد الحليمي معطيات جديدة تعطينا المشهد كاملا. فقد كشفت في آخر تقرير لها أننا، أي المشتركين في خدمة الانترنت، وصلنا إلى 8,5 ملايين مشترك إلى غاية متم شتنبر 2014، بمعدل يصل إلى 25,6 في المائة، لتحقق حظيرة الأنترنت نموا فصليا يقدر ب9 في المائة، ونموا سنويا يقدر ب62,2 في المائة. وأوضحت الوكالة، في نشرة إخبارية حول سوق الاتصالات بالمغرب خلال الفصل الثالث من سنة 2014، أن الفضل في هذا النمو يرجع إلى التطور الذي تعرفه حظيرة الجيل الثالث من الأنترنت، والتي أصبحت تستحوذ على 88,9 في المائة من الحظيرة الإجمالية للأنترنت بعدد مشتركين يناهز 7,55 ملايين، مسجلا بذلك نسبة نمو سنوية تقدر ب70,5 في المائة، وفصلية تقدر ب9,9 في المائة، بينما سجلت حظيرة خط الانترنت الأرضي «أ دي إيس إل» نموا سنويا يقدر ب 19,6 في المائة وفصليا يقدر ب2,2 في المائة، وبلغت حصتها الإجمالية في حظيرة الإنترنت 11,1 في المائة. وبالرغم من الفكرة الشائعة بأن الانترنيت عوض الناس، فالظاهر أن الارتفاع في استعمال الانترنيت لا تأثير له على القراءة. ماذا يبحث المغاربة في الانترنيت، هذا السؤال الذي يجب أن نبحث فيه ونقيم له استطلاعا خاصا، فلا معنى أن يرتفع عدد زوار الأنترنيت والمشتركين فيه، ولا ترتفع القراءة؟ نفس الوكالة كشفت لنا أن 44 مليون مساهم في بورطابل مع استعمال فردي يصل إلى 119 دقيقة عند نهاية شتنبر 2014 . وفي المقابل كشفت أرقامها أن مجموع ما نقضيه كمغاربة في أو مع البورطابل يصل إلى 12 مليار دقيقة في السنة، مقابل 670 للقراءة في السنة، وهو ما يعني أننا شعب شفوي بامتياز، فنحن نقضي في الكلام أكثر مما نقضيه في القراءة.. وأننا نستعمل أفواهنا، كما تستعملها الكائنات العاجزة عن القراءة .. الحليمي قال إن لنا الوقت لكل شي: زمن للأكل، يفوق ما نأكله، وزمن للنوم، وزمن للشفويات، وزمن .. أقل للأشياء الأخرى.. زمن للتلفزيون، وكلنا مدمنون عليه. لكن زمن القراءة يتقلص حتى يعود بلا رقبة. اللهم إذا كنا «نقراو حسيفا»، وعندما سيحين الوقت لكي نقرأ، سيكون الوقت قد فات .. وكلنا نتعلل بأننا لا نملك الوقت الكافي للقراءة، في أكذوبة ساذجة محدودة تلطف غرورنا وتزكينا في عدائنا للكتاب والمكتوب عموما: والواقع أن الإنسان في كافة الأراضي يملك دوما الوقت الكافي لذلك، عندما يتم استعماله بطريقة جيدة. اللاتوازن، هو هذا الداء الكبير، وعندما نفقد الزمن فنحن نفقد أيضا الفضاء: كيف تصبح فضاءاتنا العمومية وحافلاتنا وقطاراتنا وحدائقنا جرداء وأمية أيضا، لأن الكتاب يغادرها. في توزيع الإحصائيات العادل، عادة ما تختفي حقيقة كبيرة، وهي أن الكثيرين يقرأون بدل الكثيرين: عندما نقول بأن المعدل هو دقائق معدودات، فإن «الدقايقية» يعلمون بأن هناك من يقرأ «- 60» دقيقة في اليوم ( ناقص ستين دقيقة)، وبمعنى آخر فهو يقضي حياته، ونظل مدينين له بالزمن الذي عليه أن يقرأ فيه( نسالوه الوقت ). المفارقة والفرق في الزمن التلفزيوني، وهو في الحقيقة محسوب على الزمن السمعي البصري: وهو الفرق بين الصحافة المكتوبة، والكتاب عموما، وبين التلفزيون وبين الهواتف بكل ألوانها. كاتب الرواية يعرف أيضا بأنه يكتب لقاريء عليه أن ينتظر الصدفة لكي يخترعه، لأن الزمن الروائي الذي يشتغل عليه لا يدخل في خانة الزمن المغربي! الزمن النفسي بدوره، هو الذي يتحكم في أمة تعرف تفاصيل السرير أكثر من المكتبات أو رفوف الخزانات الوطنية.. ويهمنا بالفعل أن نسأل كم من الوقت يقضيه المسؤولون في الفضاء العمومي، من كل أطرافه بين الكتب؟ ولا ننخدع عندما يجيبون بأنهم يقرأون الواقع أكثر، أو يقرأون المعادلات: فالذي لا يقرأ كتابا لمفكر أو فيلسوف، أو حتى شاعر، لا يمكنه أن يقرأ أية معادلة ممكنة: اللهم «يقرا حسيفا»!! سيكون مضيعة للزمن أن نحاول قراءة الواقع عندما لا نستطيع أن نقرأ الكتاب.. ليس صدفة أن النبؤات والرسالات كانت لها كتب، تقرأ ! وعلى كل، بعد كم من الوقت نقضيه في القراءة، علينا أن نسأل: متى نقرأ؟ بعض الأحيان يعرف الصحافيون أن هذا السؤال هو جزء مهم من القراءة نفسها: فأن تقرأ جريدة تصدر مساء يوم الاثنين، في يوم الثلاثاء على الساعة الخامسة، يعني أنك لم تقرأها بتاتا.. لأن الأشياء التي تحدثت عنها، في الواقع تكون قد انتهت، وأن جريدة الثلاثاء مساء .. في الأسواق تنتظر. إذن لقد قرأ بدون أن يقرأ! ولست متأكدا من أن المغاربة وهم يقضون زمنا أكثر في الأكل.. يأكلون جيدا!! علينا أن ننتظر دراسة أخرى تطلعنا على نوعية الأكل، ونوعية الأكل هي من صميم التطور وتحسين الحياة: فإذا كنت لا تقرأ، ثم تقضي أياما «من عدس وتولى » ، لا فرق بين الدقيقيتين وبين 3 ساعات في الأكل اليومي .. وعلى كل، دقيقتان كافيتان، ولا شك، لكي «نقرأ» الفاتحة على الرأسمال اللامادي والثقافي لأمة بكاملها.