عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي لله عنه، قال : سمعت رسول لله صلى لله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى لله ورسوله، فهجرته إلى لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما . كان النبي صلى لله عليه وسلم بمكة ، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: "وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا * وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا " الإسراء. وقال سيدنا محمد ( ص ) "المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد لا يأمن جاره بوائقه". استقبلنا جميعا السنة الهجرية 1436 والتي نريد من خلال هذا المقال تقريب فهمنا المشترك من دلالات وفلسفة الهجرة، والتي فصلت بين حقبتين وأرخت لانطلاق عهد جديد يهدف الى إصلاح وتغيير الاوضاع العامة دينيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا ....هجرة لم تنطلق لتتوقف بالمدينة المنورة بل لتضع سنة حسنة في استمرارية الهجرة في الفكر والمكان والزمان الى أن تقوم الساعة ... "...فالهجرة تعني لغة ترك شيء إلى آخر، أو الانتقال من حال إلى حال، أو من بلد إلى بلد،..." وتنضبط معانيها بطبيعة وخلفيات النية في الهجرة ...للتمييز بين الادعاء والتضحية ...كما هو موضح بالحديث الافتتاحي لهذا المقال ... ....ومن أسبابها البحث عن مكان يمكن للمهاجر أن يمارس فيه حريته الدينية وأن يعبر عن أفكاره ومعتقداته، بعيدا عن القمع والترهيب وتسلط الحكام أو المخالفين له ...وقد يضطر لها لتجنب التعرض لظلم اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي ...وقد يفر من واقعه بالانطواء واعتزال الآخرين وإخفاء ما قد يعرضه للتعسف وشطط مخالفيه أو الخصوم أو الأعداء ... وقد يختار المواجهة والتضحية فيجتهد في محاربة المناكر الدينية والسياسية والفكرية بإعمال القاعدة الشرعية التي أجملها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في : "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". ... وقد يبحث المهاجرون على أمكنة وفضاءات ودول وسياسات قد يحققون فيها وبها مستويات معيشية أفضل... والصراعات التي عرفتها البشرية بغض النظر عن طبيعتها والتي يلجأ فيها الناس للهجرة، والتي مارسها أغلب الأنبياء والصلحاء وزعماء التغيير والإصلاح، تهدف الى تحقيق آفاق أوسع تضمن وتحمي تواجد الآخرين وتحقق التغيير والاصلاح المنشود ...مما مكن ويمكن البشرية من إدراك آلية الصراع والتضاد، والقدرة على التمييز بين الخير والشر والصالح والطالح، والصادق من المنافق ...وسنسجل في تاريخ الحراك البشري وجود هجرة ووجود تهجير وإقصاء ونفي، والذي يمكن أن يصل الى إبادة كاملة أو محو حضارات وعلوم ومعارف بسبب أنها هجرت أفكار ومعارف الحكام ...قال تعالى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا للهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ للهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ للهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ للهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ للهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }(الحج: 40)... ...ولقد امتدت آثارها لتشمل حياة البشرية في العديد من الحقب والمحطات المفصلية في تاريخ تطور المجتمعات ...بالارتكاز على مبادئ العدالة والحريات والمساواة وفق تطور الإدراك والمفاهيم والافكار المؤطرة لكل ذلك ... ... وحدد الشارع عندنا نوعين من الهجرة الهجرة إلى الله، والهجرة لغير لله ويوضح ذلك رسول لله صلى لله عليه وسلم بقوله : "الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى لله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة."... ....فهجر ما نهى الله عنه لا يعني فقط هجر السيئات والمفاسد المغلظة والمخففة ..بل يعني بالضرورة هجر الظلم والاساءة للناس والتضييق على حقوق الشعب ، والمساس بمكتسباته والاستهزاء والاستهتار بآرائه وأفكاره ومطالبه العامة والخاصة وهذا ما يمارسه الذين يحكمون في مخالفة لأمر الرسول ب (كف اللسان واليد)..التي يعبر عنها بالقرارات والتعاليق المسيئة ..مما يدفع الشعب والقوى الحية الى هجران الحكومة وسياساتها وهجران الخضوع لادعاءاتها التي ظاهرها الاصلاح وباطنها الأزمة والتفقير ورهن مستقبل الناس... ... إن الهجرة هي انتقال بمسيرات تسعى للبحث عن الحل الملائم لحجم الانتظارات والمتجاوب بشكل موضوعي ومنطقي مع المصلحة العامة بدل التشبث بالحلول الوهمية والترقيعية التي تزيد الأزمة تعقيدا والمؤسسات إفلاسا ... إن الهجرة الحقيقية لا يمكن أن تتم بتأويل مغرض ل « ... فإن لم يستطع فبقلبه ... «بالصمت والسكوت الذي يفسر به بعض المسؤولين هدوء الناس وعدم احتجاجهم على كل القرارات التي طالت الحقوق والقدرات الشرائية و.. برضاهم وقبولهم وإعجابهم بسياسات الحكام التي تلحق بهم الضرر الملموس ...إن التغيير بالقلب تعبير عن التأمل ومراجعة النفس وتهذيبها وإعادة تأهيلها وتقويتها للانتقال من الهجرة الباطنية.. الى الهجرة بالفعل في الواقع بشكل إيجابي ... إن الذين قدموا أموالهم وأنفسهم وأرواحهم من أجل التغيير في كل المحطات يعدون بالألاف و الذين تجهل أسماء أغلبيتهم الساحقة وهم صناع النصر والنجاح في الواقع والميادين ... في حين القادة محدودون يعرف بعضهم ويجهل أغلبهم والذين قد يكون منهم المخلص حقا ومنهم المتربصون ...إن ابطال الهجرات الذين قدموا كل التضحيات هم الأحق بالوفاء علمنا بأسمائهم أم لم نعلم... إنهم الذين ناصروا كل الانبياء.. وكل المصلحين والثوار العادلين وناضلوا من أجل الحرية والاستقلال والديموقراطية والكرامة... إن البعض اليوم بالعديد من دول العالم الثالث، وبلدنا منهم بطبيعة الحال، يجدون ويجتهدون للهجرة الى كراسي الحكم ويهجرون في نفس الآن مبادئهم وأفكارهم التي ملأوا الأوراق والأسماع بها وتغنوا ورقصوا على أنغامها انتشاء ...إنهم يهجرون كل شيء ..الشعب ..والفكر الحر ..وتضحيات المواطنين ..بل يهجرون حتى حب الناس ورعاية مصالحهم حق الرعاية ...ومن هنا نقول لكل هؤلاء إذا كان الشعب هو الضامن لنجاح كل الثورات وحركات التغيير ..فلا يجب أن يستبلد ويجعل مطية للوصول الى المناصب ..لأن ردة فعل الشعب عندما يثور فعليا ستكون كما يشهد على ذلك التاريخ قوية، لن تقبل إلا بالتغيير الحقيقي الذي يكون غالبا مكلفا على جميع المستويات وقد تمتد نتائج ذلك وآثاره لسنوات وعقود أحيانا إيجابا أو سلبا .. فليتعقل الساسة الحكام ...والذين يسعون للحكم وليكونوا في خدمة الشعب والوطن وليفكروا للفقراء والعمال والكادحين والعامة والمستضعفين قبل أن يفكروا في أي شيء آخر وخاصة الكراسي وليعملوا بجد ووفاء ... ... قال ربعيُّ بنُ عامرٍ في كلمتِه الشهيرة لرستم: «إنَّ الله ابتعثَنا لنُخرِج العبادَ مِن عبادةِ العِباد إلى عبادةِ ربِّ العِباد، ومِن جَورِ الأديان إلى عدلِ الإسلام»... فتحية لكل المناضلين والمناضلات الذين يهاجرون يوميا من أجل هذا البلد وشعبه ...بمناسبة السنة الهجرية الجديدة وبمناسبة ذكرى اختطاف واستشهاد عريس الشهداء المهدي بنبركة وبمناسبة الإضراب العام ...